دلالات زيارة “بوتين” للصين في ظل تصعيد الأزمة الأوكرانية

انقسم الإعلام الغربي حول دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الصين لحضور حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، ومناقشة تعزيز التعاون في مجال الغاز الطبيعي والتمويل، إلى فريقين، الأول ينتقد الدعم الصيني الكبير لروسيا لغزو أوكرانيا، فبكين ستستفيد من “العدوان الروسي” الذي يصرف انتباه الولايات المتحدة والغرب عن الصين، ويمنح الصين فرصة لحل قضية تايوان، خاصة وأن الأزمة الأوكرانية بالنسبة للصين وروسيا بمثابة تهديد للمصالح الحيوية التي تتمثل في وحدة وسلامة أراضيهم والسيادة الوطنية وحماية الأمن القومي. أما الفريق الثاني، فيرى “حرب أوكرانيا بمثابة محاولات روسية لتدمير الحلم الأولمبي الصيني، كأن موسكو تعيد مشهد “لصراع بين روسيا وجورجيا في يوم افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الصيفية  السابقة “في بكين.

وإذا اختلفت رؤية الفريقين، يبقى السؤال، وهو: هل العلاقات الصينية الروسية على أعتاب مرحلة جديدة من تحالف عسكري، بالتزامن مع مواصلة التصعيد الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وتدهور العلاقات الروسية الغربية؟، وكيف يرى الغرب التحالف الصيني الروسي الجديد؟، وهل يمكن لهذا التحالف أن يخدم ويعزز المفهوم الجديد ” أوراسيا الكبرى” والذي يرتبط بالمصالح الحيوية والأساسية لروسيا والصين؟.

رؤية الغرب للتحالف الصيني الروسي:

على الرغم من الصورة النمطية السائدة بين الغرب، وهي مناهضة روسيا ونظرية “التهديد الصيني” وعرقلة أي محاولات لتحالف قوي بين روسيا والصين دون سياسات الاحتواء لكلا الدولتين، إلا أن أزمة أوكرانيا فجرت انقسام بين دوائر النخب الغربية حول مدى أهمية قيام الغرب بإبعاد روسيا عن الصين، وبناء تحالف مناهض للصين عن طريق روسيا، فالفريق “المؤيد للعولمة المفرطة”، يرى أنه من الضروري ممارسة الضغط على روسيا والصين، والفريق الأخر يحذر من أن الضغط الغربي على روسيا والصين في نفس الوقت لن يؤدي إلا إلى تعزيز تعاونهما وتهديد الغرب. لذلك، يرون أنه من الضروري تغيير سياستها تجاه روسيا في أسرع وقت ممكن، وإقامة علاقات وثيقة معها، وإجبارها على الأقل باتخاذ موقف محايد تجاه الصين، أو حتى الدخول في المعسكر المناهض لها، على سبيل المثال، أكد رئيس وزراء استراليا تروس على أهمية تعزيز التحالف مع بريطانيا  للدفاع عن المصالح الحيوية والأيديولوجية للاتحاد الأوروبي، إلا أن قوى المعارضة في أستراليا انتقدت تصريحاته، وأكدت بأن الأسطول البريطاني غادر شرق آسيا منذ وقت طويل، وبأنها تجذب دول المنطقة إلى الوقوع في المشاكل لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، وأكدت على عدم ربط أستراليا بمركبة بريطانية لتقع فريسة لنيرانها.

كما يرى البعض أيضاً أن القوة البحرية الأمريكية لا تزال أقوى قوة بحرية في العالم وتعتبر نفسها سيد المحيطين الأطلسي والهادئ ، وخطط الصين لتعزيز قوتها البحرية، هي  التي ألهمت الكتل الغربية للتعامل مع ما يسمى بـ “الأعداء المحتملين”، لذلك تتركز سياسات واشنطن الآن على تعزيز التحالفات مع دول أسيا، وتحاول إثارة غضب هؤلاء “الإخوة الصغار” مثل أستراليا.

وفي ظل القمع الطويل الأمد للولايات المتحدة والدول الغربية، لا تطمح معظم دول العالم إلى مواجهة روسيا والصين فحسب، بل تأمل أيضًا في إدخال نفوذ الصين وروسيا لكبح هيمنة الغرب. وفي ظل هذه الظروف، نطرح سؤال، هو: هل يمكن استمرار وتعزيز الكتلة الغربية؟. حتى وإن كان لهذا الرأي قبول كبير وسط المراقبين، إلا أنه يمثل نسبة قليلة من الدائرة الغربية والأمريكية المناهضة بشدة لنظرية التهديد الصيني والتوسعات الروسية. ونحن نعتقد أن توجهات هذا الفريق “تغيير السياسة الغربية تجاه روسيا” غير قابل للتطبيق تمامًا. فمحاولات إقامة شراكة غير ودية ولكن طبيعية مع روسيا غير واردة، وليس فقط لأن روسيا، بعد سنوات من القمع، طورت شعورًا بعدم الثقة المطلق في الغرب (ولا ترى روسيا أي طريقة لتسهيل العلاقات مع أوروبا)، ولكن أيضًا لأن التكلفة باهظة جدًا.

فبالنظر إلى مسودة الاتفاقية الأمنية التي قدمتها روسيا، نجد أنها تتضمن  الانسحاب الغربي من أوكرانيا ومنطقة القوقاز، والتوقف عن ممارسة نفوذها على آسيا الوسطى وروسيا البيضاء، وفي الوقت نفسه التخلي عن بعض سلطة تسعير الطاقة لضمان الأمن الاقتصادي لروسيا. ولكن، هذه المتطلبات تعادل تخلي الغرب عن كل إنجازاته في التوسع بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.

وحتى لو كان من المتصور أن يتمكن الاتحاد الأوروبي من إقامة علاقات ودية مع روسيا بشكل مستقل على المدى المتوسط ​​والطويل والتنازل عن مصالحه، فإن هذا لن يؤدي إلى إضعاف العلاقات الروسية الصينية لأن روسيا بحاجة إلى  “النمو”، وليس من مصالحتها السعي إلى المواجهة مع الصين. كما أن الغرب لن يتخلى عن زحفه حول محيط روسيا، ولكن دون خوض حربا مع روسيا التي أظهرت استعدادها لذلك من قبل، ناهيك عن فشل سياسة الغرب في بيلاروسيا وكازاخستان حتى الآن في تقديم نتائج ملموسة تقوض التوسع الروسي وكبح النفوذ الاقتصادي المتزايد للصين في المنطقة، قد يجعل هذه الدول في المستقبل معزولة أكثر من الغرب، الأمر الذي سيكون له تأثير معاكس.

أوراسيا الكبرى.. تحالف محسوب:

في عام ٢٠١٦، كان بوتين قد اقترح “الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى”، والتي تعد جزءًا مهمًا من مفهوم “أوراسيا الكبرى”، وكانت تنظر الصين إلى فكرة “الأوروآسيوية” لنوع من الفرص الاقتصادية والسياسية لتعزيز علاقاتها مع أوروبا وتخفيف حدة التوتر مع الولايات المتحدة الأمريكية. وكان يُنظر إلى مشاركة الصين في مفهوم “أوراسيا الكبرى” على أنها وسيلة لربط الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بمبادرة “الحزام والطريق”، وفي ذلك الوقت، كانت النخب الصينية تحاول تجنب الصراع مع الغرب وأوضحت أن السياسة الخارجية الروسية يجب أن تكون أكثر مرونة.

ومع تواصل التصعيد الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، والتحولات في الدبلوماسية الصينية من “خفض الأضواء” إلى “دبلوماسية محارب الذئب”، والتوتر الأخير بين روسيا والغرب إلى فكرة “أوراسيا الكبرى”، وتفشى وباء التاج الجديد في الصين، واتهام الغرب للصين بأنها مصدر الوباء وانتقاد ثقافة الطعام الصيني وظهور العنصرية ضد الصينيين في الخارج، وأدراك النخب الصينية الموالية للغرب أيضًا أنه من الصعب التوصل إلى اتفاق مع الغرب، ناهيك، عن التصريحات المباشرة للولايات المتحدة بأن الصين أصبحت قوة عالمية بالفعل وستحل قريبًا محل الولايات المتحدة في المركز العالمي، وفرض عقوبات غربية على روسيا والعقوبات الاقتصادية الأمريكية على الشركات الصينية، كل هذه خلق حقائق سياسية واقتصادية جديدة تهدف إلى تعزيز العلاقات الصينية الروسية.

فخلال فترة شهر العسل مع الغرب، تبنت الصين سياسة الإبقاء على الأضواء، وعدم البحث عن تحالفات، وتجنب النظر إليها كقوة عسكرية وسياسية. وقد تكون منظمة شنغهاي للتعاون الاستثناء الوحيد، الذي تعتبرها الصين قناة للتأثير على آسيا الوسطى. إلا أنه عندما تجمع الولايات المتحدة الحلفاء الكبار والصغار لاتهام الصين ومعارضتها واستفزازها، تجد الصين نفسها مع عدد أقل بكثير من الحلفاء.

اتجاه واضح:

 روسيا لديها القدرة على أن تصبح الاتجاه الجديد للصين، فهي قوة عسكرية وسياسية، وواحدة من “الأعضاء الخمسة الدائمين”، ومورد رئيسي للطاقة، وقوة رئيسية في منطقة أوراسيا، كما أنها تواجه ضغوطًا من الغرب. تتمتع روسيا بخبرة واسعة في التعامل مع الغرب، كما نجحت روسيا في التعامل مع الهجمات الإعلامية والأيديولوجية من الغرب. ولكن، وفقًا لعقيدة ماركس، فإن البنية الفوقية بدون قاعدة اقتصادية ضعيفة. لذلك، فإن التعاون الاقتصادي الصيني مع روسيا ودول آسيا الوسطى الأخرى ليس له آثار اقتصادية فحسب، بل أيضًا آثار استراتيجية. ستواجه شركة هواوي صعوبة في دخول الأسواق الغربية، لذلك تتجه إلى المشاريع الروسية. كما تولي الشركات العملاقة الروسية التي فرض الغرب عقوبات عليها مزيدًا من الاهتمام للصين. لم تغير الحقائق الجيوسياسية الجديدة طبيعة العلاقات الصينية الروسية فحسب، بل دفعت إيران أيضًا إلى تغيير تصورها للتعاون الأوراسي.

فمنذ عام ٢٠٠٠، أثارت رغبة إيران في المشاركة في منظمة شنغهاي للتعاون والمشروع الأوراسي الكثير من الشكوك، حيث أن التوترات بين إيران والغرب في ذلك الوقت قد تسبب مشاكل للدول الأعضاء الأخرى. في ديسمبر ٢٠٢١، بدأت عملية التصديق على انضمام إيران في قمة منظمة شنغهاي للتعاون، بالإضافة إلى ذلك، تعتبر إيران قوة عظمى في الشرق الأوسط، مما يسهل دخول المشاريع الأوروبية الآسيوية إلى هذه المنطقة ذات الأهمية الجيوسياسية.

 لذلك، عزز الخلاف الصيني – الأمريكي العلاقة بين الصين وروسيا وإيران، وعزز مشروع “أوراسيا الكبرى”. وقد أكد بوتين خلال الزيارة على أن التعاون بين روسيا والصين متكافئ، ويراعي مصالح بعضهما البعض، وخالٍ من القيود السياسية والأيديولوجية وتأثيرات الماضي. كما أنه أعد بيانا مشتركا بشأن الاجتماع مع شي جين بينغ بعنوان “دخول العلاقات الدولية في عهد جديد”.

في النهاية، يمكن القول إن “أوراسيا الكبرى” تطرح سؤالا مقلقا، وهو: من سيكون البطل، الصين أم روسيا؟.. فعندما حدث الانقسام الصيني السوفيتي، كانت قضية القيادة عاملاً مهماً، وفي ذلك الوقت لم تكن الصين راضية عن كون الاتحاد السوفييتي “الأخ الأكبر”. ونتيجة لذلك، بعد وفاة ستالين، وعلى الرغم من تهديد الناتو، انقسم الحزبان الرئيسيان، وسعى كل منهما إلى تنفيذ خططه الخاصة.

 اليوم، تعد الصين قوة اقتصادية عالمية، ويتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لمقاطعة قوانغدونغ مثيله في روسيا. إن مزايا الصين وروسيا في مجالات الاستثمار والتكنولوجيا غير متكافئة. ومن ناحية أخرى، تعاونت الصين والغرب بشكل وثيق على مدى عقود ويفتقران إلى الخبرة في الصراع العسكري والمعلومات والمواجهة الدبلوماسية. حتى في التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين، عندما كانت العلاقات مع الغرب جيدة نسبيًا، لم تتردد روسيا في المواجهة ، بما في ذلك أعمالها في يوغوسلافيا عام ١٩٩٩ وجورجيا في عام ٢٠٠٨.

يأتي مفهوم “أوراسيا الكبرى” بشكل أساسي من روسيا ، والهدف هو ربط الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ، و”الحزام والطريق”، ومنظمة شنغهاي للتعاون، وغيرها، لجذب المزيد من المشاركين بما في ذلك الدول الأوروبية. ولكن، حتى الآن لم تبد الصين بعد وجهات نظرها الدقيقة حول مفهوم “أوراسيا الكبرى”، والسبب، هو أن الصين تريد معرفة مدى الأهمية التي توليها روسيا لمفهوم “أوراسيا الكبرى”؟ وما هي الدول الأخرى التي قد تدعم فكرة “أوراسيا الكبرى”؟.

د. هند المحلى سلطان

كبير باحثي المركز، رئيس برنامج الدراسات الآسيوية، باحثة زائرة بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة فودان وجامعة شنغهاي للدراسات الدولية. حاصلة على درجتي الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية تخصص شؤون صينية من جامعة شنغهاي للدراسات الدولية وجامعة شاندونغ. ترجمت العديد من الكتب والتقارير الرسمية للحكومة الصينية من اللغة الصينية إلى اللغة العربية في مجال السياسة والاقتصاد، ونشرت بعض الأبحاث الأكاديمية المتعلقة بالسياسة الخارجية للصين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى