ضوابط وقيود أمريكية.. كيف يمكن قراءة الهجوم الإسرائيلي على إيران؟

في فجر يوم السادس والعشرين من أكتوبر 2024، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي شن ضربات عسكرية على نحو عشرين هدف عسكري إيراني، دون المساس بالمنشآت النووية أو النفطية أو مقرات الحرس الثوري. ووصفت إيران الهجوم على أنه كان محدودًا، وذكرت المتحدثة باسم الحكومة الإيرانية أن الهجوم الإسرائيلي تسبب في خسائر محدودة وأضافت: “نفتخر بقدرات بلادنا الدفاعية”.

يُذكر أنه في الأول من أكتوبر الجاري، شنت إيران هجومًا بأكثر من 250 صاروخًا على إسرائيل من خلال عملية “الوعد الصادق 2″، وبعد نحو أربعة أسابيع، أعلن الجيش الإسرائيلي توجيه موجات ثلاث من القصف استغرقت نحو ثلاث ساعات، استهدفت الموجة الأولى منها مواقع أنظمة الدفاع الجوي في سوريا والعراق وفي إيران ذاتها، واستهدفت الموجتان الثانية والثالثة منشآت التخزين وأماكن إنتاج الصواريخ الباليستية والمسيرات في أماكن شملت طهران وخوزستان. (وما زالت المعلومات الخاصة بالمنشآت التي تم استهدافها عسكريًا غير مؤكدة من الجانبين أو من صور لأقمار صناعية دولية). وأن سلاح الجو الإسرائيلي قام بشن هذه الهجمات من خلال مائة طائرة حربية شملت طائرات شبح وطائرات مسيرة وطائرات هجومية وطائرات تزود بالوقود، من خارج الأجواء الإيرانية لتجنب رصد الدفاعات الجوية الإيرانية.

وعسكريًا، ليس من الضروري أن تقوم المائة طائرة بالضربات في نفس الوقت. وأن الطائرات الإسرائيلية قد استخدمت المسار عبر سوريا والعراق. وبالتالي إسرائيل لم تكن بحاجة إلى تدمير منظومة الدفاعات الجوية الإيرانية (وإن كانت قد حيدت بعضها) لتجنب المخاطرة باحتمالية تعرض إحدى الطائرات الاسرائيلية للسقوط، حيث إن توجيه ضربات لشيراز من الأراضي الإيرانية يستوجب دخول الطائرات الاسرائيلية داخل أجواء إيران (المسافة من طهران إلى شيراز نحو ألف كليو متر) ومن ثم فإن ضربها من جنوب العراق يكون أقصر وأكثر أمانًا لسلاح الجو الاسرائيلي.
تأخر الرد الإسرائيلي
احتاج الرد الإسرائيلي نحو 24 يومًا، ولم يكن هذا الرد مفاجأة، وإن كان هذا الوقت ضروريًا لضمان التنسيق الكامل مع إدارة بايدن الذي ذكر بدوره أنه على علم بالتوقيت ومعرفة بالأهداف التي سيتم ضربها، كما كان هناك حاجة لوقت لقيام الولايات المتحدة بإرسال مائة جندي برفقة منظومة الثاد للدفاع عن الأجواء الإسرائيلية فضلًا عن التواجد الأمريكي في المنطقة بأكثر من 42 ألف جندي إضافة إلى قواعد بحرية وجوية تصل لنحو 15 قاعدة، وهو ما يعني أن إسرائيل ليست قادرة بمفردها على استهداف المنشآت النووية الإيرانية بشكل مباشر أو استهداف شخصية إيرانية رفيعة من خلال الضربات الإسرائيلية على إيران وهو ما لم تقم به إسرائيل بالفعل.
محدودية الرد
قد تكون الرؤية الأولى لتقييم الضربات الإسرائيلية أنها لم تخرج عن كونها حفظ ماء الوجه وفي إطار نفس اللعبة الاستراتيجية التي تحكم قواعد الاشتباك بين إسرائيل وإيران (chicken game)، وهو ما اضطر القناة 12 العبرية أن تبث صورة من لبنان 2012 على أنها استهداف لمنشآت عسكرية داخل إيران. وجاءت الضربات على النحو الذي لم يرض المواطن الإسرائيلي الذي كان يسعى لرؤية مشاهد أكثر دموية بالداخل الإيراني، إذ أظهرت استطلاعات الرأي التي أجرته القناة الرابعة عشر العبرية أن هناك ميل ورغبة من المواطن الإسرائيلي لقيام الجيش بتوجيه ضربات موجعة لأهداف حيوية إيرانية. كما أن زعيم المعارضة الإسرائيلي “لابيد” قد أعرب عن خيبة امله، واصفًا الهجوم بـ”الضعيف” ولم يرق لتطلعات إسرائيل التي كانت تروج له قبل الهجوم.

القيود على إسرائيل
تمثلت القيود على الضربة الإسرائيلية في قيام الولايات المتحدة بضبط إيقاع الرد الإسرائيلي لتجنب الولايات المتحدة جر إيران إلى حرب إقليمية شاملة وأيضا لتجنب قيام الحرس الثوري الإيراني باستهداف السفن والجنود الأمريكيين في مياه الخليج.
كما لا يمكن غض البصر عن جولات وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي (قام عراقجي بزيارة 12 دولة ليست جميعها على علاقات جيدة بإيران)، في المنطقة وخاصة عواصم دول الخليج، والتي من الواضح أن الزيارة قد حملت رسائل واضحة بأن إيران ستضطر لاستهداف منشآت داخل دول الخليج إذا ما شاركت هذه الدول في تسهيل مهام إسرائيل لتوجيه ضربات عسكرية إيرانية. كما أنه من السهل استدلال أن وزير الخارجية الإيراني قد وسع من تحذيراته لتشمل أنه لا يوجد خط احمر لدى طهران إذا ما تم استهداف منشآتها النووية أو أشخاص إيرانيين رفيعي المستوى، في ذات الوقت الذي أكد فيه عراقجي على أن إيران لا تريد حربًا في المنطقة ولكنها على استعداد للرد إذا تم مهاجمتها.
كما أن استعادة حزب الله نشاطه في الجنوب اللبناني قد فرض على إسرائيل التحرك بحرص في إطار قدرة الحزب على استهداف منزل رئيس الوزراء الإسرائيلي ذاته، مما يؤثر على قرارات إسرائيل الاستراتيجية في الرد على إيران، علمًا بأن إيران لديها 17 منشاة نووية موزعة جغرافيًا على كل إيران وهو ما يصعب مهمة إسرائيل في استهداف هذه المنشآت وهو أصعب من قيام إسرائيل بتوجيه ضربات لأهداف اقتصادية أو بنية تحتية بالداخل الإيراني. وفي مكالمة هاتفية مع نظيره الإسرائيلي، أعرب وزير الدفاع الأمريكي عن أمله بأن يكون الرد الإسرائيلي هو نهاية الضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران.

رسائل إسرائيل الاستراتيجية
أشار موقع “أكسيوس” أن إسرائيل قد أبلغت إيران بالأهداف التي سيتم ضربها، وحذرت إيران من الرد في إطار دوائر الانتقام بين البلدين. وذكر المتحدث الرسمي باسم جيش الاحتلال قدرة الجيش على حماية إسرائيل وشعبها وحذر من قيام إيران بالرد. كما أشار الجيش إلى أنه سيتم تزويده ببطارية أخرى من منظومة ثاد تحسبًا لأي رد إيراني محتمل، وبذلك أرادت إسرائيل أن تقول بأن لديها القدرة على اختيار الأهداف التي تريد أن توجه لها ضربات عسكرية داخل إيران. ومن الواضح أن إسرائيل ارادت أن تحذر إيران بأنها ليست بعيدة عن سلاحها الجوي وأنها قادرة على تحييد منظومة الدفاع الجوي الإيراني، وأن صواريخ إيران لن ترهب إسرائيل في “الدفاع عن نفسها”.
دائرة الانتقام
كانت عملية “الوعد الصادق 2” الإيرانية أقوى من سابقتها، ومن ثم فإن إسرائيل تخشى من رد إيراني في إطار دوائر الانتقام المتبادل بين الجانبين، وقد يكون أكبر في الحجم والنوع وهو ما يمكن أن يستدعي تحركات أمريكية قبل الانتخابات التي ستجرى في الأسبوع الأول من نوفمبر القادم، خاصة وأن إيران قد لا تريد إحراج الإدارة الامريكية الحالية، تجنبًا للأسوأ وهو قدوم ترامب للبيت الأبيض والذي ذكر لنتنياهو في مكالمة هاتفية “إفعل ما تراه ضروريًا”، ومن ثم فإن أي رد إيراني سيأخذ في الحسبان محدودية الضربة الإسرائيلية وتحوط إسرائيل لعدم القيام بنوع من الاستفزاز لها لتجنبها توجيه ضربات لمواقع استراتيجية حيوية ومن ثم يمكنها تمرير هذه الضربة مع العودة لتعزيز قوة حزب الله في الجنوب اللبناني كحائط صد ضروري بينها وبين إسرائيل.
وختامًا، بات واضحًا بأن إسرائيل ليس لديها الحرية الكاملة في اتخاذ قرارات الرد على إيران وأن الامر برمته بيد الولايات المتحدة الامريكية التي قامت بتزويد إسرائيل ببطاريات “الثاد” بمرافقة العسكريين الأمريكيين لتشغيل المنظومة. كما أن إسرائيل ليست مطلقة اليدين في استهداف المنشآت النووية والنفطية ومقرات الحرس الثوري سواء بفعل محدودية القدرة العسكرية الإسرائيلية التي تحتاج إلى العون الأمريكي أو لأن اللعبة الإقليمية لا يمكن تركها في يد رئيس الوزراء الإسرائيلي وأنها بيد الإدارة الامريكية على اعتبار أن مواجهة إيران ليست مثل غزة أو حتى لبنان. ومن المتوقع أن يتم توجيه اللوم بشكل شديد لرئيس الحكومة الإسرائيلية بعد خروجهم من صمت يوم السبت، حيث أن الضربات الاسرائيلية وبسبب الضغط الأمريكي وبعض حلفاء إسرائيل لم يحقق طموحات الشارع الإسرائيلي أو المعارضة، وهو ما يمكن لإيران أن تستوعبه ولذلك تروج إيران لمحدودية الآثار للضربة الإسرائيلية ومن ثم “لا” تقوم إيران بالرد وتضع حد لدائرة الانتقام وهو ما يجعلها أيضًا أن توصل رسالة أنها على قدر من المسؤولية الدولية تؤهلها في المساومة في ملفات تفاوضية أخرى مع العالم الغربي والولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يتماشى مع تصريحات المسؤولين الإيرانيين من عدم الرغبة في اندلاع حرب شاملة مع استمرار إيران في دعم قدرات حزب الله في الجبهة الشمالية.
كما أن إدانة بعض دول الخليج للهجمات العسكرية الإسرائيلية قد يطمن إيران ويجعلها في موقع مريح استراتيجيًا في المنطقة خاصة وأن الضربة تعد محسوبة على إسرائيل أكثر من كونها قد نالت من إيران.
أما بالنسبة لإيران؛ فإن قيامها بالرد في إطار دوائر الانتقام المستمرة يعني أن طهران تريد الاستمرار والتصعيد خاصة وأن تشغيل منظومة الثاد لم يكتمل بعد.
وعليه فإن الإدارة الامريكية ليس أمامها إلا أن تضغط لوضع حد للضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران وأيضًا وضع خطة لوقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية لإسرائيل ولكن هذا لا يعني وضع حد للمأساة في غزة.
كما أن الإدارة الامريكية ستعمل على تجنب سيناريو سوء التقدير سواء من جانب إسرائيل أو جانب إيران، لذلك جاءت الضربة الإسرائيلية مترددة ودون المستوى المعهود من إسرائيل كما تفعل في لبنان وفي غزة وفي سوريا، فإيران ليست دولة صغيرة لا جغرافيًا ولا ديموجرافيًا وذات تأثير كبير على خطوط الملاحة الدولية وسوق النفط رغم العقوبات المفروضة عليها. وأن الدور الأمريكي كضابط إيقاع يعد مهمًا لتجنيب المنطقة كوارث قد تكون مفيدة لروسيا الاتحادية (التي تساعد إيران بمعلومات استخبارية بحجة تجنب التصعيد العسكري في المنطقة) والصين في الشرق الأوسط، وأن هذا ربما يساعد إدارة كامالا هاريس في حملتها الانتخابية والتنافس الانتخابي مع ترامب في الخامس من نوفمبر القادم.

د. مصطفى عيد إبراهيم

خبير العلاقات الدولية والمستشار السابق في وزارة الدفاع الإماراتية، وعمل كمستشار سياسي واقتصادي في سفارة دولة الإمارات بكانبرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى