المجازفة الاستراتيجية: ما محددات التحركات الإيرانية في الرد على اغتيال “نصر الله”؟

في يوم السبت الموافق 28 سبتمبر 2024، أكد حزب الله مقتل زعيمه “حسن نصر الله” في غارة جوية إسرائيلية يوم الجمعة في ضاحية بيروت الجنوبية، حيث يقع مقر الحزب. وكان نصر الله يدير “حزب الله” منذ أكثر من ثلاثين عامًا بعد اغتيال عباس موسوي عام 1992. ويأتي ذلك بعد أسبوعين من الغارات الجوية الإسرائيلية المكثفة والعمليات السرية ضد كل من القيادة والصفوف الدنيا من المجموعة المدعومة من إيران. ويرى بعض الخبراء [1]أن اغتيال إسرائيل لزعيم حزب الله “من المرجح أن يؤجج التوترات”، وفقاً لصحيفة واشنطن بوست، وسوف يبقي المنطقة “محصورة في حلقة جديدة من العنف”. وهناك رؤية بأن التحركات الإسرائيلية الأخيرة جعلت حزب الله ضعيفاً، ومقطوع الرأس، وفي حالة من الفوضى بسبب العمليات النوعية التي نفذتها إسرائيل باستخدام أجهزة النداء اللاسلكي والتي أسفرت عن مقتل العشرات وإعاقة حركة المئات إن لم يكن الآلاف من عناصر حزب الله، والقضاء على سلسلة القيادة العليا لقوة رضوان (وحدة العمليات الخاصة التابعة لحزب الله).

في المقابل، هناك رؤية تشير الى احتمالية لجوء حزب الله لاستخدام أنظمة صواريخ دقيقة التوجيه أكثر تقدماً، والتي قد تتسبب في إحداث أضرار وخسائر بشرية أكبر كثيراً في إسرائيل مقارنة بالصواريخ القديمة غير الموجهة التي تستخدمها المجموعة حتى الآن، إلا أن الرأي السائد في الأوساط السياسية يشير إلى أن المنطق العقلاني البارد سيظل سائداً، مع ضمان طهران عدم وقوع حزب الله الانتقامي (أو تشكيل حركات إسناد من العراق) الغاضب في فخ الرد بقوة كاملة ضد إسرائيل.حيث إن مثل هذا الرد قد يؤدي إلى حرب كبرى، وهو ما قد يؤدي إلى تآكل قدرات حزب الله، وبالتالي الحد من تأثيره الرادع لإيران[2].

أما فيما يتعلق برد الفعل الإيراني الذي يضعف يوم بعد يوم، فإن دراسة الثابت والمتحرك في توجهات السياسة الخارجية الإيرانية [3] يثير كثير من الشكوك في أن يتخذ آية الله علي خامنئي، قرار استراتيجي بالرد الذي يتناسب مع ما تعرضت له الأذرع الإيرانية، وإيران ذاتها من اغتيالات. وعليه، فإن اغتيال نصر الله، يضع إيران في مأزق صعب للغاية بين رد فعل حاد على إسرائيل، مما يهدد بحرب إقليمية. وإن عدم رد فعلها سيلحق ضررًا عميقًا بشبكة وكلائها المسلحين في محور المقاومة. في الوقت نفسه، من المرجح أن يتم فحص مسألة الردع النووي الإيراني مرة أخرى، نظرًا لحقيقة أن حزب الله كان أداة الردع الرئيسية لإيران ضد إسرائيل، ومنعها من مهاجمة مواقعها النووية.

إن تداعيات المعضلة على إيران، ومحور المقاومة بالغة الأهمية، وبالتالي فإنه رد الفعل الإيراني من شأنه أن يعرضها للخطر في الحرب ويخلق مواجهة غير مرغوب فيها للغاية مع الولايات المتحدة، ولكنه سيشير إلى المحور بالالتزام الإيراني بها، ويردع إسرائيل عن إيذاء إيران، ويكون بمثابة انتقام للاغتيال. وإذا لم ترد إيران، فقد يُنظر إليها باعتبارها تسعى إلى حل دبلوماسي. ولكن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تلحق الضرر على ما يبدو بالردع ضد إسرائيل – التي يقال إنها قضت أيضًا على قائد قوة القدس في لبنان، عباس نيلفوروشان، الذي حل محل حسن مهدوي في أبريل – وقد يشك المحور بأكمله في التزام إيران به.

بالتالي، أي قرار يتخذه خامنئي سيكون له تأثير عميق على استمرار الحرب، وعليه يمكن القول في أي سيناريو، ستسعى طهران إلى إعادة استقرار حزب الله وإعادة بناء قوته، كبديل لعدم انغماسها المباشر في المواجهة مع إسرائيل، وهو الامر الذي قد لا يقنع إسرائيل في استراتيجتها الحالية والتي تهدف أساسا على القضاء (ليس فقط على محاور المقاومة) ولكن على إيران لإعادة تشكيل النظام الأمني الإقليمي برؤية واسس جديدة.

تأسيسًا على ما سبق،  يتطرق هذا التحليل إلى مستقبل محور المقاومة، ووضع إيران في المستقبل وتداعيات السيناريوهات المختلفة للنظام الإيراني على المنطقة. وتجدر الاشارة ألى أن مبدأ المصلحة الشيعي له تأثير كبير على فكرة ثبات الأيديولوجية للنظام السياسي الإيراني، فهو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمبدأ التقية الديني، ومن ثم يكون التحرك لتحقيق مصلحة قومية أو مذهبية في إطار ظروف اضطرارية، وعلى حساب ثوابت قومية أو مذهبية، وتقديم تنازلات في الداخل والخارج، ولهذا المبدأ أهمية لوجود قناعة مسبقة لدى المفاوض بأنه لا بد من وجود تنازلات من الجانب الإيراني والسعي بقوة للحصول عليها.

سلوك إيران المحتمل:

إذا شنت إيران انتقامًا عسكريا مباشرًا ضد إسرائيل، فلابد أن يكون ذا مغزى. فهي تعلم أنها ستخوض معركة ضد جيش له قدراته التكنولوجية والاستخباراتية المتفوقة بشكل كبير[4] وتسانده الولايات المتحدة وكافة القوى الغربية. ومن الواضح أن استخبارات إسرائيل اخترقت عمق حزب الله، وفعلت الشيء نفسه في طهران، وهو ما تجلى في اغتيال هنية ومن قبل علماء المجال النووي. بالنسبة للرئيس الجديد مسعود بزشكيان، الذي انتُخِب على أساس رفع العقوبات الاقتصادية جزئيا من خلال بناء علاقات أفضل مع الغرب، فإن وفاة نصر الله قد جاءت في وقت سئ بالنسبة لما يسعى إليه. لقد أمضى وزير خارجيته سيد عباس عراقجي أسبوعا في نيويورك على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث التقى بسياسيين أوروبيين مثل وزيرة خارجية ألمانيا أنالينا بيربوك ووزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، في محاولة لإقناعهم بإعادة فتح المحادثات لاستعادة الاتفاق النووي الذي تم إبرامه في عام 2015 –والذي أوقفه دونالد ترامب في عام 2018.كان رافائيل جروسي، رئيس هيئة التفتيش النووي التابعة للأمم المتحدة، معجبًا بما سمعه من الاجتماعات، قائلاً: “أعتقد أن هذه هي اللحظة التي يمكن فيها فعل شيء بشأن القضية النووية. ويعرف “عراقجي” كل شيء عن المفاوضات، لذا فهو يسمح لها بالتحرك بشكل أسرع”. ورغم هذا التطور السريع في الموقف والمكسب الإيراني، إلا أن مقتل نصر الله يجعل من الصعب على الإصلاحيين إقناع الجيش الإيراني بأن غصن الزيتون لا يزال له أي معنى.

لقد اشتكى الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزيشكيان، من أنه لم يحصل على الكثير في مقابل الاستماع إلى النداءات المستوحاة من الغرب بعدم السعي إلى الانتقام الفوري لمقتل إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس الذي اغتالته إسرائيل في طهران. وقال بزيشكيان إنه كان قد وُعد بأن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة الذي من شأنه أن يؤدي إلى إطلاق سراح الرهائن والسجناء السياسيين الفلسطينيين، لن يتبقى له سوى أسبوع أو أسبوعين. لكن الاتفاق لم يتحقق قط لأن الولايات المتحدة، من وجهة نظر إيران، رفضت ممارسة الضغوط المطلوبة على بنيامين نتنياهو لقبول شروط وقف إطلاق النار. وبعد أن خُذل “مسعود بزيشكيان”، فإنه لا يميل إلى تصديق تعهدات الولايات المتحدة، بأنها لم تكن لديها أي علم مسبق بخطة قتل نصر الله ــ خاصة وأن القنابل التي زودت بها الولايات المتحدة، هي التي انفجرت في بيروت[5].

مع اقتراب الانتخابات الرئاسية بالولايات المتحدة، وتمتع نتنياهو بزيادة في شعبيته المحلية، يبدو أن الولايات المتحدة لديها خيارات قليلة متاحة. ويصر نتنياهو على أنه فائز وعلى الطريق لتحقيق النصر الكامل. ومن ثم فانه في الوقت الحالي، ما لم تثبت إيران أنها أكثر حزمًا مما كانت عليه حتى الآن، فإن نتنياهو الناجي العظيم هو الذي يتولى القيادة. ومن ثم فإن الدور القادم بالنسبة لنتنياهو، ربما تكون إيران ذاتها.

التداعيات المحتملة على “محور المقاومة”

شهدت ساحة المواجهة بين إسرائيل و”حزب الله” تطورات غير مسبوقة. ففي غضون عشرة أيام، تم اغتيال أو القضاء على ما يقرب من كامل القيادة العليا للجماعة، السياسية والعسكرية، إلى جانب الآلاف من الأعضاء والقادة من المستوى المتوسط، غير فعالين في القتال – ناهيك عن تدمير قوات الاحتلال الإسرائيلية لكميات كبيرة من الذخائر الاستراتيجية التي كان من الممكن أن تهدد المدن والأهداف الإسرائيلية. وجاء اغتيال الأمين العام للحزب ليطيح بأهم الأذرع التابعة لإيران.

في المقابل، فإن التاريخ يثبت عكس الفرضية السابقة، حيث جاء نصر الله بعد اغتيال موسوي 1992 وتحول الحزب إلى كيان أكبر وأقوى وهو ما يمكن أن يحدث بعد تسمية هاشم صفي الدين، لذلك قد تلجأ إسرائيل إلى تطبيق سياستها في غزة في الضاحية الجنوبية واتخاذ قرار بالتدخل البري للقضاء على ترسانة حزب الله واستغلال حالة الارتباك التكتيكي والميداني لـ”حزب الله”، ومن ثم القضاء على “محور المقاومة” في لبنان المدعوم من إيران، وكشف إيران استراتيجيًا أمام وكلائها المختلفين بالمنطقة، مما يؤثر على مصداقيتها بشكل كبير ومن ثم تفقد دورها الذي عملت على استثماره منذ عام 1979 وحتى الآن. كذلك من المحتمل، أن تحدث حركات إسناد من جانب “أنصار الله” باليمن، ومن بعض الفصائل بالعراق والقيام بشن هجمات تجاه إسرائيل، إلا أنها في حقيقة الأمر لن تخرج عن كونها حفظ ماء الوجه لحيلولة إيران، دون توسيع نطاق الحرب رغم تآكل المنطقة العازلة بينها وبين إسرائيل من خلال إضغاف قوة “حزب الله” في لبنان.

ورغم الفرضية السابقة، إلا أنه إنصافًا ومجاراة للواقع، فإن اغتيال حسن نصر الله، ورفاقه هذه المرة يختلف في قوته ونوعيته عن أية عملية اغتيال إسرائيلية من قبل، حيث إن دائرة الاستهدافات والاغتيالات واسعة، وتستهدف كوادار مختلفة وفي دول مختلفة. كما تتزامن مع شن حرب واسعة من جانب واحد واستخدام سلاح الجوع والحصار وهدم المنازل في إطار استراتيجية واسعة وشاملة تهدد “محور المقاومة” المتاخم لها بالكامل.

محددات الثوابت الإيرانية في الرد

إن ثقل أي دولة في معادلات القوة، يأتي نتيجة التخطيط الاستراتيجي والإرادة السياسية الموجهة لخدمة بقائها أو نفوذها على خارطة العالم. وتحاول إيران الدمج بين عناصر ثابتة كالجغرافيا والتاريخ والقومية، وعناصر متغيرة كالتنمية الاقتصادية والتكنولوجيا والقدرة العسكرية لتحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية. وبشكل عام هناك دوافع ثلاثة تقود النظام الإيراني إلى التمدد الإقليمي، العامل الأيديولوجي والشخصية القومية الإيرانية والحفاظ على الثورة وتصديرها. فتأثير هذه العوامل على حركة النظام يفوق بكثير تأثير أي عوامل أخرى سواء كانت حراكًا داخليًا تقوده جموع تعارض سياسات النظام أو ضغوطًا خارجية تهدف لتحجيم الدور الإيراني في المنطقة.

فقد أشارت مشاريع إيران الاستراتيجية المعلنة، خاصة رؤية 2025 و2065 إلى المجال الحيوي لإيران، وكيفية تكوين حكومة إسلامية عالمية تكون فيها إيران المركز، وتحديد رؤيتها نحو التفوق الإقليمي، وبالطبع يستغل النظام مصادر الثروة أو القدرات الاقتصادية أو القوة العسكرية أو القدرات العلمية والصناعية، لخدمة أهدافه، بل إن هذه الأهداف الثلاثة تؤثر في اختيار القيادات وتضع الأطر العامة لوضع الاستراتيجيات وتوجيه سياسات النظام، بل وكيفية التعامل مع المتغيرات الدولية، وتنعكس بشكل واضح في نموذج السياسة الخارجية الإيرانية وقدرتها على التفاوض والمناورات العديدة التي تتميز بها. ويأتي هذا في ظل استراتيجية المصالح العليا المتمثلة في الحفاظ على بقاء النظام الحاكم ومكتسبات ثورة 1979 والتلاعب بالبرنامج النووي.

العقوبات واحتواء ايران

تتلخص سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران في أن تظل إيران تحت السيطرة الكاملة (مباشرة أو غير مباشرة) سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، لهذا تحاول الولايات المتحدة بكل الوسائل المتاحة الضغط المتواصل على النظام الإيراني.كان نتيجة الصراع بين الولايات المتحدة وإيران، تطبيق عقوبات اقتصادية بأشكال مختلفة منذ أزمة الرهائن عام 1979، واستهدفت أثناء حكومة كلينتون 1995 قطاع النفط الحيوي بشكل رئيسي، ثم إصدار القانون المعروف باسم داماتو (قانون عقوبات إيران وليبيا)، والذي بموجبه يحظر على شركات النفط العالمية ذات المصالح مع الولايات المتحدة الاستثمار في إيران، وإلا تعرضت لعقوبات، وعزز العقوبات الأمريكية منذ عام 2006 انضمام المجتمع الدولي تحت مظلة الأمم المتحدة لفرض عقوبات على إيران بسبب برنامجها النووي ( الذي وضعت بذرته السلمية الولايات المتحدة في خمسينات القرن الماضي)، وصولًا للعقوبات الحالية، (التي تشمل عدد من القطاعات النفطية والمالية والمؤسسات والشركات، بالإضافة لأشخاص فاعلين إيرانيين وغير إيرانيين)، مما أدى إلى توقف مشاريع التنمية الكبرى داخل إيران، والتحول بالاقتصاد إلى اقتصاد حرب تحت مسميات مختلفة تسبقها كلمة “الجهاد”.

وفي 13 أكتوبر 2017، أعلن الرئيس الأمريكي السابق ترامب استراتيجية جديدة في التعامل مع إيران، تتضمن حسب بيان للبيت الأبيض، سبعة عناصر أساسية هي: تحييد التأثير المزعزع للاستقرار للحكومة الإيرانية وكذلك تقييد عدوانيتها، ولا سيما دعمها للإرهاب والمسلحين وإعادة تنشيط التحالفات الأميركية التقليدية والشراكات الإقليمية، كمصد ضد التخريب الإيراني واستعادة أكبر لاستقرار توازن القوى في المنطقة. كما تم حرمان النظام الإيراني، ولاسيما الحرس الثوري، من تمويل أنشطته الخبيثة ومعارضة أنشطة الحرس الثوري الذي يبدد ثروة الشعب الإيراني. فضلًا عن مواجهة تهديدات الصواريخ الباليستية والأسلحة الأخرى الموجهة ضد الولايات المتحدة وحلفائها، وحشد المجتمع الدولي لإدانة الانتهاكات الجسيمة للحرس الثوري لحقوق الإنسان واحتجازه لمواطنين أمريكيين وغيرهم من الأجانب بتهم زائفة، كما حرمان النظام الإيراني من المسارات المؤدية إلى سلاح نووي.

وفي 8 مايو 2018 أعلن ترامب انسحاب الولايات المتحدة رسميًا من الاتفاق النووي مع إيران، ووقع الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض مرسومًا يقضي بإعادة فرض العقوبات (الأمريكية) التي رُفعت عن إيران بموجب الاتفاق النووي، واستخدمت الإدارة الأمريكية نهجًا تدريجيًا لفرض العقوبات تحت مسمى فرض الضغوط القصوى وكانت البداية بتحديد مهلة، للشركات التي لديها التزامات تجارية قائمة مع إيران للاختيار بين السوق الإيرانية أو فرض عقوبات عليها. واستهدفت العقوبات الأمريكية القطاعات الحيوية في الاقتصاد الإيراني كقطاع النفط والمعاملات المصرفية، بالإضافة إلى إلغاء تمديد إعفاءات كانت قد منحتها لثماني دول تستورد النفط الإيراني، وتزامن ذلك مع إعلان الحرس الثوري كمنظمة إرهابية على قائمة وزارة الخارجية الأمريكية لتحجيم أنشطته الاقتصادية والتي تسهم بحوالي 30 % من الاقتصاد الإيراني. ومع ذلك فإن العقوبات تحولت من عقوبات أممية إلى عقوبات دولية، حيث تم رفع العقوبات تدريجيا والمفروضة من جانب الأمم المتحدة بموجب قرارات مجلس الأمن، وذلك وفق القرار الدولي رقم 2231، ومع ذلك أعلنت 45 دولة بقيادة الولايات المتحدة التمسك بالحظر التسليحي إلى جانب فرض عقوبات جديدة تستهدف الملف النووي.

تحركات إيران تكتيكية

أدت العقوبات الأمريكية على إيران، إلى حدوث تدهور اقتصادي لم تشهده حتى في ظل العقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليها منذ 2011. ولقد أدى ذلك (أكثر من مرة) إلى أن يلجأ النظام (الذي يعتقد تمامًا بأن الهدف الأمريكي هو إسقاطه وتحويل إيران عراق آخر)، إلى تغيير لهجة الخطاب السياسي تجاه الولايات المتحدة. فتارة يستخدم العنف اللفظي مثلما أعلن محمد باقري رئيس هيئة أركان القوات المسلحة، أن المرشد قد وجه القوات المسلحة، بأن تتحول من استراتيجية الدفاع إلى الهجوم للحفاظ على مصالح البلاد الخارجية، تحسبًا لأية مواقف عدائية عسكرية، وتسمى هذه الاستراتيجية الجديدة “رويكردآفندي: خطة العمل الهجومية”. ولقد رسم النظام الإيراني استراتيجية الجيش ضمن نطاق الدفاع، أما الحرس الثوري فقد أوكلت إليه مهمة الدفاع عن النظام في الداخل وتصدير الثورة في الخارج بمعنى أن استراتيجية الحرس الثوري كانت ومازالت هجومية، من ثم فإن تطوير استراتيجية الجيش النظامي وتحوله للهجوم. وتارة يلجأ إلى لغة المهادنة والتفاوض، مثلما حدث في أروقة الأمم المتحدة في سبتمبر 2024.

اللعب بالورقة النووية

يعد تاريخ 18 أكتوبر 2025 هو تاريخ انتهاء خطة العمل الشاملة المشتركة “برجام بالفارسية” الموقعة في 2015 والقرار الاممي المرتبط به رقم 2213 وهو ما يعني خروج إيران من تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ” الخاص بالعقوبات”، وإلغاء العقوبات الأممية ومن الصعب إن لم يكن مستحيل إعادة العقوبات الأممية على إيران، حيث لن تسمح روسيا الاتحادية أو الصين بعودة فرض مثل هذا القرار مرة أخرى. كما أن “آلية الزناد” التي وضعها أوباما في الاتفاق، قد يصعب تطبيقها، لأن الولايات المتحدة ذاتها قد انسحبت من الاتفاق. وقد أعلنت إيران “سلفا وبعد انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل”عدم الالتزام ببعض بنود الاتفاق النووي كورقة ضغط على الجانب الأوروبي مع التأكيد على عدم الخروج من الاتفاق النووي، فقد أرسل الرئيس الإيراني الأسبق حسن روحاني خمس رسائل إلى الدول الخمس المشاركة في الاتفاق النووي يخطرها بالقرار الذي اتخذته إيران بناء على تقرير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني. حيث أشارت الرسائل إلي أن المواد 24-26-36 الواردة في الاتفاق النووي تعطي الحق لإيران في حالة نقض أحد أطراف الاتفاق تعهداته أن تطلب عقد اجتماع للجنة المشتركة، لتحديد موعد يتم قبل انتهائه عودة الطرف الناقض لتنفيذ تعهداته، وكان مندوبو الدول المشاركة في الاجتماع قد أكدوا استعداد دولهم لتعويض خروج الولايات المتحدة من الاتفاق بشكل أو بآخر، لكن هذه الدول، لم تتخذ خطوات عملية في هذا الصدد، ولهذا قررت ايران التالي: وقف بيع اليورانيوم المخصب الزائد عن 300 كيلوجرامًا التي سمح بها الاتفاق في مقابل اليورانيوم الخام. كذلك وقف بيع المياه الثقيلة التي تزيد عن 130 طنًا المسموح بها في الاتفاق، وذلك اعتبارًا من اليوم (8/5/2019). بالإضافة إلى إعطاء مهلة ستين يوما للدول الأعضاء في الاتفاق النووي لتنفيذ تعهداتهم، فيما يتعلق بالنفط والمعاملات المالية. وإذا لم يتم التوصل إلى نتائج إيجابية، فإن إيران سوف تقوم بإجرائين آخرين، أولهما ألا تلتزم إيران بوقف التخصيب عند 3.67، وبدون سقف محدد، والثاني هو إعادة النظر في الاتفاق حول تطوير مفاعل آراك للماء الثقيل والعودة به إلى ما قبل الاتفاق. وفي حالة ما إذا اتخذت الدول الأعضاء من موقف إيران حجة لإحالة الأمر إلى مجلس الأمن، فإن إيران سوف تتخذ إجراءا حاسما في الاتفاق. كما أعلن الرئيس روحاني أن إيران لم تخرج من الاتفاق النووي مع الغرب، وإنما تنفذ ما جاء فيه عند خروج أحد أعضائه. وإن إيران تتصرف باعتدال، وتشعر أن الاتفاق يحتاج إلى جراحة، وأنها لن تقبل بالتسلط على حقوقها فيه، وأنها مستعدة للتفاوض حول تنفيذ الاتفاق كما هو دون زيادة أو نقصان. واستخدام إيران لهذه الورقة لم يوقف نتنياهو ومن ورائه الولايات المتحدة عن استهداف الكوادر البشرية الإيرانية التي تعمل في المجال النووي داخل إيران. وأيضا تقليم اظافر الاذرع الإيرانية من خلال اغتيال قاسم سليماني والمهندس وصولا لابراهيمعقيا ومحمد سرور حتى حسن نصر الله. وهو ما يعني ان هذه الورقة محسومة بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل حيث لا يمكن السماح لإيران بالمضي قدما في هذا البرنامج او في رفع العقوبات ومنحها المال اللازم للاستمرار في عدائها.

 ومن ثم فإن، مسارات الوضع الحالي حول برنامج إيران النووي لن تعود إلى الوراء، فلن تسمح الولايات المتحدة ولا إسرائيل بالعودة الى مسارات ما كان مسموح به في خطة العمل المشتركة الشاملة. كما أن إيران لن تتنازل عما تم التوصل إليه ومن مكتسبات حصلت عليها بموجب هذه الخطة. وعليه فإن احتمالية قبول إيران بالتفاوض من جديد حول برنامجها النووي والصاروخي وتدخلاتها في المنطقة كثلاث محاور وضعتها الولايات المتحدة في 12 بندًا، يعني لابد من رضوخ الجانب الإيراني لهذه المحاور، كي تُرفع العقوبات عنها، والوصول إلى تفاهمات بين الطرفين،. ورغم افتراض ماسبق، إلا أن هذا لن يتحقق إلا إذا كان الجانب الإيراني مجبرًا تمامًا على الرضوخ لضغوط داخلية واسعة لرفع العقوبات، أو لتغيير مفاجئ في النظام وتغيير استراتيجة إيران، أو على أقل تقدير احتمالية سيطرة المعتدلين من النظام على الحكم وانفتاحهم من جديد على الغرب.

أما المسار الثاني، فهو الصدام، ينطلق هذه المسار من تصاعد حدة المواجهة بين الجانبين الاسرائيلي والإيراني، فالتباين الواضح قد يجعل من احتمالية التصادم قائمة، فالولايات المتحدة وإسرائيل وبعض دول المنطقة يسعون لكبح جماح الطموحات الإيرانية التي باتت تشكل خطرًا وجوديًا على بعضهم وتقليل قوة ونفوذ البعض الآخر، مما يستدعى شن حرب واسعة على إيران لا تستهدف منشآتها النووية والصاروخية بل تهدف إلى الإطاحة بالنظام، إما عن طريق التدخل العسكري المباشر، خاصةوإن تجربة التدخل الأمريكي بالقوة العسكرية في الكثير من النزاعات في العالم لم تكن كلها تجارب سيئة بالنسبة للأمريكيين، حيث عملت الولايات المتحدة على إعادة بناء نماذج ديمقراطية بعد أسقاطها أنظمة سياسية قائمة بالفعل، مثل ما حدث مع ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. وهنا يمكن أن تقدم الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل بالعمل على إسقاط “نظام ولاية الفقيه” بالتدخل العسكري المباشر، بعد إيجاد الحجج والذرائع المتوفرة بالفعل الآن، وتقديمها للعالم الخارجي. وهنا سيتم تحييد روسيا والصين، كما حدث في الحرب على العراق وأفغانستان، حيث تجد الدولتان أنه لا مبرر للصدام العسكري المباشر مع الولايات المتحدة، وأن تكلفة المواجهة قد تكون أعلى من تكلفة الصمت.

عمليًا، لا يعد هذا الأمر يسيرًا، خاصة في ظل نمو القدرات العسكرية الإيرانية، وقدرة النظام الإيراني على استهداف المصالح الأمريكية وبعض الدول الحليفة، وأيضاً كسب إيران لدول مثل روسيا والصين إلى جانبها، فضلاً عن حالة الفوضى التي يعم بها الشرق الأوسط. وعليه، فإن حدوث هذه الآلية تحتاج إلى دراسة كاملة وضربات سريعة ومركزة وناجزة وتستند إلى شرعية دولية.

وينبغي ألا يفسر التدخل الخارجي بوصفه، فقط، استخداماً للقوة العسكرية، فهو كمقاربة شاملة قد يتضمن محاولات للتوسط والتفاوض، ونشر عناصر غير عسكرية (شرطة وخبراء مدنيين)، واستخدام عقوبات وحوافز ومساعدات اقتصادية، وربما استخدامات أخرى أكثر مباشرة لـ “الترغيب والترهيب” بهدف إحراز نفوذ واحتواء مزدوج للنظام القائم. وقد يكون التدخل مفوضاً مما هو أكثر من سلطة قومية أو غير مفوض على الإطلاق: قد يكون بالتراضي أو من دونه. وما يتضمنه دائماً هو استخدام ملموس وغير ملموس لمواد تخص فاعلين خارجيين، وتبقى أساساً تحت سيطرة أولئك الفاعلين، ومصممة لتبديل الموقف المعين بطريقة ليس مطلوباً توقعها من حركة الديناميكيات الداخلية وحدها. إضافة إلى التدخل العسكري غير المباشر، ومن خلال ضغوطات البلدان والمؤسسات الدولية الغربية، ومع النجاح في تحييد التحالفات الإيرانية مع كل من روسيا والهند والصين، قد يسقط النظام الإيراني.

بيد أن الفاعلين الخارجيين، مهما كانت درجة قوتهم الاقتصادية والسياسية والعسكرية، لا يستطيعون فرض خياراتهم السياسية لمدة طويلة على بلدان لا ترغب في ذلك. لذا، فإن التغيير وإسقاط النظام الإيراني لابد من أن ينبع من العوامل والظروف الداخلية.([6])  وهناك النمط التفاعلي:وهو عبارة عن حاصل جمع آليات الاسقاط الداخلية والخارجية مع بعضها البعض. ولقد اثبتت التجارب الداخلية بايران بانه غير مستقر بدرجة كبيرة رغم قدرة النظام على السيطرة عليه حتى الان. وإجمالًا، فإن سقوط النظام الإيراني يتطلب ما يلي[7]:

(-) العامل الأول، فقدان الشرعية: هو أن يكون النظام قد فقد كل أو أغلب شرعيته. ويتفق معظم المتابعين للشأن الإيراني، على أن جانباً كبيراً من الشرعية قد فُقد، فقد كانت ثورة عام 1979 تمثل العمود الفقري للشرعية التي استمدت دعمها من جانب كبير من القوى السياسية. غير أنه منذ ذلك الوقت، عزز كثير من تلك القوى صلته بالنظام أو انضم إلى معارضيها النشطاء. والآن، فإن ما يعرف بـِ «مصدقيتس»، فئة القوميين الدينيين، وفئة التيارات اليسارية والليبراليين الغربيين، باتوا من المعارضين للنظام. وباعتماد النظام على استخدام القوة بدرجة كبيرة، فقد الشرعية التي استندت في الأساس إلى الدعم الشعبي.

(-) العامل الثاني، الانشقاق من الداخل: بحيث أن ينشق جزء كبير من النظام عن جسده الرئيسي، وهو ما حدث أيضاً في إيران. فحتى هؤلاء الذين لعبوا أدواراً كبيرة في مراحل مختلفة من الثورة، باتوا يتساءلون الآن عن جدواها. ويصف إبراهيم اليزدي، وزير الخارجية في عهد الخميني، ثورة 1979 بـ”انتصار للجهل على الاستبداد”.ومحسن سزجغارا، أحد مؤسسي الحرس الثوري الإيراني، بات الآن يقول إنه لو علم ما ستؤول إليه الأحوال اليوم ما كان انضم إلى الثورة. ومير حسين موسوي، الذي كان قائداً لإحدى أكثر الطوائف تطرفاً في النظام، بات الآن قيد الإقامة الجبرية في منزله، وآية الله نوري، وزير الداخلية في عهد الخميني، وصف ثورة 1979 بـ “رهان للنيات الحسنة التي أدت إلى التراجيديا”.

(-) العامل الثالث، حياد دور الحرس الثوري: أن تتخلى غالبية القوة الأمنية عن استعدادها لقتل المعارضين خلال المواجهات السلمية، وأن ترى القوات المسلحة النظامية، أن مهمتها تقتصر على الدفاع عن البلاد في مواجهة عدو خارجي.

(-) العامل الرابع، تجهيز بديل: تغيير النظام وظهور بديل للسلطة. خاصة وأن البديل الكامل للسلطة لم يظهر بعد، في ظل معارضة داخلية وخارجية هشة ، ولذلك لا تزال هيمنة النظام على الإعلام واضحة، مما يعطيها ميزة إضافية.

(-) العامل الخامس، ملء فراغ السلطة: لتغيير النظام، فإنه قد يكون الأهم والأكثر إشكالية في إيران اليوم، في ظل هذا الشرط، أنه يجب على المجتمع التفكير في وجود حكومة بديلة قبل الشروع في تغيير النظام. ومن الطبيعي أن تخشى المجتمعات حدوث الفراغ وأنها لن تدعم التغيير الجذري إلا بعد التأكد من وجود البديل، ففي عام 1978 ــ 1979 أوجد رجال الدين في إيران الحكومة البديلة قبل التغيير، ووثق الناس في تلك الحكومة لأنها كانت جزءاً من الواقع الإيراني على مدار اربعة قرون، أي منذ تحول إيران للمذهب الشيعي. والآن، فإن أغلب رجال الدين يعارضون النظام الذي أرساه الخميني، لكنهم لن يستطيعوا لعب دور البديل، لأن ذلك من شأنه أن يكسبهم صبغة سياسية بالصورة نفسها التي شجبوا بها الخمينيين.

ختامًا، إن اغتيال الأمين العام لـ”حزب الله” والذي وصف إسرائيل بأنها “بيت العنكبوت”، وأكد على أن نتنياهو لن يستطيع أن يعيد سكان إسرائيل الى الشمال، قد عزز دور وقوة إسرائيل في مواجهة إيران. وقد تزامن هذا مع إحداث إسرائيل لحالة إرباك شاملة داخل صفوف “حزب الله” مما أفقده توازنه. وحتى وإن استطاعت إيران تعويض الضعف الذي أصاب الحزب وقيام أذرعتها في العراق واليمن بالمساندة. فإن هيبتها بين أذرعها أو كفاعل إقليمي بالمنطقة باتت على المحك وأن المنطقة العازلة بينها وبين إسرائيل تتآكل. وبالتالي، فإن قرار إيران بالاستمرار على نهج “الصبر الاستراتيجي” سيفقدها مصداقيتها، وإن قرارها بالمواجهة ربما سيكلفها التضحية بثوابتها الاستراتيجية. ولذلك فإن إيران باتت في موقف لا تحسد عليه وليس أمامها إلا المجازفة الاستراتيجية أو تقديم مزيد من التنازلات والتي لابد وأن يرضى بها رئيس الوزراء الإسرائيلي ينيامين نتنياهوـ خاصة وأن إسرائيل تشعر وأنها ليست تحت أي تهديد جدي من إيران أو من وكلائها بالمنطقة.

_____________________________________________________

[1]– https://www.atlanticcouncil.org/blogs/new-atlanticist/experts-react/experts-react-hassan-nasrallah-is-dead-whats-next-for-hezbollah-israel-and-iran/

[2]-https://www.atlanticcouncil.org/blogs/new-atlanticist/experts-react/experts-react-hassan-nasrallah-is-dead-whats-next-for-hezbollah-israel-and-iran/

[3]-د. مصطفي عيد إبراهيم، كيف يمكن فهم السلوك الخارجي الإيراني؟.. دراسة في الثوابت والتحركات التكتيكية، سبتمبر ٢٠٢٤. https://rcssegypt.com/18758

[4]– https://www.theguardian.com/world/2024/sep/28/hassan-nasrallah-hezbollah-iran-lebanon-israel-us-analysis

[5]– https://www.theguardian.com/world/2024/sep/28/hassan-nasrallah-hezbollah-iran-lebanon-israel-us-analysis

[6]–  يمكن التدليل على ذلك من تجربة البرتغال وإسبانيا واليونان التي تحولت إلى نظم ديمقراطية راسخة بصورة سريعة خلال سبعينيات القرن العشرين من خلال توافق متطلبات الداخل مع العامل الخارجي.

[7]– أمير طاهري – الشرق الأوسط، الأحد – 24 شهر رمضان 1438 هـ – 18 يونيو 2017 مـ رقم العدد [14082

د. مصطفى عيد إبراهيم

خبير العلاقات الدولية والمستشار السابق في وزارة الدفاع الإماراتية، وعمل كمستشار سياسي واقتصادي في سفارة دولة الإمارات بكانبرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى