حتمية جغرافية… كيف تؤثر سوريا على مسار التصعيد الإقليمي؟

على مدار سنوات عشر تتوسط سوريا ساحة صراع مرير كرقعة شطرنج تحتوي كافة المتناقضات وتتسع جغرافيتها لجميع اللاعبين، إلا أن الوضع الجيوستراتيجي الراهن ينذر بانهيار كل المعادلات التي رُسمت بالتوافق أو التفاهم الضمني بين أقطاب الصراع الدولي، خاصة مع دخول روسيا على خط الصراع لتضع خطًا أحمر أمام المسار الذي دعمته القوى الغربية لتغيير النظام في سوريا، وفيما تعتبره من تصحيح تاريخي لموقفها من إسقاط نظام القذافي في ليبيا.
وكان التدخل الروسي على الرغم من دوره الحاسم في دعم دمشق إلا أنه عمد لتجنب أي صدام على المستوى الإقليمي بين إيران التي تشاركه الهدف على الأرض بميليشياتها وإسرائيل التي حظيت بمساحة واسعة للحركة في الأجواء السورية للأهداف التابعة لكل من طهران وحتى دمشق دون أن تعترضها تحذيرات قاعدة حميمم ومنظوماتها الدفاعية المتقدمة.
وهنا تجدر الإشارة إلى عدد من المؤشرات؛ أولها ترسخ معادلة المواجهة بين أقطاب الصراع الدولي خاصة مع اندلاع الحرب في أوكرانيا وبروز المخاوف الأمريكية والغربية من تعاون عسكري تقني بين روسيا وإيران بفعل الدور المحوري للمسيرات (والصواريخ) الإيرانية في الصراع الأوكراني، والتلويح الروسي بتزويد أطراف ثالثة معادية للغرب بالأسلحة الروسية ردًا على استهداف أوكرانيا للعمق الروسي سواء لإيران في هذه الحالة أو وكلائها. وليس أدل على ذلك المشهد من تزامن لقاء أمين عام مجلس الأمن القومي الروسي ووزير الدفاع السابق سيرجي شويجو بالرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في طهران، مع زيارة قائد المنطقة المركزية بالجيش الأمريكي إريك كوريلا لإسرائيل.
وثاني تلك المؤشرات وليس منفصلًا عن أولها أن الهجوم الصاروخي الإيراني الثاني على إسرائيل كان ناجحًا في إرسال رسالة للقوى الغربية أن إيران وصواريخها الباليسيتية القادرة على الوصول للقارة الأوروبية باتت مهددًا لأمن التكتل خاصة في ظل الحديث عن إمكانية حصول طهران على قنبلة نووية خلال أسابيع، مما دفع الاتحاد الأوروبي الإعلان في 14 أكتوبر 2024 عن فرض عقوبات على 7 أفراد وكيانات من بينها 3 شركات طيران للتورط في نقل صواريخ إلى روسيا، بالتوازي مع إجراءات مماثلة من بريطانيا، وجاءت تلك التحركات بصفة خاصة بعد زيارة أنتوني بلينكن لبريطانيا في سبتمبر الماضي.
ويأتي ثالثًا التحركات والتصريحات الإسرائيلية الأخيرة تجاه سوريا مع ما نشرته رويترز منتصف الشهر الجاري عن تنفيذ توغلات محدودة بالجنوب السوري لخلق شريط أمني لاستكمال الحصار البري لـ”حزب الله” في لبنان وخلق حواجز وسياج أمني من مرتفعات ترابية وخنادق وأسلاك شائكة تمنع أي تحرك بري من الأراضي السورية باتجاه الجولان المحتل، بينما يرفع حديث العديد من السياسيين الإسرائيليين سقف التحركات بالجنوب السوري وأهمية احتلال قمة جبل الشيخ الاستراتيجية نظرًا لموقعها الحاكم في المراقبة والاستطلاع لأي تهديدات جوية محتملة وكشفها للعاصمة دمشق التي لا تبعد سوى 38 كم فقط، وذلك رغم التحركات السورية والروسية لإبعاد الميليشيات الموالية لإيران عن خط الحدود في إطار تفاهم (اتفاق) مسبق بين روسيا والأردن والولايات المتحدة نوفمبر 2017 على خفض التصعيد بالجنوب وإبعاد تلك العناصر من محافظتي درعا والقنيطرة بالجنوب، حسب مؤسسة كارنيجي للسلام.
رابعًا الموقف التركي الحرج الذي يحذر من تعقد مسارات الصراع على حافته الجنوبية جراء اتساع الحرب الإقليمية الشاملة في ظل تعثر مسار التطبيع مع الحكومة السورية واستمرار إمساك واشنطن بالورقة الكردية لمساومة أنقرة والضغط عليها في هذا الإطار بالتوازي مع احتمالات تفجر الصراع في الشمال الغربي بين الفصائل المسلحة وتنظيم “هيئة تحرير الشام” من جهة والقوات السورية الحكومية من جهة أخرى واتهام موسكو لكييف بالدخول على خط دعم مجموعات مسلحة سورية وعلى رأسها الهيئة لتنفيذ هجوم على القوات السورية في حلب مقابل إرسال جنود متمرسين للساحة الأوكرانية، وكل ذلك في وقت شديد الحساسية والهشاشة قبيل انطلاق الانتخابات الأمريكية بأيام معدودة.
وللمفارقة فإن كبار اللاعبين لا يرغبون في بدء حرب جديدة في الشرق الأوسط خاصة في سوريا، إلا أن مغامرة أطراف أخرى تستفيد من إشعال وتمييز الاصطفافات الجيوسياسية قد تعمد لإشعال الصراع في ظل استمرار الخلاف الجوهري حول إعادة التواصل الغربي مع سوريا أو إعطاء المزيد من الشرعية الدولية لحكومة دمشق وتوجيه ضربات مؤثرة للقوات الحكومية على محاور القتال على خط خفض التصعيد أو ما يسمى محور أردوغان-بوتين، بالتوازي مع انشغال محتمل للفصائل الموالية لإيران بمواجهة ضربات أمريكية وإسرائيلية من المتوقع أن تندلع تزامنًا مع الهجوم الإسرائيلي المرتقب.
صحيح أن الصراع الإسرائيلي الإيراني دخل مرحلة المواجهة المباشرة وأن كل الجهود الدبلوماسية ترمي لتخفيف حدة التصعيد والخروج من دائرة الرد والرد المضاد أملًا في التوصل لتسوية الصراع وإنهاء الحرب في غزة ولبنان كخطوة تالية، وأن الطرفين يتحوطان بالحلفاء والشركاء الدوليين ويسعيان لدفعهم إلى المنطقة استغلالًا لحجم التشابك المتزايد بين الأزمتين في أوكرانيا والشرق الأوسط، إلا أن المعضلة الحقيقية تتمثل في غياب الدور العربي الموحد والذي لا يمكن أن يكتسب الفاعلية اللازمة دون الاستناد إلى نقطة ارتكاز رئيسية تنطلق منها الحلول لوقف آلة القتل والتدمير الإسرائيلية وهو ما تمثله سوريا في تلك اللحظة من الحرب شريطة وجود رؤية واضحة وتحركات سريعة بالتعاون مع الجانبين الروسي والتركي بالدرجة الأولى على خفض التصعيد ومواصلة تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة على أساس الانسحاب الكامل لقوات الأخيرة وتوسيع التطبيع الدولي مع سوريا وفق آلية خطوة بخطوة، فضلًا عن توسيع مسار أستانة مع تهيؤ الظروف، لكن الأولوية الأولى تكمن في ملء الفراغ وتوحيد البيت الداخلي في سوريا ولبنان وفلسطين وتقليص النفوذ الإيراني وتقييد هامش المناورة أمام الجانب الإسرائيلي للحد الأدنى ودفعه لإنهاء العدوان.
إن اليوم التالي للحرب عربيًا ينبغي أن يكون بقيام دولة فلسطينية متصلة الأراضي وذات سيادة تقضي على آمال مخطط التهجير الإسرائيلي، وانتصار إيران الدولة على إيران الثورة باحترام سيادة دول المنطقة، والحفاظ على ما تبقى من مظاهر الحياد الدولي عن الانخراط في الصراع وتحويلها إلى جهود بناءة لدعم استقرار المنطقة.

ضياء نوح

باحث أول، حاصل علي بكالوريوس العلوم السياسية، وباحث ماجستير في ذات التخصص، له العديد من الدراسات والأبحاث المنشورة في مراكز الفكر والمجلات العلمية، متخصص في شئون الخليج وإيران.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى