ماذا تفعل روسيا في أزمة مدينة “غدامس”؟
شهدت منطقة “غدامس” الاستراتيجية الحدودية مع ليبيا والجزائر وتونس في أغسطس الماضي تحركات عسكرية غير مسبوقة ما بين المواليين لحكومة الوحدة المؤقتة برئاسة “عبدالحميد الدبيبة”، وموالين للجيش الوطني بقيادة “خليفة حفتر”، حيث بدأت قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة الفريق “صدام حفتر” بشن عملية عسكرية في المناطق الجنوبية الغربية من البلاد المتمثلة في مناطق “حوض الحمادة الحمراء” ومدينة غدامس ومعبر “الدبداب” الحدودي مع الجزائر، ومنطقة المثلث الحدودي “الحطابة- غدامس-رأس الغول” بين ليبيا وتونس والجزائر، بالتوازي مع تقدم قوات كتيبة القتال 444 التابعة لحكومة الوحدة الوطنية في الجنوب الغربي الليبي بحجة حماية المعبر الحدودي مع الجزائر. وفي المقابل، حشدت كتيبة الحدود 17 للزنتان بقيادة “محمد عبدالنبي الزنتاني” قواتها لمنع كتيبة 444 من السيطرة علي غدامس ومطارها.
وعليه، زادت المخاوف من تفاقم الوضع، خاصة مع بدأ قائد الزنتان اللواء “أسامة الجويلي” في حشد الدعم لصالح الزنتاني لعرقلة كتيبة 444 من تحقيق أهدافها، ووفقًا لمصدر عسكري بغرب ليبيا، فإن تحركات اللواء 444 بهدف صد عناصر روسية تسعي للتوغل قرب المنطقة الحدودية، ونتج عن هذه التحركات، دعوة المجلس البلدي لمدينة “غدامس” إلي اعتصام شامل، مشددًا على ضرورة إخلاء المدينة ممّا وصفها بـ “التشكيلات العسكرية المسلحة”، فضلاً عن قلق المجتمع الدولي والأمم المتحدة والعديد من الدول الغربية لا سيما فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بشأن التداعيات المحتملة من التحركات العسكرية في جنوب غرب ليبيا، لذلك ثارت التساؤلات بشأن أسباب ودوافع هذه التحركات من قبل الأطراف الداخلية للأزمة والأطراف الموالية لها وبخاصة روسيا، وانعكاساتها المحتملة.
الأهمية الاستراتيجية لـ “غدامس”:
تعد مدينة “غدامس” واحدة من أقدم وأشهر المدن الصحراوية في منطقة طرابلس الواقعة في شمال غربي ليبيا وتسمي بـ “لؤلؤة الصحراء”، وتتميز المدينة بموقعها الاستراتيجي المتقاطع على حدود ليبيا مع الجزائر وتونس. كما يوجد بها مطار دولي ومنفذ بري يربطها بالجزائر، لذلك كانت المدينة واحدة من أهم مراكز التجارة على الطرق عبر الصحراء، فضلاً عن أن موقعها المتميز بوفرة المياه وسط الصحراء جعلها محطة توقف إلزامية للقوافل المُحملة بالبضائع، بالإضافة إلى تمتع المدينة بمعالم سياحية مبهرة للزوار، وتعد السياحة هي المصدر الرئيسي للدخل في المدينة، الأمر الذي جعل “غدامس” مزدهرة على الرغم من عزلتها الصحراوية.
أهداف مرتقبة:
تأتي تحركات الجيش الوطني الليبي في الجنوب الغربي للبلاد بمشاركة “الفيلق الأفريقي” الروسي”، حيث تقدم موسكو الدعم السياسي والعسكري إلي المشير “خليفة حفتر” من خلال الأسلحة والتدريب، في إطار سعي كل منهما إلى تعزيز نفوذهما، ويمكن توضيح أهداف تلك التحركات فيما يلي:
(&) أهداف حفتر: يرغب قائد الجيش الوطني الليبي في تحقيق أهداف استراتيجية علي الرغم من تأكيد المشير “خليفة حفتر” أن الهدف الرئيسي من انتشار القوات هو مجابهة التنظيمات الإرهابية والمرتزقة؛ وذلك لمنع تسللها من غرب أفريقيا إلى الجنوب الليبي، خاصة في ضوء التوتر الأمني لدول الجوار، فقد يهدف حفتر من خلال عملياته العسكرية في مدينة “غدامس” في السيطرة علي المدينة ومطارها، الذي يساعده في توسيع نفوذ قواته علي حدود غرب ليبيا من سرت إلى الحدود الجزائرية، ومن ثم تعزيز مكانته الإقليمية عقب سيطرته علي الجنوب بأكمله من الشرق إلي الغرب، فضلاً عن رغبته في تطويق حقل NC7 حمادة النفطي المتنازع عليه، نظرًا لأهمية هذا الحقل الذي يحتوي علي احتياطات نفطية تقدر بتريليوني قدم مكعب، بالإضافة إلى وجود حقل “الوفاء” الذي ينتج يوميًا نحو 37 ألف برميل بترول، و23 ألف برميل من الغاز المسال الذي ينتج معظمها إلي أوروبا عبر إيطاليا.
علاوة على ما سبق، قد يسعي قائد الجيش الليبي للسيطرة على معبر “الدبداب” الحدودي مع الجزائر والتي تبسط كتيبة 17 سيطرتها عليه، ومعبر “وازن” مع تونس؛ ولكن هذه الأهداف تتجاوز قدرة حفتر، خاصة وأن قائد الزنتان اللواء “أسامة الجويلي” لم يدعم حفتر علي الرغم من خلافاته مع الدبيبة؛ لأن مطار غدامس يقع تحت سيطرة قوة الزنتان التي يتحالف معها. كما يستبعد المراقبين أن يخطط حفتر لتطويق سلطات الغرب، نظرًا لصعوبة عسكريًا، فضلاً عن أن الوضع السياسي في البلاد ليس بحاجة إلي حرب أهلية جديدة، وبالتالي هناك صعوبة في تكرار هجوم طرابلس الذي نفذه قائد الجيش في 2019.
(&) أهداف روسيا: ربطت الأحداث الراهنة بأن الدور الروسي الداعم لقائد الجيش الليبي، قد تكون بهدف معاقبة الجزائر، نظرًا لدعمها للانفصاليين الطوارق وحلفائهم من المتشددين الإسلامين الذي يشاع أنهم مدعومين من قبل أوكرانيا، حيث تعرضت مجموعة “فاجنر” الروسية الداعمة للمجلس العسكري في مالي إلى خسارة عسكرية كبيرة، إذ قتل حوالي 80 شخص من المرتزقة الروسية. وعليه، هناك تقارير ودلالات تؤكد دعم موسكو لحفتر في السيطرة على المنطقة الحدودية بين ليبيا والجزائر وتونس، وذلك من خلال استقبال معدات جديدة في قاعدتي “الجفرة” و”براك الشاطئ” الجوية التي تبعد 700 كم جنوب طرابلس، خاصة وأن قائد الجيش يحظى بعلاقات قوية مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، فضلاً عن تقديم الدعم العسكري والسياسي له، بالإضافة إلى أن ليبيا تعد المقر الرئيسي لتمركزات “الفيلق الأفريقي” الروسي، نظرًا لموقعها الاستراتيجي علي البحر الأبيض المتوسط الذي يمكنها من مواصلة الإمداد العسكري للفيلق.
وعليه، تهدف روسيا من وراء دعمها لحفتر إلى مجموعة من الأهداف، أهمها: تعزيز نفوذها في منطقة الساحل والصحراء من خلال “الفيلق الأفريقي، فضلاً عن علاقاتها المتنامية مع كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ودعم حفتر قد يمنحها موقعًا استراتيجيًا قويًا في ليبيا، ويعزز من وجودها العسكري في المنطقة، بالإضافة إلي تعزيز مصالحها الاقتصادية، خاصة وأن ليبيا غنية بالنفط والغاز، وقد يتيح الوضع الراهن لروسيا اتخاذ الفرصة للاستثمار في القطاع النفطي، كما ترغب روسيا في تقليص النفوذ الغربي، خاصة الفرنسي والأمريكي، حيث تسعي موسكو إلى جعل نفسها قوة دولية مؤثرة.
أطراف متشابكة:
شهدت العلاقات الروسية-الجزائرية توترًا ملحوظًا في الفترة الأخيرة بعد سنوات من التحالفات التاريخية بين البلدين في مختلف المجالات، وذلك نتيجة لما يحدث على الحدود الجزائرية الليبية، حيث تتخوف الجزائر من تحركات الجيش الوطني الليبي المدعوم من “الفيلق الأفريقي” الروسي؛ لأن ذلك يؤثر على دور الجزائر في منطقة الساحل، حيث ساهمت روسيا في إعلان المجلس العسكري الحاكم في مالي إنهاء “اتفاق السلام” المُوقع عام 2015 في الجزائر مع الجماعات الانفصالية الشمالية (الطوارق)، الأمر الذي يقوض من نفوذ الجزائر في دول الساحل والحدود مع ليبيا.
وعليه، ترفض الجزائر دعم روسيا لحفتر في منطقة الجنوب الغربي، وتحديدًا مدينة غدامس، خاصة وأن استقرار ليبيا يعد أمرًا حيويًا لأمن الجزائر، لذلك أي تصعيد في النزاع قد يؤدي إلى تداعيات أمنية، مثل تدفق المقاتلين أو النزاعات المسلحة عبر الحدود، فضلاً عن أن التوترات في ليبيا قد تؤثر على المصالح الاقتصادية الجزائرية، وخاصة في مجال الطاقة والتجارة، حيث ترغب شركة “سوناطراك” الجزائرية المتخصصة في مجال الاستكشاف النفطي في عودة أنشطة الشركة التي توقف عملها منذ 8 سنوات، بالإضافة إلي ذلك يؤثر المعبر الحدودي (غدامس-الدبداب) المغلق بين البلدين علي حركة التجارة الجزائرية، لذلك زار رئيس حكومة الوحدة الحدود الليبية الجزائرية، وأعلن نيته فتح المعبر الحدودي الذي أغلق منذ الثورة الليبية في فبراير 2011، وقد فُتح المعبر بشكل مؤقت في عام 2015، إلا أن التوترات الأمنية تسببت في عرقلة حركة المواطنين في المعبر الرئيسي.
ومما سبق، تعتبر الأزمة الليبية من أبرز القضايا التي تتباين فيها سياسة روسيا مع الجزائر، حيث يدعم كل طرف منهما الطرف المقابل في الصراع القائم بين سلطتي الغرب الليبي (حكومة طرابلس) والشرق بقيادة الجنرال حفتر.
التداعيات المحتملة:
قد يترتب على دعم روسيا لقائد القوات المسلحة الوطنية الليبية “خليفة حفتر”، في مثلث غدامس الحدودي الاستراتيجي، العديد من التداعيات المحتملة، يمكن توضيح أبرزها فيما يلي:
(-) التوترات الإقليمية: قد يترتب على دعم موسكو لحفتر العديد من التوترات الإقليمية في منطقة المغرب العربي وشمال أفريقيا، كما تتصاعد التوترات مع الفصائل الأخرى في ليبيا، ومع الدول التي تدعم حكومة الوحدة المعترف بها دوليًا، فضلاً عن أن تعزيز القوة العسكرية لحفتر قد يزيد من فرص السيطرة على مناطق جديدة في ليبيا، الأمر الذي يزيد من تفاقم الصراع الداخلي، بالإضافة إلي تنامي التوترات مع دول الجوار، خاصة وأن الصراع قد يتسبب في تدفق اللاجئين أو دعم بعض الفصائل المسلحة في المنطقة، مما يشكل تحديات أمنية للجوار الليبي وتحديدًا تونس والجزائر.
(-) تنامي الانقسامات الداخلية: استمرار دعم روسيا لحفتر، فضلاً عن التداخلات الأجنبية، قد ينتج عنه انقسامات في الداخل الليبي، وبالتالي حدوث انقسامات قد تعزيز من دور القبائل من خلال انقسامها لطرفين إحداهما موالي حفتر والطرف الآخر داعم للدبيبة، بالإضافة إلى أن الانقسامات قد تأجيج من الصراعات المسلحة بين المجموعات المختلفة، الأمر الذي قد يجعل المفاوضات السياسية أكثر تعقيدًا، مع تباين المواقف بين الأطراف المختلفة.
(-) زيادة التنافس الغربي: قد ينتح عن الدور الروسي في أزمة الجنوب الغربي الليبي، ردود فعل متباينة من قبل القوي الغربية التي لديها مصالح في ليبيا، مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي قد يُعقد الوضع السياسي في المنطقة. وعليه، قد تزيد القوي الغربية من ضغطها علي الأطراف المتنازعة من أجل تطويق التغلغل الروسي.
(-) التنافس مع تركيا: قد يخلف التباين في المواقف بين روسيا وتركيا توترًا في العلاقات بين البلدين، نظرًا لدعم تركيا لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس، في مقابل دعم روسيا للجيش الوطني، الأمر الذي يجعل العملية السياسية والعسكرية أكثر تعقيدًا، ويؤدي إلى صراع على المصالح بين موسكو وأنقرة، خاصة في مجالات التعاون الاقتصادي والتجاري، والتنافس على الموارد الطبيعية والنفوذ الإقليمي. ومع ذلك. فإن تأثير الخلاف حول ليبيا على العلاقات بين البلدين قد يكون محدودًا؛ لأن البلدين تحافظ على وجود علاقات براغماتية رغم الخلافات.
وختامًا، يمكن القول إن الدعم الروسي لقائد الجيش الليبي “خليفة حفتر”، قد يعرقل من أي جهود قائمة لتسوية الأزمة الليبية، فضلاً علي أن قوات حفتر قد تواجه تحديات عدة في السيطرة علي مناطق الجنوب الغربي الليبي سواء من قبل حكومة الوحدة والدول الموالية لها أو الجماعات المسلحة المنافسة الأخري. كما قد يؤثر دعم حفتر بشكل كبير علي العلاقات الروسية-الجزائرية، خاصة في حال تعرضت المصالح السياسية والاقتصادية الجزائرية لأي تهديدات، لذلك تؤكد كافة المؤشرات المحلية والإقليمية والدولية علي الحاجة إلي حل سياسي شامل للصراع الليبي بين الأطراف الداخلية المتنازعة بعيدًا عن أي تدخلات خارجية قد تطيل من أمد الأزمة، لضمان نجاح الجهود الرامية إلي إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وتحقيق تطلعات الشعب الليبي في استقرار وأمن البلاد؛ لأن كافة الأطراف الخارجية تسعي لتعزيز قدراتها عبر الحلفاء الليبيين العسكريين، وفي حال سيطر حفتر علي مطار “غدامس” وهو أمر يصعب تحقيقه، فإن ليبيا سوف تصبح مرتكزًا رئيسيًا لروسيا في إفريقيا، والأماكن التي قد يسيطر عليها قائد الجيش الليبي تصبح موالية لموسكو.