المخاطر الجيواستراتيجية لاستمرار تأجير “دييغو غارسيا” بعد اتفاق موريشيوس أكتوبر 2024
في الـ3 من أكتوبر 2024 أعلنت “بريطانيا” وجمهورية موريشيوس” الإفريقية عن التوصل لاتفاق سياسي يقضي بتسوية النزاع حول جزر”تشاغوس” في المحيط الهندي، وتسليم سيادتها لـ “موريشيوس” بعد عامين من المفاوضات التي بدأت منذ نهاية عام 2022. يذكر أن بريطانيا حافظت علي سيطرتها علي تلك الجزر منذ عدة عقود وصنفتها كإقليم بريطاني في المحيط الهندي ورفضت بريطانيا أي مطالبات لـ”موريشيوس” بالسيادة عليها وتم إقامة قاعدة عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة الأمريكية في جزيرة “دييغوغارسيا” كبري جزر” تشاغوس” ذات الموقع الإستراتيجي منذ السبعينيات.
وعلي الرغم من استعادة “موريشيوس” السيطرة علي جزر “تشاغوس” بموجب هذا الاتفاق الأخير،- إلا أنجزر”دييغوغارسيا” ستظل موقعا للقاعدة العسكرية الأمريكية تحت إدارة بريطانية واستمرار الولايات المتحدة الأمريكية في استئجارها لفترة مبدئية مدتها 99 عاماً، وبناءاً عليه أصبح هذا الاتفاق بمثابة ضمان أمن وبقاء تلك القاعدة واستمرار التواجد الأمريكي، وإبراز قوته العسكرية بمنطقة المحيط الهندي. فقد أكدت تصريحات وزارة الخارجية البريطانية، أنه دون هذا الاتفاق الأخير فإن ” التشغيل الآمن طويل الأمد لتلك القاعدة العسكرية الحيوية سيكون في خطر خاصة في ظل التحديات القانونية المحتملة من المحاكم الدولية “، وكذلك الموقف الأمريكي حيث أشاد الرئيس “جوبايدن” بهذا الاتفاق للإبقاء علي القاعدة العسكرية تحت الإدارة البريطانية، واصفاً القاعدة بأنها ” تلعب دوراً حيوياً في الأمن الوطني والإقليمي والعالمي “.
تأسيساً علي ما سبق، يمكن طرح سؤال حول مدي مساهمة تلك القاعدة الأمريكية في زيادة حدة التنافس الدولي بمنطقة المحيط الهندي، وكذلك تداعيات الإبقاء عليها تحت السيطرة الأمريكية في ظل التطورات الجيواستراتيجية، خاصة بمنطقتي المحيط الهندي والشرق الأوسط .
قاعدة إستراتيجية:
تعتبر القاعدة العسكرية الأمريكية بجزيرة “دييغوغارسيا” من أبرز القواعد العسكرية الأمريكية، نظراً لتواجدها بمنطقة المحيط الهندي ذات الأهمية الجيوسياسية، حيث أنها تتواجد بالقرب من منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا والساحل الشرقي لإفريقيا وكذلك خليجي البصرة وعدن، وهو ما يزيد من أهميتها الإستراتيجية. كما أن الموقع النائي والمنعزل لجزر” دييغوغارسيا ” يُعد من الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة تختاره لإنشاء قاعدتها العسكرية، ومن ثم سهولة حمايتها والحفاظ علي سريتها. يذكر أن هذه القاعدة العسكرية دوراً محورياً في العديد من العمليات العسكرية الأمريكية منذ فترة الحرب الباردة لاحتواء التهديد السوفييتي حينها، كما أنها اعتبرت بمثابة مركز حيوي للعمليات الجوية الأمريكية ولإقلاع القاذفات الأمريكية خلال حرب الخليج الثانية وأثناء حرب الولايات المتحدة علي الإرهاب في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 في أفغانستان والعراق.
قدرات فائقة:
وصف بعض الخبراء التمسك الأمريكي بالتواجد في هذه الجزر بالقرار الإستراتيجي الاستخباراتي العسكري، فالولايات المتحدة تستخدم جزر” دييغو غارسيا ” كقاعدة عسكرية لسفنها البحرية، حيث أن مرفق الدعم البحري بقاعدة ” دييغوغارسيا ” يمنح الولايات المتحدة حاملة طائرات ثابتة، وغير قابلة للغرق في المحيط الهندي، كما أن القاعدة العسكرية بالجزر تعد بمثابة نقطة إنزال حيوية للقاذفات التي تسافر عبر آسيا بما في ذلك علي بحر الصين الجنوبي، حيث تستخدم القاعدة قاذفات القنابل الأمريكية العملاقة بعيدة المدى من طراز B52 ، B1،B2 والتي تطير جميعها علي ارتفاعات عالية للغاية، وهو ما يصعب علي القوات البرية رصدها، خاصة وأن مميزات بعضها كالـ B2 تجعلها تقريباً غير مرئية للرادار، ومن ثم تُمكن من الوصول إلي سلسلة من الأهداف البحرية والعسكرية الرئيسية والبعيدة المدى وبصورة دقيقة، هذا فضلاً عن إمكانية تحويل القاعدة إلي مركز للتصنت عبر نصب مجموعة من الأطباق التي تلتقط الإشارات من الأقمار الصناعية، والتنصت من خلالها علي الاتصالات والمواقع العسكرية لبعض الدول بالمنطقة .
تنافس وتهديد:
إن الإبقاء علي القاعدة الأمريكية العسكرية بجزر” دييغوغارسيا ” عبر أطر قانونية كالاتفاق الأخير بين “بريطانيا وموريشيوس”، قد يُنذر بزيادة حدة التنافس والتهديدات علي عدة جبهات، خاصة في ظل التطورات الجيوستراتيجية الراهنة، لاسيما بمنطقة المحيط الهندي، وكذلك أيضاً بمنطقة الشرق الأوسط. ففي ظل التنافس الدولي بمنطقة المحيط الهندي وعلي الرغم من المكاسب التي ستحصدها الولايات المتحدة من استمرار تواجد القاعدة بتلك الجزر،- إلا أنه في نفس الوقت قد يُعرض نفوذها بالمنطقة لبعض التهديدات، فالقاعدة تسمح بإبراز القوة الأمريكية و تعزز من الاستراتيجية الأمريكية البحرية بمنطقة المحيط الهندي، كما تُمكن الولايات المتحدة من حماية ممرات الشحن الحيوية التي تربط أوروبا بآسيا والسيطرة عليها للردع العسكري الصيني، ومواجهة النفوذ الصيني هناك. وعليه، تعتبر هذه القاعدة حصناً أمريكياً ضد الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادي. هذا فضلا عن أهميتها في تمكين الولايات المتحدة من التنسيق مع شركاءها في منطقة المحيطين الهندي والهادي وعلي رأسهم الهند التي أصدرت بيانات ترحيبية بذلك الاتفاق الأخير، فوجود القاعدة الأمريكية بتلك المنطقة يعد أمراً هاماً بالنسبة للهند في ظل التواجد البحري للصين وضرورة ردع حضورها في المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي.
لكن في مقابل ما سبق ذكره يخشى البعض من أن يكون ذلك بداية لمد النفوذ الصيني للجزر بعد تسليم سيادتها لـ “موريشيوس” ذلك بفضل العلاقات الاقتصادية المتنامية التي تجمعها بالصين فبحسب تصريحات لـ ” توم توجندهات ” وزير الأمن البريطاني السابق أنه من الممكن أن يترتب علي تسليم سيادة جزر” تشاغوس” لـ “موريشيوس”أن تقيم الصين قاعدة عسكرية في “تشاغوس”، وبحسب “التايمز” فمن الممكن أن تؤجر”موريشيوس” بعض الجزر للصين تحت إطار مبادرات الصين لتمويل التنمية في الدولة الأفريقية، ومن ثم قد تتمكن الصين من مد نفوذها هناك، وهو ما لا يأتي في صالح الولايات المتحدة وشركائها بالمنطقة، وكذلك زيادة قدرة الصين في الحصول علي معلومات استخباراتية عن منشآت الدعم البحري الأمريكي بالجزر من خلال إنشاءها لأجهزة تصنت بالقرب من القاعدة العسكرية، ما يهدد بدوره مصالح الأمن القومي والوضع العسكري الأمريكي الحساس في منطقة المحيط الهندي.
أما عن الشرق الأوسط فلم يكن ببعيد عن تهديدات تلك القاعدة العسكرية، فكما استخدمتها الولايات المتحدة بالعراق في حربها علي الإرهاب، وكما هدد ” دونالد ترامب ” باستخدامها لردع ومجابهة إيران بعد مقتل ” قاسم سليماني “، ففي ظل التصعيد المستمر بالمنطقة في الوقت الراهن، فمن الممكن أن تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية كورقة في ردع إيران حال التصعيد. فهناك بعض بيانات لمواقع أوروبية تفيد أن تلك القاعدة العسكرية، بإمكانها أن تطلق القاذفات المجنحة B52 والتي تستطيع أن تصيب كافة الأهداف المطلوبة داخل إيران بدون أن تدخل القاذفة ضمن نطاق تأثير وسائط الدفاع الجوي الإيرانية، وقد أكدت الضربات الدقيقة للقوات العسكرية الأمريكية في 17 أكتوبر2024 علي إمكانية حدوث ذلك، حيث استهدفت تلك الضربات مواقع تخزين أسلحة تحت الأرض تابعة للحوثيين في اليمن مستخدمة قاذفات B2 القادرة علي حمل القنابل القادرة علي الاختراق بشكل أعمق مستعرضة بذلك مدي قدرة وصول القاذفات الأمريكية علي مستوي العالم. وعلي الرغم من عدم تقديم أي تفاصيل عن المكان الذي انطلقت منه الطائرات، إلا أن هناك ترجيح أن تكون تلك الضربات أتت إما من خلال القاعدة الأمريكية في قاعدة ” وايتمان ” الجوية بولاية ” ميسوري ” أو قاعدة ” دييغوغارسيا ” خاصة وأنها تستخدم قاذفاتB2 التي تم استخدامها بالإست هداف الأخير للحوثيين فضلاً عن قربها من خليج عدن .
ختاماً، نري أن بقاء القاعدة العسكرية الأمريكية في ” دييغوغارسيا ” من شأنه أن يزيد من حدة التنافس بمنطقة المحيط الهندي بين الولايات المتحدة وشركاءها من جهة والصين من جهة أخري، فالقاعدة الأمريكية بالمحيط الهندي في خضم التنافس بينهم قد تخلق فرصاً إستراتيجية لصالح الولايات المتحدة وشركائها من ناحية ولصالح الصين من ناحية أخري، وكذلك فإن استمرار التواجد الأمريكي من خلال تلك القاعدة العسكرية سيكون له من التداعيات علي حدة المشهد الحالي بمنطقة الشرق الأوسط ما ينذر بالتصعيد في حال إذا ما استخدمت الولايات المتحدة تلك القاعدة لمجابهة وردع أعدائها بمنطقة الشرق الأوسط لاسيما إيران وجماعة الحوثيين في اليمن فحسب بل بسوريا والعراق أيضا.