بعد نشر الصحة العالمية لتقرير “COVID-19”.. هل تتجدد الأزمة بين واشنطن وبكين؟
عبرت الولايات المتحدة وأربعة عشر دولة أخرى عن مخاوفهم عقب إعلان منظمة الصحة العالمية عن تقريرها رسميا حول مصدر فيروس كورونا (COVID-19)، والذي بلغت حصيلة اصاباته حول العالم حتى الآن أكثر من (130) مليون شخص مصاب، وأودى بحياة ما يقرب من ثلاثة ملايين إنسان، فيما تتصدر الولايات المتحدة قائمة الدول الأكثر تضررا، تليها البرازيل والمكسيك والهند وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا ثم إسبانيا.
وفي ظل ما تضمنه التقرير، وتأخر صدوره من قبل منظمة الصحة العالمية- يبقى السؤال: ما هي احتمالات تطور السجال بين الولايات المتحدة والصين بعد صدور هذا التقرير؟ وهل يمكن أن تتجدد الأزمة بين الطرفين بعد استمرار التبريرات الصينية؟.
فحوى التقرير:
عقب مهمة بدأت منذ 14 يناير2021، واستمرت مدة أربعة أسابيع أمضاها مجموعة من خبراء منظمة الصحة العالمية في الصين، تمكنوا خلالها من زيارة معهد ووهان لعلم الفيروسات، بما في ذلك مختبر (بي إس إل-4) -الذي ارتبط بشائعات عن تسرب فيروس كورونا (COVID-19)- ومستشفى وسوق (هوانان) للمواد البحرية، وكذلك مركز المراقبة والوقاية من الأمراض.
وفي 30 مارس2021، نشرت النسخة الكاملة من تقرير منظمة الصحة العالمية حول المصادر المحتملة لفيروس كورونا (COVID-19)، والتي حددها الخبراء في أربعة احتمالات، وهي: (1) “أن خفاشا يحمل الفيروس أصاب إنسانا بالعدوى، (2) أو أن خفاشا أصاب حيوانا من الثدييات كان وسيطا في نقل العدوى للإنسان، (3) أو شحنات من الأطعمة الباردة أو المجمدة، (4) أو مختبر لأبحاث الفيروسات في ووهان”، وبعد مناقشة متعمقة رجح خبراء منظمة الصحة العالمية، وجود مسارين محتملين لانتقال الفيروس، الأول: انتقال الفيروس عبر شحنات من الأغذية المجمدة، والثاني: انتقاله من الخفافيش إلى البشر عبر حيوان آخر، مع زيادة ترجيح المسار الأخير، وهو الافتراض نفسه الذي توصل إليه مؤخرا فريق من علماء المملكة المتحدة وألمانيا والولايات المتحدة أيضا.
ردود متعارضة:
وقد أثار تأخر صدور تقرير منظمة الصحة العالمية حول مصدر فيروس كورونا (COVID-19)، شكوك مزدوجة لدى كلا من واشنطن وبكين، إذ أعربت الأولى عن قلقها من تحريف استنتاجات التقرير لمنع اتهام بكين بالتسبب في انتشار الفيروس، خاصة ما يثار حول النفوذ الصيني في منظمة الصحة العالمية، والذي كان من بين الأسباب التي دفعت الرئيس الأمريكي السابق “ترامب” إلى إعلانه انسحاب بلاده من منظمة الصحة العالمية، في 6 يوليو 2020، إلا أن الرئيس الحالي “جو بايدن”، تراجع عن هذا القرار فور تسلمه السلطة في يناير 2021.
وفور صدور تقرير منظمة الصحة العالمية، قال متحدث الخارجية الأمريكية، “نيد برايس”، “أنه لا يمكن لشخص عقلاني أن يقول بنشأة الفيروس في مكان آخر غير الصين”، في الوقت ذاته اتهمت المتحدثة باسم البيت الأبيض “جين ساكي”، الصين بأنها لم تكن متعاونة أو شفافة فيما يخص التعامل مع أزمة وباء كورونا، وأن تقرير منظمة الصحة العالمية لا يلبي التطلعات، كما اعتبر مستشار الأمن القومي الأمريكي “جيك سوليفان” أنه يجب أن يكون التقرير مستقلا وخاليا من أي “تغيير تجريه الحكومة الصينية”.
بالمقابل ردت بكين، وعلى لسان خبير باللجنة الوطنية للصحة العالمية بالصين “إن فيروس كورونا المستجد، ربما كان ينتشر في مناطق أخرى قبل رصده في مدينة ووهان بوسط البلاد في أواخر عام 2019، وأن الصين أكدت مرارا على أن تقفي منشأ الفيروس مسألة علمية يتعين القيام بها بشكل مشترك من قبل العلماء في العالم ولا ينبغي تسييسها.
وكانت الصين قد استبقت صدور تقرير منظمة الصحة العالمية، وأطلعت في 26 مارس 2021، عدد من الدبلوماسيين الذين حضروا بمقر وزارة الخارجية الصينة -ممثلين لأكثر من خمسين دولة، ومنظمات إقليمية وقارية- على ما توصلت إليه دراسة مشتركة مع منظمة الصحة العالمية، حول أصول فيروس كورونا (COVID-19)، وهو ما الذي أكده التقرير.
تأسيسا على ما سبق، ووفقا لما تضمنه التقرير السابق ذكره، يمكن الإشارة إلى أن الصين اتخذت الخطوة السابق ذكرها لعدد من الأسباب، أهمها:
(*) تأكيد الصين على عدم مسؤوليتها عن انتشار فيروس كورونا، وإطلاع المجتمع الدولي على وجهة نظرها بهذا الشأن.
(*) رفض أي نتائج يمكن أن يتضمنها التقرير قد تحُمل الصين- صراحة أو ضمنا- المسؤولية عن تفشي الفيروس.
(*) إعراب الصين عن شكوكها حول إمكانية تسيس تقرير منظمة الصحة العالمية، على خلفية الخلافات بين واشنطن و بكين.
(*) سعي الصين إلى كسب دعم دولي، في حال ما وجهت اتهامات إليها بالمسؤولية الفعلية عن انتشار الفيروس.
(*) التأكيد على مصداقية المعلومات التي نشرتها الصين منذ بداية ظهور الفيروس، والتي قد تتوافق مع استنتاجات التقرير المزمع نشره.
سيناريوهات محتملة:
فى ضوء ما تقدم، فإن مآلات السجال بين واشنطن وبكين بعد نشر تقرير منظمة الصحة العالمية حول مصدر انتشار فيروس كورونا (COVID-19)، يمكن أن تأتي وفق السيناريوهات التالية:
(&) السيناريو الأول، انتظار الحسم: وهنا يمكن القول إنه رغم أن تقرير منظمة الصحة العالمية حسم الجدل بشأن انتقال الفيروس من الخفافيش، إلا أن الولايات المتحدة ترى انتظار ما تسفر عنه التحقيقات والأبحاث في المستقبل، في ظل عدم توافر المعلومات الكافية التي تحدد المصدر الأصلي للفيروس، مما يجعلها تنتظر نتائج الأبحاث والتحقيقات قبل توجيه اتهامات رسمية إلى للصين بالمسؤولية عن انتشار الفيروس. وهو الأمر المرجح من قبل الصين ومنظمة الصحة العالمية أيضا، مما يدفع بالمزيد من التعاون في سبيل مكافحة هذا الفيروس من ناحية، والسعي للوصول إلى المزيد من الحقائق حول كيفية انتشار فيروس كورونا (COVID-19)، من خلال إجراء المزيد من الأبحاث في المستقبل، من ناحية أخرى.
(&) السيناريو الثاني، استمرار الشكوك: إذ أعربت الولايات المتحدة عن شعورها “بقلق بالغ” إزاء طريقة التعبير عن نتائج تقرير المنظمة بهذا الخصوص، الذي وضعته قيد الدراسة من الخبراء الأميركيين بانتظار ما سوف يتم بشأنه فيما بعد، داعية الصين إلى إتاحة بيانات الأيام الأولى للجائحة، والتي تتخذها واشنطن ذريعة لاتهام بكين بالتباطؤ في الإعلان عن انتشار الفيروس، في الوقت ذاته أبقى المدير العام لمنظمة الصحة العالمية “تيدروس أدهانوم جيبريسوس” جميع الافتراضات بشأن مصدر كورونا (COVID-19) لا تزال مطروحة، مما يعزز الشكوك الأمريكية أكثر، ومع استمرار عدم الحسم، يمكن أن تتخذ الولايات المتحدة بعض العقوبات الاقتصادية ضد الصين، مما يدفع الأخيرة باتخاذ إجراءات مضادة للرد عليها، ويظل هذا السجال مستمرا، حتى التوصل إلى نتائج مؤكدة حول المسؤول عن انتشار فيروس كورونا.
(&) السيناريو الثالث، توجيه الاتهام رسمياً: ويحدث هذا السيناريو في حال ما توصلت الولايات المتحدة إلى أي أدلة ملموسة يمكن أن تشير إلى احتمالية مسؤولية الصين عن تفشي فيروس كورونا (COVID-19)، خاصة وأن واشنطن سبق واتهمت بكين بأنها لم تكن متعاونة أو شفافة فيما يخص التعامل مع هذه الأزمة منذ البداية، وشككت كذلك في العلاقة بين بكين ومنظمة الصحة العالمية، يعزز هذه الشكوك تأخر إعلان الصين عن انتشار الفيروس في بداياته الأولى، وكذلك اتهام المنظمة بتأخر الإعلان عن التقرير لمحاولة تحريف نتائجه.
وفي حال ثبوت مسؤولية الصين عن تفشي فيروس كورونا (COVID-19)، وانتشاره في العالم، وتوجيه الولايات المتحدة الاتهام للصين رسميا، قد يترتب على ذلك مطالبة الصين بتقديم تعويضات فلكية؛ نتيجة ما تكبده الاقتصاد العالمي عامة والأمريكي خاصة، من خسائر فادحة بسبب هذا الفيروس، والتي توقعت وكالة بلومبيرغ أن الاقتصاد العالمي قد تصل خسائره إلى (10) ترليونات دولار.
وفي حال ما أصرت الولايات المتحدة على تحميل الصين المسؤولية عن انتشار فيروس كورونا (COVID-19)، يحتمل قيام واشنطن باتخاذ إجراءات أحادية ضد الصين، من قبيل تجميد الأرصدة الصينية لدى الولايات المتحدة، يمكن أن تعتبره بكين بمثابة إعلان حرب ضدها، قد يدفعها ذلك إلى القيام برد غير محسوب العواقب، يدخل العالم على أثره في مرحلة شديدة الخطورة.
في النهاية، لا يؤشر تقرير منظمة الصحة العالمية المعلن عنه مؤخرا، عن أية بادرة لنهاية هذه الأزمة، والتي لا تزال مآلاتها بعيدة عن التوقعات، ومن المتعذر توقع متي ستكتب نهايتها، أو على الأقل انحسارها، ويبدو أن طريق زوالها، ما يزال طويلا وشاقا وقد يكون مكلفا، خاصة مع الدخول في موجة ثالثة ورابعة، والتي تدفع الجميع إلى النظر بكل اهتمام لأية تفاصيل حول العلاج الفعال الذي يمكنة مساعدة الناس في العودة إلى ممارسة حياتهم الطبيعية.
وما زالت أزمة انتشار فيروس كورونا (COVID-19)، تثير الكثير من الإشكالات بين الصين والولايات المتحدة، يحتمل أن تصل بالبلدين إلى صراع حقيقي، إذا ما أقدمت الولايات المتحدة على تجميد الأموال الصينية لديها، إذ تعد الصين أكبر دائن للولايات المتحدة بديون تصل قيمتها لثلاثة ترليونات دولار.
لكن المؤكد في الوقت ذاته، أن موازين القوى الكبرى قبل انتشار فيروس كورونا (COVID-19)، لن تكون كما هي بعده، إذ تدل الشواهد الناتجة عن تداعيات انتشاره، أن العالم أصبح أمام نظام جديد يتشكل، وأن موازين القوى العالمية في سبيلها للتغير، خاصة بعد تراجع قدرة الولايات المتحدة على التدخل في العالم عسكريا، واستمرار تراجعها اقتصاديا، ما يجعل السطوة الأمريكية الأحادية على العالم، تتفلت شيئا فشيئا.