مسار العلاقات بين واشنطن وإسرائيل بعد أزمة نتنياهو
دخلت واشنطن مؤخرا على خط أزمة التعديلات القضائية في إسرائيل، وهي أزمة لم تقتصر تداعياتها على الداخل الإسرائيلي فحسب، فالتعديلات القضائية التي تسعى حكومة نتنياهو لإقرارها قد أثارت ردود فعل أمريكية. حيث حذرت واشنطن من تداعيات المواجهة القضائية في إسرائيل، وحثت الحكومة الإسرائيلية على التراجع، وهو الموقف الذي لم يرُق لنتنياهو وسارع بالرد عليه.
يذكر أن التعديلات القضائية التي يريد نتنياهو تمريرها تمنح الحكومة نفوذا كبيرا في اختيار القضاة وتحد من سلطة المحكمة العليا.
وتأسيسا على ذلك، يسلط هذا التحليل الضوء على الخلاف الدائر حاليا بين إدارة بايدن والحكومة الإسرائيلية، وأسبابه، ومآلاته المحتملة.
توتر غير مسبوق:
أعلنت إدارة بايدن على لسان عدد من المسئولين الأمريكان، وعلى رأسهم بايدن، عن رفضهم للإصلاحات القضائية التي تنوي الحكومة الإسرائيلية تمريرها، وهو ما عبر عنه بايدن قائلا ” لا يمكنهم الاستمرار في هذا الطريق، وأنا على أمل أن يتصرف رئيس الوزراء بطريقة تمكنه من التوصل إلى حل وسط حقيقي “، لكن هذا لم يتضح بعد. بما يشير إلى أن بايدن لا يثق في نتانياهو.
حتى إن كمالا هاريس نائبة الرئيس الأمريكي قالت إن العمود الفقري للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية هو الديمقراطية، وهو ما بات مهددا بسبب الإصلاحات التي يريدها نتنياهو، الذي يريد أن يضع السلطات الثلاث في يد من يحكم، وهو أمر محرج لبايدن وواشنطن باعتبارها تصنف نفسها كحامية للديمقراطية حول العالم.
كما أشارت وسائل إعلام إسرائيلية إلى أن مسئولين أمريكان حذروا في وقت سابق نتنياهو من استفزاز بايدن، وأشارت أيضا إلى أن بايدن بعث برسالة سرية من خلال السفير الأمريكي في إسرائيل عبر خلالها عن غضب واشنطن من إقالة نتنياهو لوزير الدفاع يوآف جالنت، وهو ما دفع بايدن إلى تصعيد اللهجة ضد الحكومة الإسرائيلية.
ووفقا لتقارير غربية، فإن مستشاري بايدن اقترحوا عليه استبعاد إسرائيل من مؤتمر الديمقراطية كأداة للضغط عليه، لكن يبدو أنه سيتم استبعاد تلك الفكرة بعد إعلان تجميد عملية التعديل والبدء في مفاوضات مع المعارضة.
وتم تسريب مسودة رسالة تم تداولها بين المشرعين الديمقراطيين، طالبوا فيها بايدن ووزير الخارجية بالنظر فيما إذا كانت إسرائيل تستخدم القوة بشكل ينتهك القوانين الأمريكية. كما طالبوا بتغيير السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل، خاصة فيما يتعلق بالتجاوزات الداخلية من ضم مناطق جديدة أو توسيع المستوطنات. وأيضا ضمان ألا تدعم أموال دافعي الضرائب الأمريكية مشاريع في مستوطنات غير قانونية، وتعزيز الرقابة بحيث لا يستخدم جميع الدعم المقدم إلى إسرائيل بما في ذلك السلاح في انتهاك حقوق الإنسان.
كما استدعت واشنطن السفير الإسرائيلي لديها بعدما ألغى الكنيست بنودا في قانون فك الارتباط 2005، المتعلق بالانسحاب من قطع غزة وإخلاء بعض المستوطنات في الضفة الغربية، واعتبرته واشنطن أمرا ” تحريضيا “.
حتى وصل الأمر في الأخير إلى إعلان الرئيس الأمريكي عن أنه لا ينوي استضافة رئيس الوزراء الإسرائيلي في البيت الأبيض على المدى القريب.
وردا على الموقف الأمريكي، خرج نتنياهو ليلا عقب تصريحات بايدن مباشرة بسلسلة من التغريدات بأن إسرائيل دولة ذات سيادة تتخذ قراراتها بناء على إرادة شعبها وليس بمجرد ضغط من الخارج ” حتى من أفضل الأصدقاء “. وفي السياق ذاته رد وزير الأمن القومي إتمار بن غفير أيضا على تصريحات بايدن، وقال ” إن بايدن وإدارته بحاجة إلى فهم أن إسرائيل دولة مستقلة وليست مجرد نجمة على العلم الأمريكي “.
كما اتهم يائير نتنياهو نجل رئيس الوزراء الإسرائيلي واشنطن بأنها تقدم الدعم المالي لبعض المتظاهرين الإسرائيليين، الأمر الذي دعا السفير الأمريكي للخروج وتكذيب ما قيل.
وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن نتنياهو طالب لوزرائه بعدم الالتقاء بمسئولين أمريكان حتى يوجه له البيت الأبيض دعوة رسمية للزيارة.
ولا يزال التوتر في تصاعد مستمر بين بايدن ونتنياهو، على الرغم من تراجع الأخير وإعلانه إرجاء التعديلات القضائية، في ظل الضغوط الأمريكية واستمرار الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي. وقد يكون السبب في ذلك أن بايدن يعلم أن ما فعله نتنياهو والأحزاب اليمينية الأخرى المتحالفة معه ليس تراجعا عن الفكرة وإنما فقط إرجاء للتعديلات لحين إشعار آخر، حيث من المتوقع أن تطرح مرة أخرى في الدورة البرلمانية الشهر الجاري. وبالتالي فإن التراجع الإسرائيلي كان شكليا بالنسبة إلى بايدن.
مبررات بايدن:
حتي الآن تصر الإدارة الأمريكية على العدول نهائيا عن فكرة التعديلات، وذلك لعدة أسباب، أهمها: أن نتنياهو من مصلحته تمرير الإصلاحات القضائية التي تمنحه الحماية من الأحكام القضائية الصادرة بحقه في قضايا فساد، بالذات في ظل ضغوط حلفائه من اليمين المتطرف على اعتبار أنهم قادرين علي الإطاحة به. كما أن بايدن سبق وأن وجه عدة ملاحظات إلى نتنياهو إلا أن الأخير لم يأخذ بها، كأن يستمع إلى أصوات المتظاهرين والمعارضة، الأمر الذي بدى مستفزا للرئيس الأمريكي. ناهيك عن رفض نتنياهو المشاركة في الاجتماع الذي جمع الأحزاب اليمينية الذي دعا إليه الرئيس الإسرائيلي هيرتسوغ من أجل التوصل إلى حل وسط.وعليه، فإن بايدن يريد تحجيم نتنياهو.
حتى وصل الأمر إلى معركة كلامية مفتوحة، ومعنى أن يخرج الرئيس الأمريكي ويستخدم مثل تلك الكلمات فهذا يعني أنه لم يستطع تحقيق ما أراده خلف الكواليس، وهي في حد ذاتها نقلة غير عادية في سياق العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، خاصة وأنجُل تصريحات بايدن تشير إلى عدم ثقته في رئيس الوزراء الإسرائيلي، حتى وصل الخلاف إلى إعلان الرئيس الأمريكي أنه لم ينوي استضافة نتنياهو في البيت الأبيض على المدى القريب.
ولا يمكن إغفال أن حكومة بايدن يبدو أنها لم تفضل منذ البداية تولي حكومة يمينية في إسرائيل، فقد انتظر نتنياهو ستة أيام حتى أتته مكالمة بايدن لتهنئته على الفوز في الانتخابات، وهو بدون شك تأخر محمل برسائل.
كما نقل موقع ” أكسيوس ” أن إدارة بايدن لا تريد التعامل مع وزير الأمن القومي، خاصة بعد اقتحام باحات المسجد الأقصى، الذي تلاه زيارات متعددة لمسئولين أمريكان مثل أنتوني بلينكن وجاك سوليفان وويليام بيرز في عز التصعيد الإسرائيلي في جنين. كما تعترض إدارة بايدن أيضا على وزير المالية الإسرائيلي سموترتش، الذي أنكر وجود فلسطين والفلسطينيين، الأمر الذي لم تقبله الإدارة الأمريكية ووصفت تصريحاته ب ” المقلقة والخطيرة “.
كما انتشرت تقارير إعلامية تفيد بأن نتنياهو والأحزاب اليمينية في الائتلاف الحاكم يريدون تشكيل ما يشبه بالمليشيات، وهو ما يقلق واشنطن، خاصة مع وجود قلاقل في الحكومة الائتلافية الإسرائيلية.
فضلا عن أن هذا خلاف حكومة نتنياهو الأول مع الإدارة الديمقراطية، ففي 2012 رفض البيت الأبيض طلب نتنياهو لقاء أوباما خلال وجوده في نيويورك من أجل التنسيق بشأن شن هجوم ضد المنشأة النووية الإيرانية. وفي 2015 ، توترت العلاقات بينهما مرة أخرى بسبب اعتراض الحكومة الإسرائيلية على توقيع الاتفاق النووي الإيراني. حتى ألغيت بعدها زيارة أخرى إلى نتنياهو في 2016 في عام الانتخابات الأمريكية.
مآلات التصعيد:
لا يتوقع أن يؤثر السجال الدائر بين بايدن ونتنياهو على العلاقات الإسرائيلية الأمريكية بوجه عام، حتى أن ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي أعلن أن نتنياهو أوعز إلى حكومته بعدم الرد أو التعقيب على تصريحات بايدن، كما أكد أن السجال الراهن بينهما لن يؤثر على التحالف التاريخي، ووصف ما حدث بأنه ” خلافات عارضة “، في محاولة لامتصاص غضب واشنطن.
وقد جاءت الخلافات بعد تشكيل حكومة جديدة من الأحزاب اليمينية، وفي وقتتشن فيه إسرائيل هجمات على مواقع في دمشق، وتستمر في تنفيذ أنشطة تستفز إيران، كان آخرها مقتل ضابط في الحرس الثوريبما يهدد استقرار المنطقة. ولهذا فمن الممكن أن يترك الخلاف الحاليبين واشنطن وتل أبيب صداه على بعض ملفات المنطقة.
أضف إلى ذلك، أن التوتر الراهن من شأنه أن يؤثر على طريقة التعاطي مع بعض الملفات المشتركة، ويأتي على رأسها الضفة الغربية والتصعيد فيها، لأن حكومة بايدن منذ بدايتها تحذر من تكرار التصعيد مع الفلسطينيين، خاصة فيما يتعلق بالأنشطة الاستيطانية، بالذات بعد قانون فك الارتباط واستدعاء السفير الإسرائيلي.
إلى جانب ملف التطبيع، بالنظر إلى أن هناك مساعي حثيثة من نتنياهو للتطبيع مع السعودية، كذلك ملف تحجيم إيران عسكريا، وبالتالي قد تستخدم حكومة بايدن هذه الملفات من أجل كبح جماح حكومة نتنياهو خلال الفترة المقبلة.
حدة الخلافات قد تكون لها تأثير في الانتخابات الأمريكية المقبلة، وبايدن قد يكلفه الأمر كثيرا، ولأنه يدرك ذلك، أكد في أكثر من مناسبة أن في إسرائيل يعلموا الموقف الأمريكي والأمريكي اليهودي، في إشارة إلى أن يهود أمريكا يوافقون بايدن.
ختاما، فالحكومة الإسرائيلية الآن تقف على مفترق طرق، إما المضي قدما في التعديلات ومن ثم إحداث أزمة سياسية ودستورية قد تؤثر أيضا على العلاقات الخارجية لتل أبيب، أم العدول عن فكرة التعديلات القضائية التي أثارت الانقسامات في الداخل الإسرائيلي طيلة الفترة الماضية.وعلى أي حال، فإن الخلافات لا تقوض أساس العلاقات الأمريكية الإسرائيلية القائمة على القيم والمصالح في الشرق الأوسط بالتحديد.