لماذا تتوجه دول أوروبا إلي بكين؟
في إطار التطلع الأوروبي لحقبة جديدة من العلاقات الدولية، وفي خضم وضع سياسي دولي معقد، هرول عدد من زعماء القارة الأوروبية إلى الصين، في خطوة وصفها محللون بأنها جاءت ترسيخا وتثبيت النظام دولي متعدد الأقطاب.
وكان أهمها زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي أثارت بدورها لغطا سياسيا كبيرا بسبب تصريحات ماكرون، وأيضا زيارة رئيسية المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين من أجل بناء شراكات استراتيجية متعددة.
وتأسيسا على ذلك، يناقش هذا التحليل المبررات الأوروبية للتقارب مع الصين في هذا التوقيت،ودوافع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحديدا من الزيارة.
زيارات متعاقبة:
خلال الأسبوع الماضي، أجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زيارة هامة إلى الصين استمرت ثلاثة أيام، نوقشت فيها العديد من الملفات، أبرزها الحرب الأوكرانية والموقف من تايوان، إلى جانب توقيع بعض الاتفاقيات الاقتصادية التي تجعل الباب مواربا دوما مع بكين. كما اصطحب معه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في محاولة لاستبدال اللهجة الهجومية والمتشددة من قبل واشنطن بأخرى أوروبية أكثر هدوءً. ووفقا لهذا المشهد، قد تعود سردية التمييز بين أوروبا التقليدية وأوروبا الجديدة مرة أخرى.
وفي أعقاب زيارة ماكرون بأيام، ذهبت وزيرة الخارجية الإيطالية جورجيا ميلوني إلى الصين أيضا، بالتزامن زيارة وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل إلى بكين، ومعه وزيرة الخارجية الألمانية.
ومن اللافت أن زيارات المسئولين الأوروبيين لم تتم بشكل فردي، فقد جمعت ما بين ممثل عن دولة أوروبية بعينها وممثل عن التكتل الأوروبي ككل، في إشارة إلى تناسق الأهداف بين الجانبين من جهة، ومن أجل موازنة الثقل الصيني بثقل أوروبي مماثل خلال اللقاءات من جهة أخرى. كما قد يكون الهدف من ذلك هو التأكيد أيضا عن بعض أفكار التكتل التي قد لا يسع مسئولي الدول التعبير عنها بشكل فردي خلال الزيارة، مثل أوضاع حقوق الإنسان. وقد يحاول المسئولون الأوروبيون تلافي أي سوء فهم للموقف الأوروبي تجاه ملف تايوان عقب تصريحات ماكرون التي وصفت بـ ” غير المسئولة “.
وجدير بالذكر أن المستشار الألماني أولاف شولتز سبقهم لزيارة بكين التي لم يمضِ عليها كثير من الوقت لتعزيز التعاون الاقتصادي وبحث تطورات الحرب الأوكرانية.
وجاءت زيارات المسئولين الأوروبيين إلى الصين، في وقت تجري فيه بكين مناورات عسكرية حول جزيرة تايوان، ردا على زيارة رئيستها للولايات المتحدة. وفي وقت أيضا يتم فيه تداول تقارير غربية عن الإعداد لهجوم أوكراني مضاد على روسيا من شأنه أن يزيد من تعقيد المشهد بصورة أكبر في ظل احتدام المعركة العسكرية في باخموت.
الأمر الذي قد يؤشر إلى أن زيارات المسئولين الأوروبيين تحمل في طياتها إشارات حول الموقف الأوروبي إزاء هذين الملفين بالتحديد، بغض النظر عن كون موقف الاتحاد الأوروبي يتوافق والرؤية الفرنسية بالتحديد حول الملفين أم لا، إذ دعا ماكرون عقب عودته من بكين إلى اتخاذ موقف محايد من تايوان، إلى جانب الانتقادات الغربية والأوروبية لتقاعس باريس عن دعم أوكرانيا.
أجندة مشتركة:
ثمة مجموعة من الأهداف التي تسعي لتحقيقها الدول الأوروبية من خلال تعزيز علاقاتها بالصين، أبرزها:
(*) تسوية الحرب الأوكرانية: يبدو أن القادة الأوروبيين لا يزالون يعولون على بكين في تسوية الحرب الأوكرانية، بعدما عرضت بكين مبادرة لاقت ترحيب روسي وأوكراني أوروبي واسع في وقت سابق، في ظل عدم وجود أي تنبؤات أو إشارات عن قرب نهاية هذه الحرب التي أثرت تداعياتها على العالم أجمع وأوروبا بالخصوص.
وذلك باعتبار أن بكين الوسيط الذي يلقى قبول موسكو، كما أن الصين على قدر من القوة لأن تكون ضامنا قويا لتنفيذ ما سيتم الاتفاق عليه بين الطرفين، الأمر الذي قد يعفي أوروبا من أية حساسيات سياسية في الوقت نفسه. وعليه، قد تطالب الدول الأوروبية الرئيس الصيني بالتواصل مع نظيره الأوكراني، بناء على ترحيب الأخير بالمبادرة وبالتواصل مع الرئيس الصيني.
حتى أن زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية إلى بكين قد تشير إلى تغير موقف المفوضية من المبادرة الصينية بشأن إنهاء الحرب الأوكرانية، وذلك بعدما أعلنت المفوضية في وقت سابق رفضها الصارم لأي مبادرة قد تأتي من الصين، بعدما شككت في مصداقيتها كوسيط دولي.
(*) خيارات استراتيجية: قد تكون الدول الأوروبية استوعبت أن القوات الأوكرانية لن تستطيع هزيمة القوات الروسية، وذلك سيعتبر دليل واقعي على الفشل الأمريكي في الانتصار على روسيا التي تدعمها الصين. وعليه رجح محللون أن التموضع الأوروبي الجديد ما هو إلا تعبير عن الرؤية الأوروبية _ ولو جزئيا _ حول مسارات الحرب، خاصة بعدما نجحت روسيا في تحجيم آثار العقوبات الغربية عليها، في الوقت الذي بدأت فيه واشنطن تستثمر أزمات حلفائها الأوروبيين، وبالتالي الاتجاه نحو مزيد من الاستقلالية عن واشنطن.
إلا أن الموقف الأوروبي _ والفرنسي بالتحديد _ لا يعبر عن توجه أوروبي للتحول ناحية المعسكر الشرقي، ولكنه محاولة دعم النظام متعدد الأقطاب حتى تصبح أوروبا قطبا مستقلا عن واشنطن، ولهذا أعرب رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل عن ميل أوروبي لتوجه الرئيس ماكرون في هذا الشأن، خاصة إذا قبلت ميول الاستقلالية بضغوط شعبية تؤيدها، كما حدث في ألمانيا وفرنسا.
(*) تكوين موقف موحد من تايوان: يبدو أنه من ضمن أهداف زعماء الدول الأوروبية من زيارة الصين، هو تأكيدها على استمرار وثبات الموقف الأوروبي من ملف تايوان، في إطار مبدأ ” صين واحدة وحكومتان “، بالذات بعدما بدأت واشنطن تحيد نوعا ما عن هذا المبدأ من الناحية العملية، وذلك باستضافتها لرئيسة تايوان، وزيارة عدد من المسئولين الأمريكان إلى تايوان في إطار محاولات واشنطن لتطويق بكين.
هذا إلى جانب الاستفادة الاقتصادية، التي أضحت ضرورة أوروبية في ظل الضغوط الاقتصادية والحاجة إلى زيادة الاستثمارات والتبادل التجاري مع الصين، لكي يعينها على تجاوز أزمتها الاقتصادية على إثر تداعيات الحرب أوكرانية، والتي أدت بدورها إلى تزايد الاحتجاجات الشعبية على الحكومات في غالبية الدول الأوروبية.
مآرب فرنسية:
إلى جانب المبررات الأوروبية التي تدفعها لتوثيق التعاون مع بكين، يبدو أن باريس تنظر لعلاقتها مع بكين في هذا التوقيت بالتحديد انطلاقا من مجموعة من المصالح، لعل أهمها:
(-) بالنسبة لماكرون بالتحديد، فقد جاءت زيارته لبكين في وقت يواجه فيه الأخير ضغوطا واسعة في الشارع الفرنسي من الرافضين لإصلاحات قانون التقاعد الجديد، ولهذا قد تكون إحدى دوافع ماكرون من الزيارة إبعاد الأضواء ولو قليلا عن الداخل الفرنسي المضطرب.
(-) التعاون الاقتصادي؛ الذي يبدو أن ماكرون مهتم به إلى حد كبير،حيث أنه اصطحب معه ممثلين عن أكثر من 50 شركة فرنسية لتوقيع اتفاقيات اقتصادية في ظل الظروف الاقتصادية الفرنسية المترهلة، بالذات بعدما أعلن ماكرون عن نهاية ” عصر الرفاهية “. وبالفعل كللت الزيارة بإبرام بعض الصفقات، أبرزها توقيع شركة إيرباص للمروحيات عقد توريدات ل50 مروحية متعددة المهام من طراز إتش 160.
(-) كما يسعى ماكرون لأن تكون باريس هي الوجهة الأوروبية الرئيسية المحاورة لبكين نيابة عن الغرب، بالذات بعدما فشل الرئيس الفرنسي في الحوار مع بوتين أكثر من مرة. وفي هذا السياق، قد تكون زيارة ماكرون عقب عودته من الصين إلى هولندا، بعدما وضعت الأخيرة قيودا على التصدير إلى الصين للحد من وصولها إلى أحدث إنتاج من الرقائق الدقيقة، هدفها التوسط بين الجانبين لخطب ود بكين.
(-) أضف إلى ذلك، أن ماكرون لا يريد فتح جبهة جديدة من الصراع مع الصين وروسيا، من شأنها أن تؤدي إلى انتشار الشعبوية في أوروبا بشكل أكبر، بالذات وأنه أكثر من يعاني منها في بلاده. ومن ناحية أخرى فهو لا يريد غلق جميع المنافذ أمام بكين، والانجراف وراء عداوات واشنطن. ويبدو أن ماكرون لم يتعافَ بعد من صدمة صفقات الغواصات الأسترالية، رغم زيارة رئيس الوزراء البريطاني ريشيسوناك إلى فرنسا، فضلا عن زيارة ملك بريطانيا التي تأجلت بسبب الاحتجاجات في فرنسا.
(-) كما يحاول أن يستغل التناقضات الدولية الراهنة ليقود الجهود الأوروبية للخروج من العباءة الأمريكية، وتكوين موقف أوروبي مستقل عن واشنطن في مختلف القضايا والملفات المشتركة، وبالتحديد بعد ما بدأت تظهر ملامح عودة التنافس على زعامة القارة الأوروبية، بعدما أعادت ألمانيا الاهتمام بقدراتها العسكرية، إلى جانب بريطانيا التي تتلقى الدعم من واشنطن منذ خروجها من الاتحاد.
ولهذا صرح ماكرون عقب عودته من الصين بمجموعة من التصريحات التي وجهت على إثرها العديد من الانتقادات للرئيس الفرنسي خلال الأيام الماضية، حول ضرورة تبني موقف ” محايد ” في ملف تايوان، كما أكد على ضرورة عدم التماشي مع ” الإيقاع الصيني أو الأمريكي ” في هذا الشأن، وانتقاده أكثر من مرة التبعية الأوروبية لواشنطن.
ويبدو أن ماكرون كان معتقدا إنه قد ينجح في التأثير على بعض الدول الأوروبية لكي تتخذ الموقف ذاته، وبالذات ألمانيا، على اعتبار أن الأخيرة تجمعها شراكة اقتصادية موسعة مع الصين، قد لا تخاطر بفقدانها في حالة نشوب صراع بين واشنطن وبكين في ظل تصعيد الطرفين حول هذا الملف مؤخرا.
ولكن جاءت ردود فعل بعض الدول الأوروبية منها المؤيد ومنها المعارض، وعلى ما يبدو أن الأخيرة كان لها الصدى الأقوى، خاصة بعدها وجهت لباريس انتقادات أوروبية بأن تصريحات ماكرون تزيد من ” عزلته ” أوروبيا،حتى سارع الإليزيه بعد ذلك بالتأكيد على أن تصريحات ماكرون قد أسيء فهمها و ” فسرت بشكل مبالغ فيه “.
وواقعيا فإن مسألة تغيير الدول الأوروبية لموقفها الثابت من ملف تايوان يبدو أمرا صعبا، خاصة من جانب دون أوروبا الشرقية التي انفصلت عن الاتحاد السوفيتي، على اعتبار أن الصين حليفة لروسيا.
وفي الختام، يبدو أن الموقف الأوروبي _ والفرنسي بالتحديد _ ليس إلا انعكاسا للتخاذل الأمريكي تجاه دول القارة، وفي الوقت نفسه انعكاسا للهيمنة الأمريكية التي بدأت تترنح في الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا وغيرها. ومن ناحية أخرى فقد أرادت القارة الأوروبية أن تحجز مقعدا لها كقطب ثالث في خريطة العالم الجديدة.