زيارة ثلاثية.. ماذا يريد “أردوغان” من دول الخليج؟

في 16 يوليو الجاري، أجري الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جولة خليجية، هي الأولى منذ فوزه بفترة رئاسية جديدة في مايو الماضي، بدأها بالسعودية ثم قطر واختتمها بالإمارات، بالتزامن مع الذكرى السنوية لمحاولة الانقلاب الفاشلة على أردوغان في ١٥ يوليو ٢٠١٦.

ومع ولاية جديدة لأردوغان ودعم متزايد من الخليج تطوي صفحة قديمة من الخلافات، وسيساعد على ذلك التحولات التي طرأت على المشهد الإقليمي والدولي، والذي أتاح للخليج هامشا من الأريحية في سياستها الخارجية بعيدا عن سياسة الإملاءات، وتحديدا في القضايا الأقل ارتباطا بالقوى العظمى- ما الذي يريده أردوغان من دول الخليج ؟، وماذا يعني مثل هذا التحرك في هذا التوقيت الذي يشهد جملة من المستجدات الدولية والإقليمية الهامة؟.

الاقتصاد أولا:

بدأ أردوغان حملته الإصلاحية في المجال الاقتصادي بمجموعة من الإصلاحات الداخلية العامة، بدأها بتعيين شخصيات اقتصادية معروفة بأنها من مؤيدي الإجراءات الاقتصادية التقليدية المستقرة، بعيدا عن السياسات الاستثنائية التي تنطوي على درجة عالية من الخطورة بعدما أصر أردوغان على خفض سعر الفائدة، مثل وزير المالية الجديد محمد شمشيك ورئيسة البنك المركزي الجديدة حفيظة غاية أركان. ولم يقف الأم عند هذا الحد، حيث لم يمر وقت طويل على تشكيل الحكومة الجديدة حتى تم رفع سعر الفائدة في أول اجتماع للبنك المركزي التركي إلى 15% لأول مرة منذ سنوات.

جدير بالذكر أن عجز الميزانية التركية ارتفع إلى 219.6 مليار ليرة أي بنحو 8.37 مليار دولار، بما يقارب سبعة أمثال عجز العام الماضي. كما وصل معدل التضخم السنوي إلى ٤٠٪ خلال يونيو الماضي، فيما تراجعت الليرة حوالي %29 العام الحالي، وفقا لبيانات مركز الإحصاء التركي.

ولم تكن أهداف جولة أردوغان بين دول الخليج بعيدة عن كثيرا عن هذا الشأن، باعتبار أن الاقتصاد أصبح في المرتبة الأولى حاليا بالنسبة لأردوغان وحكومته من أجل استعادة الثقة داخليا وخارجيا، حتى على مستوى المستثمرين، بهدف جذب التمويلات لتخفيف الضغوطات الاقتصادية وخفض معدل التضخم ووقف تدهور قيمة العملة.

ناهيك عن منافع العلاقات الاقتصادية التركية الخليجية، فعلى سبيل المثال، ارتفع حجم التبادل التجاري بين دول الخليج وتركيا خلال الـ ٢٠ عاما الماضية من 1.6 مليار دولار إلى حوالي 22 مليار دولار، وفقا لتصريحات أردوغان.

ووصل حجم التبادل التجاري بين تركيا والسعودية إلى 3.4 مليار دولار في النصف الأول من العام الجاري، وفقا لوزير التجارة التركي عمر بولات. كما بلغ حجم  التجارة غير النفطية بين تركيا والإمارات حوالي 19 مليار دولار في 2022، في ظل توقعات ومساعي لزيادة المبلغ إلى 40 مليار دولار في غضون 5 سنوات، وفقا للسفير التركي في الإمارات.

كما أودعت السعودية في مارس الماضي 5 مليارات دولار في البنك المركزي التركي للمساعدة في دعم الاقتصاد التركي بعد ساعات فقط من فوز أردوغان في السباق الانتخابي. حتى أن مسئولين في شركة أرامكو السعودية اجتمعوا بمقاولين أتراك لمناقشة مشاريع محتملة بقيمة 50 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة، وفقا لبلومبرغ. كما من المنتظر أن يتم الإعلان عن صفقات في مجال التسليح والدفاع التركي مع السعودية خلال الفترة المقبلة.

فيما قدمت قطر والإمارات لتركيا حوالي 20 مليار دولار في صورة اتفاقيات لتبادل العملات. كما وقعت تركيا والإمارات اتفاقيات تجارية   بقيمة 40 مليار دولار على مدى خمس سنوات. هذا إلى جانب إبرام صفقات دفاعية. ووفقا لتقارير العام الماضي، أبرمت الإمارات صفقة لشراء مسيرات تركية من طراز ” بيرقدار بي بي 2 “، تم تسليم عشرين طائرة مسيرة إلى الإمارات في نوفمبر الماضي.

أما العلاقات التركية القطرية، فهي مميزة إلى حد كبير، حيث يقع على عاتق الدوحة منذ سنوات، وتحديدا خلال سنوات المقاطعة، دعم أنقرة في جميع أزماتها، فالاستثمارات القطرية منتشرة في تركيا إلى حد كبير، حتى أنها تعتبر شريكا لتركيا في مشاريعها في الشمال السوري، ولاسيما مشاريع إعادة الإعمار وبناء مدن جديدة لاستقبال اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا. ومن المتوقع وفقا لرويترز أن تضخ السعودية وقطر والإمارات استثمارات مباشرة بقيمة ١٠ مليار دولار ، و30 دولار على المدى الطويل، موزعة على قطاعات عدة قد طاقة والدفاع والبنى التحتية.

وعليه، فأردوغان يولي أهمية كبيرة لدول الخليج، لأنه يعي تماما أن دعم هذه الدول وحدها قد يعينه على تجاوز محنته الاقتصادية، خاصة وأن استثمارات دول الخليج  في تركيا منذ المصالحة تكاد تكون هي العامل الرئيسي الذي أسهم بشكل ما في تخفيف الضغوط الاقتصادية التي واجهها أردوغان قبيل الانتخابات خلال العامين الماضيين، من إنشاء صناديق استثمارية واتفاقيات لتبادل العملات ساعدت على تعافي سعر صرف الليرة وتحسن بعض المؤشرات الاقتصادية نوعا ما عن السابق، وهو ما أشار إليه أردوغان قبل بدء جولته إلى دول الخليج بساعات، حينما أكد أن هذه الزيارة ” لها موضوعان رئيسيان؛ هما الاستثمارات والبعد المالي “.

وقد يؤكد ذلك أنه تم التمهيد لزيارة أردوغان إلى الخليج بزيارة وزير المالية محمد شمشيك ونائب أردوغان جودت يلماظ إلى السعودية والإمارات وقطر الشهر الماضي من أجل تعزيز التعاون الاقتصادي. كما تم عقد منتدى الأعمال التركي السعودي في إسطنبول الأسبوع الماضي، والذي أسفر عن عقد عدة اتفاقيات في هذا الشأن.

مآرب أخرى:

إضافة إلى ما سبق، تأتي جولة أردوغان للتأكيد على جملة من الأهداف، لعل أهمها:

(*) الاتفاق حول الملفات المشتركة: حيث تأتي زيارة أردوغان بالتزامن مع انفتاح عربي وخليجي على دمشق، بعد عودة الأخيرة إلى الجامعة العربية، وبالتالي قد يهدف تقارب الدول الخليجية في جانب منه لإيجاد أرضية مشتركة للتفاهم بين أردوغان والأسد _رغم وجود فاعلين دوليين أيضا في هذا الملف _ والتنسيق بشأن إجراء لقاء يجمعهما حتى ولو في بلد ثالثة.

وقد يؤشر إلى ذلك تصريحات أردوغان عن تطورات الملف السوري، ورفضه شرط الأسد بضرورة خروج القوات التركية كشرط للقائه، الأمر الذي اعتبره الرئيس التركي ” غير ممكنا ” في الوقت الحالي، إلا أنه في الوقت نفسه لم يستبعد إمكانية لقاء الأسد تماما، وذلك قبل بدء جولته الخليجية مباشرة.

(*) تفادي توسعات تركية إضافية: قد يكون ضمان علاقات مميزة مع تركيا هو تحجيم من ناحية أخرى لأي توسعات أو أدوار تركية مريبة في المنطقة، على غرار ما حدث في سوريا وليبيا. بعد أن ظهرت مؤخرا تحركات تركية لافتة في الملف السوداني، كان آخرها عرض الوساطة التركية لحل الخلاف بين البرهان وحميدتي، وقبول الأطراف المتصارعة بالعرض. الأمر الذي قد يثير تخوف الدول الخليجية والعربية بوجه عام، من أي تواجد تركي بأي شكل في الملف السوداني سواء على المستوى السياسي أو العسكري.

والأمر نفسه بالنسبة للملف الليبي واليمني. الذي تحاول القوى الإقليمية المعنية طويه من خلال إتمام عملية الانتخابات، وضمان عدم وجود أي معرقلات تركية.

(*) أهداف جيوسياسية لتركيا: فأردوغان يستهدف بذلك ظهور بلاده كقوة إقليمية بارزة خلال ولايته الأخيرة، فقد كانت أولى جولاته الخارجية لشمال قبرص التركية، ومن بعدها الخليج، وسعيه الراهن لتمديد اتفاقية الحبوب، وانتظاره زيارة خلال نهاية الشهر الجاري للرئيس المصري، مما يؤكد أن أنقرة تعيد النظر بشكل إيجابي في علاقاتها مع محيطها الإقليمي، وتحديدا بعدما كلفتها السياسات العدائية في الإقليم الكثير، سواء على المستوى الاقتصادي، أو السياسي، فقد كادت أن تعصف بالحزب الحاكم في الانتخابات الأخيرة.

كما تأتي الزيارة بالتزامن مع مساعي لترجمة التقارب الخليجي _ والسعودي تحديدا _ مع إيران، وهو من شأنه تعزيز التقارب التركي الخليجي، والأريحية لمناورات أردوغان دون أي حساسيات.

(*) سياسة الانفتاح الخليجي: الخليج خلال السنوات الأخيرة يتبني سياسات انفتاحية إلى حد كبير على المستوى السياسي كما وضح من موقف مجلس التعاون في خضم الحرب الأوكرانية، وفي الملفات الإقليمية أيضا، وهو ما يتضح من استعادة العلاقات مع حكومة بشار الأسد وإيران، وحاليا مع تركيا رغم الخلافات التي تجمعهما منذ سنوات.

وعلى ما يبدو أن دول الخليج تعتبر الاقتصاد البوابة الأمثل للانفتاح على تركيا، باعتبارها بيئة استثمارية مميزة في العديد من المجالات مثل الصناعات الدفاعية والزراعة والمقاولات والبنى التحتية، والتي قد يريد الخليج نفسه الاستفادة منها في إطار سياسة الانفتاح الحالية.

وقد يؤشر دعم الخليج المتواصل لأردوغان_ رغم الخلافات _ أنه هو الرجل الأنسب بالنسبة للخليج في هذه المرحلة لتنفيذ أجندات معينة أو التنسيق بشأن الملفات المشتركة في ظل التحديات والفرص الإقليمية والدولية الراهنة.

وختاما، فالتعاون الاقتصادي التركي الخليجي وإن كان يخدم مصالح جميع الأطراف، إلا أنه يعتبر بوابة لعلاقات أكثر عمقا على كافة المستويات، كما ومن المنتظر أن يمثل دافعا لأطرافه لإيجاد حلول لأهم الملفات العالقة في المنطقة بما يحفظ مصالح جميع الأطراف.

حتى أن التقارب التركي الخليجي من غير المرجح أن يشهد كمائنا تركية جديدة في المدى القريب، فالاقتصاد التركي لا يزال يحتاج مزيدا من الإنعاش، وأردوغان يريد حسم انتخابات البلدية أيضا لصالحه وحزبه، وهذا في مجمله يحتاج الأموال الخليجية.

وردة عبد الرازق

باحثة في الشئون الأوروبية و الأمريكية، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى