أين تقف إيران بعد الترتيبات الجديدة في سوريا؟
لا يخفى على أحد أن إيران دعمت بشار الأسد في الحرب الأهلية الطويلة في سوريا، وكان يُنظر إلى الإطاحة به على نطاق واسع على أنها ستكون ضربة كبيرة لمحور ما يسمى بـ “المقاومة” بقيادة طهران. كما أن تراجع نفوذ الفصائل الموالية لإيران في المنطقة، وعلى رأسهم حزب الله اللبناني، الذى تكبد خسائر كبيرة في صراعه مع إسرائيل، وفصائل المقاومة العراقية التي تسعى لتخفيض هجماتها على تل أبيب؛ خوفًا من رد الفعل الذى يفوق ضرباتها المحسوبة، فضلًا عن أن الوضع الاقتصادي المتردي للجمهورية الإسلامية لم يسمح لإيران بتقديم مزيد من الدعم لسوريا، إلى جانب تآكل القوى البشرية واللوجستية للحرس الثوري الإيراني في سوريا، حيث قُتل قادة رئيسون في الحرس الثوري الإيراني؛ ومن ثم أصبحت الجماعات الوكيلة أقل فاعلية من ذي قبل، كل تلك المعوقات حدت من الدعم الإيراني لنظام الأسد، وأدت في نهاية المواجهات إلى استسلام الأسد، وهروبه إلى روسيا. وهنا أطيح بعد سقوط بشار الأسد بآخر ورقة ضغط للجمهورية الإسلامية في التعامل مع النظام الإقليمي والدولي في المنطقة؛ ومن ثم يحمل السقوط المفاجئ لنظام الأسد تكهنات عدة بشأن مستقبل التحرك الإيراني في سوريا ارتباطًا بمحورية الدولة السورية في ركائز السياسة الإيرانية في المنطقة.
وتطرح المعطيات الحالية سيناريوهات لمستقبل التعامل الإيراني مع سقوط النظام السوري، ويتضح من الرؤية العامة للسياسات الإيرانية خلال الفترة المقبلة.
دعم النظام الأسد:
كان الحفاظ على حكومة الأسد في نظر إيران مسألة بقاء استراتيجي، والآن مع سقوط النظام، لم يبق مفر أمام خامنئي إلا هدنة طويلة لإعادة حسابات الخسارة والربح في ظل المتغيرات الجديدة؛ لتتمكن الجمهورية الإسلامية من ترتيب أولوياتها في منطقة الشرق الأوسط. فبعد أن كانت الجمهورية الإسلامية حليفًا سياسيًّا وعسكريًّا للرئيس السوري بشار الأسد لأكثر من ثلاثة عشر عامًا ضد المعارضة المسلحة، فمنذ بداية الثورة السورية ضد حكم الأسد في مارس 2011، قدمت إيران الدعم السياسي واللوجستي والاستخباراتي والدعائي للنظام السوري، وسيطرت طهران فعليًّا على جيش الأسد منذ سبتمبر 2012، حيث دربت عشرات الآلاف من رجال فصائلها المسلحة لسد النقص في القوات السورية، كما أرسل حزب الله اللبناني -المدعوم إيرانيًّا- مقاتليه منذ عام 2013 لإنقاذ نظام الأسد بالقرب من الحدود اللبنانية.
ونتيجة ضعف نفوذ إيران في لبنان وغزة، نظرت الجمهورية الإسلامية إلى الصراع في سوريا كفرصة لإعادة تأكيد نفوذها من خلال دعم النظام السوري ضد معارضيه؛ إذ رأت طهران في هذا الانخراط منقذًا لشرعيتها، وتعزيزًا لسيطرتها على وكلائها في المنطقة، بيد أن انهيار حكم الأسد فكك حجر الزاوية في إستراتيجية إيران الإقليمية ضد إسرائيل، ومن شأنه أن يهدد بقاء الجماعات التابعة لإيران، التي تعتمد -اعتمادًا كبيرًا- على دمشق للحصول على الدعم. وبدون دعم الأسد، قد تكافح تلك الجماعات للحفاظ على عملياتها؛ ما يعرض نفوذ الجمهورية الإسلامية في المنطقة للخطر.
انعكاسات عميقة:
كانت حكومة الأسد تشكل لخامنئي ركيزة أساسية لمحور المقاومة؛ لما يحمله النظام السوري من دعم للبعد العقدي للجمهورية الإسلامية، المرتبط بالمذهب الشيعي على حساب المذهب السنى، كما أن سوريا تتيح لطهران مقرًا لتصنيع الأسلحة، ومسارًا لنقلها، فضلًا عن مركز قيادة للقادة الإيرانيين الذين يعملون مع حزب الله، ولعل الخطر الأبرز من سقوط نظام الأسد أن سوريا كانت توفر لإيران إمكانية الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط عبر ممر برى يمتد من طهران إلى بغداد ودمشق وبيروت، ويربط بين وكلائها في المنطقة، ومن المرجح أن يؤدى انهيار النظام إلى تعطيل نقل الأسلحة إلى حزب الله عبر مطارى دمشق واللاذقية؛ ما يسفر عن انخفاض الدعم العسكري لجماعاتها في غزة ولبنان.
ورغم تلك الأخطار من جراء سقوط النظام السوري، لم يبدِ النظام الإيراني تأثرًا كبيرًا بخسارة أهم حلفائه التقليديين في المنطقة، وسرعان ما تخلت طهران عن دعمها للنظام وعداء فصائل المعارضة السورية، وعقد البرلمان الإيراني جلسة طارئة مغلقة ناقش فيها تطورات الوضع السوري، ودعا إلى تشكيل حكومة شاملة تمثل كل فئات المجتمع السوري؛ بهدف ترسيخ أهمية الدور الإيراني في مرحلة ما بعد الأسد.
سيناريوهات محتملة:
قبل الحديث عن سيناريوهات التدخل الإيراني في سوريا فقد أكد المرشد الإيراني “علي خامنئي” قبل أيام أن بلاده حذرت دمشق منذ سبتمبر الماضي، من تحركات مريبة، إلا أن الأسد تجاهل العدو، وفق قوله. كما حمل “دولة مجاورة مسؤولية المساهمة في الإطاحة بالرئيس السوري، في إشارة إلى تركيا. لذا صار ضرورياً أن تتحرك إيران وسرعة التعامل مع الوضع القائم لتقليل الخسائر والحفاظ على هيبتها الإقليمية، ومن المتوقع عدة سيناريوهات
السيناريو الأول: تنعزل إيران تماماً عن أي وضع للتدخل من قريب أو بعيد في سوريا في محاولة من النظام الإيراني لإرضاء الرأي العام الداخلي في طهران، وذلك بعد نشر تقرير جديد لصحيفة صنداي تايمز البريطانية التي تبينت أن إيران دعمت النظام السوري وخسرت 50 مليار دولار مع فرار الأسد وزوال حكمه، قال التقرير إن الملفات التي تم الكشف عنها “تظهر أن الرئيس السوري كان مديناً بأموال كبيرة لرعاته في طهران”. وأضاف “الآن بعد أن تبخرت الأموال ولم يعد الإيرانيون في مزاج متسامح، فهل هناك إمكانية لاستعادتها”. ومنها فإن هذا السيناريو هو الأقل ترجيحًا من تنامى التدخل الإيراني عسكريًّا في سوريا من خلال جماعاتها المسلحة وينطلق هذا السيناريو من تحول سوريا إلى ساحة حرب بعد الهجوم الإسرائيلي على الجولان عقب هروب الأسد إلى روسيا، ومن ثم تتمثل أهم مبررات هذا السيناريو في سعى إسرائيل والولايات المتحدة إلى السيطرة على المنطقة من خلال الساحة السورية، وتطويق طهران من كل الجبهات، وقطع طرق الإمداد من إيران إلى لبنان عبر سوريا؛ ما قد يفرض على الجمهورية الإسلامية ضرورة الوجود العسكري، واستهداف جماعاتها لإسرائيل من خلال هجمات محدودة تتناسب مع قدراتها الحالية.
السيناريو الثاني الأكثر ترجيحًا: انتهاج إيران مسارًا تفاوضيًّا بشأن مستقبل سوريا بعد الأسد: بعد سقوط الأسد خسرت إيران حلقة رئيسية فيما تسميه “محور المقاومة”، بعد أن خرج حليفها الآخر حزب الله ضعيفا من الحرب مع إسرائيل في لبنان. وفقاً لهذا السيناريو تسعي إيران إلى ضمان وجودها في تشكيل مستقبل سوريا بعد سقوط النظام؛ لذا تأتى أبرز مسوغات هذا السيناريو في الضعف الواضح في الفصائل المدعومة إيرانيًا بعد إنهاك حزب الله اللبناني بسبب مواجهته الدامية مع إسرائيل، وفقدانه جميع قياداته الفاعلة، وخشيته من التداعيات السياسية لانخراطه بقوة في الساحة السورية، وتأكيد أن أي مسار دبلوماسي في سوريا مرتبط بقرارات الدول الثلاث؛ روسيا وإيران وتركيا. كما دعم هذا التوجه التقارير التي تشير إلى محاولات طهران فتح قناة مباشرة للتواصل مع فصائل المعارضة المسلحة بالقيادة الجديدة في سوريا؛ ما يعكس إستراتيجية براغماتية جديدة ينتهجها النظام الإيراني تجاه المتغيرات الجارية على الساحة السورية، خاصة في ظل التخوف من استغلال ترمب سقوط الأسد في ممارسة سلسلة ضغوط سياسية واقتصادية على إيران.
وعليه، هناك ثمة تساؤلات بشأن مستقبل التحرك الإيراني في سوريا ارتباطًا بمحورية الدولة السورية في ركائز السياسة الإيرانية في المنطقة. فالآن تقف إيران على مفترق طرق خطير؛ فإما أن تعود إلى الانكفاء على ذاتها والحفاظ على ما تبقى من مكاسب وأذرع داخل منطقة الشرق الأوسط، حتى لا تتكبد خسائر إضافية، وهو من شأنه أن يؤدى إلى التراجع عن الهيمنة الإقليمية في مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية بشكل كبير، أو على الاتجاه لتحركات غير مسبوقة من جانب إيران، وصدام حاد بينها وبين إسرائيل والولايات المتحدة، لا سيما أن احتمالات تجاوز الخطوط الحمراء في البرنامج النووي تتزايد مع كل يوم يمر دون التوصل إلى اتفاق. خاصة بعد أن اتّهمت بريطانيا وفرنسا وألمانيا، في بيان أصدرته مؤخراً قبل اجتماع لمجلس الأمن الدولي بشأن برنامج طهران النووي، أن إيران بزيادة مخزونها من اليورانيوم العالي التخصيب إلى “مستويات غير مسبوقة” من دون أن يكون هناك “أيّ مبرر مدني موثوق به” لهذه الزيادة. وقالت الدول الأوروبية الثلاث المعروفة اختصارا باسم “إي3” أن هذا المخزون “يمنح” إيران القدرة على أن تنتج بسرعة كافية ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع أسلحة نووية عدة”.
وأخيراً رغم سقوط النظام السوري، وهروب بشار الأسد خارج البلاد، لا يزال عصر عدم اليقين في سوريا قائمًا؛ إذ إن سوريا تشكل اليوم مركزًا للصراعات بين القوى المحلية والإقليمية والدولية؛ ومن ثم فإن التدخل الإيراني في سوريا يتشابك مع مصالح عدة فاعلين، من أبرزهم روسيا وتركيا والمعارضة السورية المسلحة وإسرائيل والولايات المتحدة، فضلًا عن أن تغير طموحات الجماعات المدعومة إيرانيًّا في المنطقة التي أنهكت الحرب الدائرة مع إسرائيل قواها، قد يجعل تلك الجماعات تتخلى عن الجمهورية الإسلامية لتنأى بنفسها عن حرب شاملة. وبالتالي قد تتجه طهران إلى محاولات للتعديل على المشهد الإقليمي المضطرب من خلال قدرتها على المرونة في إحداث تحولات تكتيكية لتخفيف الاحتقان في الإقليم.