لماذا سارعت الدول الغربية بعمليات الإجلاء من السودان؟
مع استمرار المواجهات المسلحة بين الجيش وميليشيا الدعم السريع في السودان، ومع تعثر متكرر للهدنة، لم تجد الدول المجاورة للسودان مفرا من إجلاء رعاياها، والأمر نفسه بالنسبة للدول الغربية، التي لجأت أيضا إلى إجلاء رعاياها وبعثاتها الدبلوماسية في الخرطوم. وهي خطوة جاءت بعد قرابة أسبوع بدا فيه الهدوء على الموقف الغربي ككل تجاه الأحداث في السودان، خاصة من جانب واشنطن.
وتأسيسا على ذلك، يمكن القول إنه طرأت مجموعة من المستجدات خلال الأسبوع التالي، دفعت بدورها القوى الغربية للقيام بعمليات إجلاء مكثفة خلال الساعات الأخيرة. فماذا يعني ذلك ؟ وما دلالاته فيما يخص المشهد السوداني ؟.
خطوة استباقية:
يبدو أن استمرار وتزايد مستوى العنف في السودان فاقم بدوره الخسائر المادية والبشرية حتى في صفوف المدنيين، الأمر الذي انعكس على مستوى الخدمات المدنية بشتى أنواعها، كما أثر على البنية التحتية من طرق ومرافق ومطارات وغيرها، بما دعا الدول الغربية لإجلاء مواطنيها وإخلاء سفاراتها وقنصلياتها في الخرطوم، أي استجابة لخطر فعلي.
أضف إلى ذلك، فقد يكون لدى الدول الغربية نظرة تشاؤمية حول الأحداث في السودان، بالنظر إلى التصريحات المتضاربة من قبل قوات الجيش والدعم السريع حول الأوضاع والسيطرة على الأرض، والتي من شأنها أن تؤشر عن مدى معين ومعلوم للنزاع الراهن، ومع تعثر جهود الوساطة ومحاولات التوصل إلى هدنة طويلة قد تتطور في الأخير إلى وقف نهائي لإطلاق النار. ناهيك عن عدم وجود رؤية لدى التيارات المدنية من شأنها أن تسهم في هذا الصراع، حتى أصبحت بدورها في موقف أضعف في خضم الأحداث الأخيرة في السودان.
ومن أكثر العوامل التي أسهمت في تسارع وتيرة الإخلاء من قبل الدول الأوروبية، مثل فرنسا وبريطانيا وهولندا وألمانيا وتركيا، مبادرة واشنطن نفسها بإخلاء سفارتها في الخرطوم وإجلاء رعاياها حتى تتجنب أي مساس برعاياها أو مبعوثيها الدبلوماسيين، كما حدث في وقت سابق في الصومال في التسعينيات وليبيا في 2012. وفي هذه الحالة سيكون الموقف الأمريكي بمثابة إجراء استباقي لتجنب أي سيناريو أسوأ قد يضر بمكانتها أكثر.
وفي الوقت نفسه تجنب مزيد من الإخفاقات في القارة الإفريقية، في ظل تسابق القوى الدولية المنافسة مثل روسيا والصين للنيل من المكانة والهيبة الأمريكية في المنطقة، وبما يعطي فرصة للمسئولين الأمريكان للتشاور بشأن التعامل مع الملف السوداني تفاديا لأي انتكاسة جديدة على غرار العشوائية التي تم بها الانسحاب من أفغانستان.
كما أن القرار الأمريكي بالإجلاء، والاهتمام الراهن بالتوصل إلى هدنة قد يعيد إلى الأذهان _ على مستوى القاعدة والشعوب _الثقة في الحضور والاهتمام الأمريكي في المنطقة. ومنه إلى استعادة ثقة دول أفريقية أخرى، بالذات حال نجحت واشنطن في التوصل إلى حل وسط ينهي الصراع الراهن في السودان.
إشارات غربية:
يري بعض المتخصصين أن عمليات الإجلاء قد تكون عاملا ضاغطا على طرفي الصراع من أجل وقف الأعمال القتالية واللجوء إلى التفاوض. بينما يري آخرون أنها ستكون بمثابة خروج للأعين المراقبة للأحداث في السودان، والتي كان وجودها يكبل القوات المتصارعة من توسيع عمليات القتال خوفا من أن تهدد أمن البعثات الدبلوماسية، ولهذا يتوقع أن تتوسع دائرة وشراسة القتال خلال الأيام المقبلة.
وعليه، قد تكون عمليات الإجلاء من قبل الدول الغربية مؤشرا ضمنيا على أن الحرب في السودان قد لا تتوقف قريبا، سواء بالمساعدات أو بحسم المعركة من قبل أحد الطرفين سريعا. كما قد تشير أيضا إلى عدم وجود خطة دولية أو إقليمية لوقف الأعمال القتالية الدائرة في السودان لأكثر من أسبوعين، وعليه يبقي احتمال استمرار المعارك هو المرجح حتى الآن.
بما قد ينذر في الأخير باحتمالية اللجوء إلى تدخلات إقليمية على خط الأزمة، حيث قد يضطر طرفي الأزمة إلى الاستعانة بأطراف دولية أو إقليمية حتى يتمكن من حسم المعركة على الأرض، وحتى تتمكن تلك الأطراف من الاستفادة من الوضع الراهن، عبر دعم أحد الطرفين لكي تطول الحرب، من أجل تسهيل تسلل العناصر الإرهابية لتهديد الدول المجاورة للسودان والعمل لصالحها.
سيناريوهات محتملة:
واستنادا لما سبق، يشير المشهد السوداني إلى عدة احتمالات، أهمها:
(-) السيناريو الأول، استمرار الاقتتال حتى يصل إلى مستوى أوسع، مع دخول أطراف جديدة للصراع، قد يفضي في الأخير إلى زيادة عدد المهاجرين والنازحين من السودان.
(-) السيناريو الثاني، إنهاك القدرات القتالية للطرفين، بما يقود في الأخير إلى اتخاذ خطوات أكثر عقلانية وجدية نحو التفاوض لوقف أعمال القتال، في ظل وجود قناعة بأنه لا منتصر في هذه الحرب.
(-) أما الاحتمال الأخير، هو نجاح الجيش السوداني في حسم المعركة في الأخير، نظرا لتفاوت القدرات القتالية، أو على الأقل إحكام سيطرته على العاصمة الخرطوم ونواحيها، وبقاء ميليشيا الدعم السريع في معاقلها غي دارفور مثلا. وهذا لا يعني توقف القتال نهائيا، وإنما بقائها في إطار المناوشات، أي الوصول إلى وضع أشبه بالسيناريو الليبي.
في النهاية، يمكن القول إن التعاطي الأمريكي الراهن مع الملف السوداني قد يشير إلى احتمالية أن يكون ثمة تخطيط أمريكي لأن تكون السودان هي البوابة لاستعادة واشنطن نفوذها في السودان والقارة الإفريقية عموما، بالذات بعد انتشار قوات فاجنر الروسية وكثافة التعاملات الإفريقية مع الصين. ومن المنتظر أن يتضح الموقف الأمريكي بصورة أكبر مع تطور الأحداث في السودان وتأثيرها في الحرب ووجهتها النهائية.