انعكاسات زيارة وزير الخارجية الأمريكي إلى الشرق الأوسط
بدأ “أنتوني بلينكن” زيارته الرابعة إلى المنطقة، كوزير للخارجية الأمريكية، في إطار جولة تشمل مصر وإسرائيل والضفة الغربية، بدءاً من 29 إلى 31 يناير2023، وتأتي الزيارة بعد أسبوعين من جولة لمستشار الأمن القومي “جيك سوليفان”، شملت إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، وبعد أسبوع من زيارة “وليام بيرنز”، مدير وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي إيه” إلى مصر، وإسرائيل، والأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما يعكس تزايداً لاهتمام الرئيس “بايدن” بعدد من الملفات في المنطقة، في ضوء تتابع زيارات المسؤولين الأمريكيين للمنطقة، كان آخرها زيارة وزير الخارجية “بلينكن”، فما هي أبعاد ودلالات هذه الزيارة؟، وأهم ما تسعى لتحقيقه من أهداف؟، هذا ما يحاول هذا التحليل الإجابة عنه.
دوافع الزيارة:
أعلن عن زيارة وزير الخارجية “أنتوني بلينكن” إلى المنطقة بعد ساعات من اقتحام القوات الإسرائيلية لمخيم جنين للاجئين بالضفة الغربية، وأدى إلى استشهاد عشرة فلسطينيين، وأعقبه هجوم قرب كنيس يهودي في ضواحي القدس الجمعة 27 يناير 2023، أسفر عن مقتل سبعة إسرائيليين، مما زاد من حدة التوتر بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتصاعد العنف والعنف المضاد، حيث تشهد الأراضي الفلسطينية المحتلة المزيد من الهجمات الإسرائيلية المتكررة في الفترة الأخيرة، خصوصاً بعد عودة رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” إلى السلطة في ديسمبر 2022.
فمنذ تولي “نتنياهو”، رئاسة الحكومة الإسرائيلية الجديدة، والتي تشكلت من ائتلاف للأحزاب اليمينية المتطرفة؛ والتي تعارض إقامة دولة فلسطينية وتوجه آراء متشددة بحق الفلسطينيين، لا سيما وزير الأمن القومي الإسرائيلي “إيتمار بن غفير”، الذي قام بزيارة إلى الحرم القدسي الشريف بعد أيام من توليه منصبه، وهو ما أثار غضب الفلسطينيين والمسلمين عامة، كما أطلق تصريحات استفزازية، طالب فيها باتخاذ إجراءات صارمة ضد الفلسطينيين، وأيد عقوبة الإعدام بحق المدانين منهم بقتل إسرائيليين، في حين يدعم منح الحصانة للجنود والشرطة الإسرائيليين، ويسعى إلى توسيع الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية التي احتلتها إسرائيل في حرب عام 1967، وهو ما أثار غضب الفلسطينيين، وساهم في تصاعد حدة التوتر بين الجانبين.
وتأتي زيارة “بلينكن”، إلى المنطقة في محاولة لمنع تصاعد التوتر بين الإسرائيليين والفلسطينيين في ضوء الأحداث الأخيرة، حيث تخشى الولايات المتحدة زيادة تدهور الأوضاع والانزلاق إلى دوامة من المواجهات الأوسع نطاقاً على غرار انتفاضة الأقصى عام 2000، في ظل الظروف الإقليمية والعالمية الراهنة، مع استمرار الحرب في أوكرانيا، وتنامي تداعياتها السلبية على دول العالم كافة، ما يعني أن اندلاع انتفاضة جديدة، قد يدفع إلى توسع المواجهات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وخروج الأوضاع إلى عن السيطرة، وهو ما قد ينتج عنها عواقب وخيمة.
وتحاول واشنطن احتواء وتيرة العنف المتزايدة، لا سيما بعد الممارسات الإسرائيلية الأخيرة بحق الفلسطينيين، حيث قامت إسرائيل بشن حملة اعتقالات واسعة في القدس والضفة، وقررت تل أبيب اتخاذ إجراءات عقابية ضد عائلات منفذي الهجمات، كما دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” الإسرائيليين إلى حمل السلاح، كإجراء احترازي في مواجهة مثل هذه الهجمات في الشوارع.
وبالرغم من تنديد واشنطن بالعمليات التي تسفر عن وقوع ضحايا مدنيين، وتشجع جميع الأطراف على تخفيف حدة التوتر والتصعيد، إلا أنها في الوقت ذاته، مستمرة في التأكيد على الالتزام الأمريكي بالدعم الدائم لأمن إسرائيل، وخاصة ضد التهديدات الإيرانية، والمفارقة أنه قبيل ساعات من زيارة “بلينكن” إلى المنطقة، وقعت هجمات بطائرات مسيرة على المجمع الصناعي في مدينة أصفهان الإيرانية، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن إسرائيل هي التي نفذت هذا الهجوم.
أبعاد ودلالات:
تستهدف زيارة “بلينكن” إلى المنطقة، وبحسب وفق ما جاء في بيان وزارة الخارجية الأميركية، “دفع الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة ومصر، وتعزيز السلام والأمن في المنطقة، بما في ذلك الدعم المشترك للانتخابات في ليبيا، والعملية السياسية الجارية في السودان”، إلى أن هذه الزيارة تركز على بعدين مهمين، هما:
(&) محورية الدور المصري في المنطقة: تنظر الإدارة الأميركية إلى مصر باعتبارها دولة محورية وشريكاً استراتيجياً، وركيزة من ركائز الاستقرار الإقليمي، وضماناً لأمن المنطقة وتعزيز فرص السلام، حيث تحرص واشنطن على إبقاء العلاقات الجيدة مع القاهرة، فعالية قنوات التواصل باستمرار، كما تسعى لتعزيز التعاون المشترك في مختلف المجالات، واشنطن والقاهرة الولايات المتحدة ومصر، وهو ما أكد عليه بلينكن بقوله: “على مدار التاريخ ترأست مصر الجهود في المنطقة لتعزيز الأمن والاستقرار والرخاء في المنطقة وتستمر بتأدية هذه الجهود، علما بأن هذه المرحلة حساسة من ذي قبل”.
وفي مستند “حقائق” نشرته وزارة الخارجية الأميركية، عبر موقعها الإلكتروني يوم الأحد 29 يناير 2023 بمناسبة مرور أكثر من قرن على التعاون الدبلوماسي والصداقة بين البلدين، أشار إلى أن الولايات المتحدة ومصر أقامتا علاقات دبلوماسية منذ عام 1922، في رسالة وجهها الرئيس “وارن جي هاردينغ” إلى الملك “أحمد فؤاد”، وعلى مدى القرن الماضي، أثبتت هذه الشراكة العميقة مرونتها في مواجهة الظروف المتغيرة إذ تسعى مصر إلى بناء مستقبل مستقر ومزدهر ينهض بالحقوق والحريات الأساسية لجميع المواطنين.
وخلال مباحثات “بلينكن” مع الرئيس “السيسي”، ووزير الخارجية “سامج شكري” احتلت الأوضاع في الشرق الأوسط قدراً كبيراً من الاهتمام، في ضوء التوترات الإسرائيلية الفلسطينية الأخيرة، وأهمية الدور المصري في احتواء الممارسات التصعيدية، استناداً إلى فعالية هذا الدور في تبديد هذه التوترات، حيث قال مباحثات “بلينكن”: “اليوم، وفيما نرى زيادة في التوترات وتصاعدها، فإننا نعمل مع كل من الرئيس والوزير (المصريين) لتخفيف التوترات وتحقيق الاستقرار”، ومؤكداً في الوقت ذاته “أن حل الدولتين هو الطريق الوحيد لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي”.
كما ناقش “بلينكن” عدد من الملفات ذات الأهمية، على رأسها سد النهضة، وقال: “نحن ندعم أي حل يقوم على ضمان مصالح جميع الأطراف ويراعي الحياة المعيشية لكل من مصر والسودان وإثيوبيا”، مبدياً تفهمه لما يمثله السد من مسألة وجودية بالنسبة لمصر، قال “بلينكن”: “إن مصر لعبت دورا في خفض التصعيد في ليبيا، وهناك دعم مشترك لإجراء الانتخابات في ليبيا، وكذلك دعم العملية السياسية الحالية في السودان”، ولا شك أن تلك التصريحات تؤكد أن واشنطن تدرك جيداً بأهمية دور مصر تعمل على السلام سواء في الاستقرار الإقليم أو العالم.
(&) ملف القضية الفلسطينية: باعتبارها الملف الأكثر حضوراً خلال المباحثات التي أجراها وزير الخارجي الأمريكي “بلينكن”، سواء مع الرئيس السيسي، أو الوزير سامح شكري، أو مع رئيس الوزراء الإسرائيلي “نتنياهو” والمسؤولين الإسرائيليين، وكذلك مع الرئيس الفلسطيني “محمود عباس”، ورغم أن عملية السلام متوقفة منذ آخر جولة من المحادثات التي كانت ترعاها واشنطن بشأن إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل في عام 2014، إلا أن “بلينكن” أكد خلال محادثاته على أن “واشنطن ترى حل الدولتين هو السبيل الوحيد لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”، غير أنه لم يشر إلى خطوات واضحة أو إلى آليات محددة من شأنها بلوغ ذلك الحل، مع أنها تملك تنفيذه إن أردت”.
وترى واشنطن أن هناك حاجة ملحة لأن يتخذ الطرفان خطوات لتهدئة التوتر لوضع حد لما تصفه بـ”دورة العنف”، وأهمية الحفاظ على الوضع التاريخي الراهن في المسجد الأقصى بالقدس المحتلة، ويحاول “بلينكن” الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” حتى لا يقوم بأشياء مجنونة” على حد قوله- ومحاولة كبح جماح وزراء الائتلاف اليميني المتطرف مثل “إيتمار بن غفير”، و”سموتريتش” و”أرييه درعي”، من اتخاذ خطوات أكثر استفزازاً، يمكن أن تضرر بالمصالح الإسرائيلية، والعمل على اتخاذ خطوات لتهدئة التوتر بدلا من تأجيجه”، كما لو أنها محاولة من جانب واشنطن إلى ممارسة ضغوط خارجية لوقف أي انزلاق إلى صراع أوسع في المنطقة.
بالأخير، ورغم أن زيارة “بلينكن” الثلاثية، استهدفت تدعيم العلاقات الأمريكية المصرية بعد مرور مائة عام على انطلاقها، والتأكيد على محورية الدور المصري في المنطقة، إلى أنها سعت بالأساس إلى محاولة تهدئة التوتر الإسرائيلي الفلسطيني -كما لو أنها ترغب في إدارة هذه التوترات وليس منعها- وإن كان الأمر يقتضي وفي ضوء مساعي تعميق اندماج إسرائيل في المنطقة، كبح جماح العنف الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، ووضع حد للممارسات الإسرائيلية العنيفة بحق الشعب الفلسطيني، الذي يرغب في رؤية مسارات حقيقية وجادة لتسوية قضيته الأساسية سلمياً، استناداً إلى قرارات الشرعية الدولية وحقه في بناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وليس تكراراً للتصريحات والمطالبات، التي بات الجميع يعرفها عن ظهر قلب.