لماذا سمحت الدولة العميقة في “روسيا” بتمرد “فاجنر”؟
في الساعات الأخيرة من الثالث والعشرين من يونيو الماضي بدأ تواتر الأخبار التي تفيد بتمرد مجموعة فاجنر وقائدها يفجينى بروجوجين، وقبل منتصف اليوم التالي (الرابع والعشرين) أعلنت المجموعة سيطرتها على المنطقة العسكرية في روستوف جنوب روسيا، دون إطلاق رصاصة واحدة منها أو عليها، وكان لافتاً إعلان قائد فاجنر نيته التخلص من القيادة العسكرية الفاسدة- على حد وصفه، داخل الجيش الروسي، واستعداده للوصول إلى موسكو لتحقيق هذا الهدف.
في وقتها ساد داخليا ارتباك في المشهد العام بروسيا، بين سيل من البيانات العسكرية التي تطالب فاجنر بالتمرد على قائدها، وأصدر عمدة موسكو سيرجى سوبيانين عدة قرارات، منها منع التجوال (قدر المستطاع) في الأماكن العامة، وإغلاق الطرق المؤدية إلي موسكو، وتشديد الإجراءات الأمنية وفق قيود مكافحة الإرهاب، مع إقراره بأن الأوضاع في البلاد صعبة.
في تتبع للأحداث، أصدر حكام الإقليم بيانات تأييد ودعم لـ “بوتين”، كما أعلن القائد الشيشاني رمضان قديروف دعمه واستعداده لإرسال قواته إلي روستوف وإنهاء تمرد فاجنر، وكان لافتاً غياب واختفاء وزير الدفاع سيرجى شويجو، ورئيس الأركان فاليرى جيراسيموف، وسط سيل من الإهانات غير المسبوقة العلنية لهما من بروجوجين، حيث يمثل وزير الدفاع ورئيس الأركان القيادة العسكرية الفاسدة التى أعلن بروجوجين عزمه التخلص منها، وفى النهاية يخرج بوتين ليخاطب الشعب واصفاً ما حدث بأنه خيانة لروسيا وطعنة بالظهر، ولكن دون ذكر لفاجنر أو قائدها.
بعدها جاءت مفاوضات الرئيس البيلاروسى ألكسندر لوكاشينكو من خلال التواصل المباشر مع بوتين وبريجويجين، وقبل انتهاء اليوم يعلن الأخير سحب قواته التى كانت تبعد نحو200 كيلو متر فقط من موسكو، مع إعلانه أنها كانت نتيجة طبيعية.
أسئلة كثيرة لا حصر لها فرضتها أطول ستة وثلاثين ساعة فى حكم الرئيس الروسى، وهي: لماذا اختفى وزير الدفاع ورئيس هيئة أركان الجيش من المشهد؟ كيف سيطرت فاجنر على روستوف بهذه السهولة دون مقاومة؟ كيف وصلت فاجنر إلى مشارف موسكو دون مقاومة؟ أين أجهزة الأمن والاستخبارات الروسية من كل ما جرى؟ ولماذا لم يذكر الرئيس بوتين فاجنر أو بريجوجين فى خطابة؟ اختصارا أين كانت الدولة الروسية العميقة؟ ولماذا سمحت بهذا التمرد؟.
الأوليجارشية الروسية والدولة العميقة فى روسيا:
الأوليجارشية الروسية، هي طبقة رجال الأعمال من جمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق، الذين راكموا الثروة خلال تسعينيات القرن الماضي، بعدما استفادوا من عمليات الخصخصة التي أعقبت تفككه، حيث تم فتح المجال للقطاع الخاص خلال مرحلة حكم ميخائيل جورباتشوف، وسمح لبعض الأفراد باستيراد سلع من الغرب وحققوا أرباح طائلة، وكان معظم هؤلاء الأفراد من أبناء مسئولين كبار فى الدولة السوفيتية وفى الحزب الشيوعي، وكانت غالبتهم من اليهود الذين لهم علاقات بدوائر المال الغربية للحصول علي قروض، قاموا من خلالها بالاستحواذ على قطاعات الدولة السوفيتية التى تقدر بمليارات الدولارات مقابل أثمان زهيدة.
لقد كان من أبرز الأوليجارشين الروس في تلك الفترة، بوريس بيريزوفسكى، الذي كان رئيساً لقسم تصميم النظام فى مركز الأبحاث السوفيتية التابع لأكاديمية العلوم، وأسس خلال فترة حكم جورباتشوف شركة خاصة كمشروع مشترك مع المعهد، وكذلك ميخائيل خودوركوفسكى الذي بدأ عمله باستيراد أجهزة الكمبيوتر تحت رعاية مركز الإبداع العلمي والتقني للشباب والمعتمد من الكومسومول (إتحاد الشبيبة الشيوعي) فى عام 1986، وفي عام 1993 عمل فى الحكومة الروسية كمستشار لرئيس الوزراء ونائب وزير الوقود والطاقة، وفي عام 1995 استطاع وبفضل علاقاته أن يستحوذ على شركة النفط الروسية العملاقة يوكوس والتي كانت ثاني أكبر الشركات في روسيا و رابعها علي مستوي العالم، وأصبح أغني رجال روسيا. وكذلك فلاديمير قينوجرادوف، والذي كان كبير الاقتصاديين في أحد البنوك الستة الموجودة فى الإتحاد السوفيتي، ويلي هؤلاء رومان ابراموفيتش، وفلاديمير جوزبنسكي، وفلاديمير بوتانبن، والكسندر سمولينسكى، وقد سيطر هؤلاء علي ما يفوق السبعين بالمائة من الاقتصاد الروسي في المرحلة ما بين 2000-1996.
وارتبطت الأوليجارشية الروسية بمصالح متشعبة مع الدوائر الرأسمالية الغربية، مما جعلهم يفرطون فى المصالح الروسية الحيوية المرتبطة بالأمن القومي الروسي، واستغلت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا هذا الوضع لتوسيع حلف شمال الأطلنطي إلي وسط وشرق أوروبا ضاربة بوعودها للرئيس جورباتشوف بعدم توسيع الناتو إلي مناطق قريبة من الحدود الروسية عرض الحائط، وجاءت حملة الناتو علي صربيا حليف روسيا عام 1999 لتمثل تهديداً غير مباشر لروسيا، مما دفع الدولة العميقة في روسيا والممثلة فى أجهزة الأمن والجيش والبيروقراطية الروسية إلى استشعار الخطر والتحرك رداً علي ذلك بانقلاب غير معلن، قادته الدولة العميقة بتعين مدير جهاز الأمن الفيدرالي الروسي فلاديمير بوتين رئيساً للوزراء في صيف 1999، وذلك بعد أسابيع قليلة من حملة الناتو علي صربيا، وبعد هذا التعين بأسابيع قليلة قدم الرئيس الروسي بوريس يلتسين استقالته من رئاسة الدولة مقابل عدم ملاحقته وأفراد أسرته بتهم الفساد، ودعمت الأوليجارشية الروسية صعود بوتين خوفاً من عودة الشيوعيين إلي السلطة، خاصة وأن زعيم الحزب الشيوعي الروسي جينادي زوجانوف كاد يصل إلى السلطة عام 1999 لولا مساندة الغرب للرئيس يلتسين، وتعهد الرئيس بوتين بعدم المساس بمصالح الأوليجارشين مقابل خضوعهم لسلطة الدولة، وعاد الحديث عن نفوذهم ودورهم، مع الحرب الأوكرانية والتي يعتقد الكسندر دوجين أهم مفكري روسيا في الوقت الحالي وعقل بوتين كما يسميه الغرب أن نتائج الحرب غير المرضية حتى الآن نتيجة التأثير الذي يملكه الأوليجارشيون على القرار الروسى، ولما لهم من ارتباط بمصالح مع الرأسمالية الغربية بحكم ما يملكون من استثمارات فى الغرب، كما يري أنه على الرغم من أن الرئيس بوتين أستطاع تطويهم وتحويلهم إلي أدوات تنفيذ فى يد الدولة، إلا أن مصالحهم الخاصة ساهمت بشكل كبير فى التردد في اتخاذ قرارات حاسمة، أثرت سلباً على مصالح روسيا الحيوية.
متي تمردت “فاجنر”؟
في فبراير2018 خاضت فاجنر في سوريا عدة عمليات خلال معركة خشام في دير الزور، وجاء العنوان الرئيسي لصحيفة التلجراف البريطانية ما نصه “Russian Mercenary Boss Spoke With Kremlin Before Attacking US Forces in Syria, Intel Claims” أي زعيم المرتزقة الروس تشاور مع الكرملين قبل مهاجمة القوات الأمريكية في سوريا. ما يعنى أن روسيا نفذت عملية عسكرية ضد قوات التحالف الذي تقوده القوات الأمريكية إلي جانب قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال السوري، بأيدي وأسلحة مجموعة فاجنر، ردا علي الهجوم الذي نفذته قوات التحالف علي الجيش السوري في بلدتي خشام والطابية بدير الزور، وذلك بعد هجوم الجيش السوري غير المبرر حسب وصف الولايات المتحدة علي مقر قيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
وذكرت وسائل الإعلام أن هجوم سلاح الجو الأمريكي نتج عنه قتلي من القوات الروسية أي مجموعة فاجنر. حيث كان من المفترض أن يقوم الجيش السوري بالتنسيق مع قيادة القوات الروسية التي تقوم بالتنسيق مع القوات الأمريكية لتفادى أي تضارب محتمل. وكان ذلك التنسيق يتم عبر قيادة العمليات الجوية المشتركة بقاعدة العديد بقطر والقيادة العامة للجيش الروسي في موسكو، بمعنى آخر أن فاجنر كانت تقوم بعملية عسكرية فى شمال سوريا نحو المناطق الكردية، للسيطرة على مناطق غنية بالبترول للاستفادة مالياً، وعلمت بذلك الاستخبارات العسكرية الأمريكية، ووفقاً لمبدأ التنسيق وعدم التضارب، تم الاستفسار عن سبب وجود وتحرك قوات روسية (قوات فاجنر) فى تلك المنطقة، فكانت الإجابة الروسية الرسمية بأنه لا وجود لعمليات أو قوات روسية فى هذه المنطقة، مما أشار إلى وجود تآمر من المخابرات العسكرية الروسية ضد فاجنر، مما جعل بيريجوجين يصرح بحسب التليجراف بأن الهجوم على القوات الأمريكية بسوريا تم بالتنسيق مع الكرملين.
ويعد ذلك توالت التسريبات حول عدم انضباط فاجنر تحت سقف القرار العسكري الروسي، حيث ادعت وثائق مسربة عن رغبة فاجنر فى التمدد حتى هايتي لمحاربة العصابات على بعد أقل من 1300كم من الساحل الجنوبي لولاية فلوريدا الأمريكية، وصولاً إلى الإصرار على استكمال الهجوم بوتيرة متسارعة على مدينة باخموت الأوكرانية التى استولت عليها فاجنر فى مايو 2023 بعد 224 يوم من المعارك، مع تزايد الشكاوى والانتقادات على لسان بريجوجين بخصوص تباطأ قيادة الجيش الروسي ووزارة الدفاع بقيادة شويجو وإدارة العملية العسكرية بقيادة جيراسيموف فى توفير ما يكفى فاجنر من أسلحة ومؤن على خطوط المواجهة حول باخموت وداخلها، وتصاعد حدة التوتر مع إعلان بريجوجين أن الجيش حاول مواجهة قواته المنسحبة من باخموت، وكان قرار وزارة الدفاع الروسية والذي يقضي بتوقيع عناصر فاجنر عقودا معها ابتداء من أول يوليو 2023، وهو ما فسره بريجوجين علي أنه محاولة من وزير الدفاع شويحو لتقليص سيطرته على المجموعة،وصولا إلى التمرد الذي وقع الشهر الماضي.
ثم جاءت وثائق جاك تيكسيرا ذلك المجند الأمريكي الذي عمل كفني أنظمة نقل إلكترونية بالحرس الوطني الجوى بولاية ماساتشوستس الأمريكية، وقد حوت على معلومات تتعلق بهجوم خططت له أوكرانيا ضد القوات الروسية فى سوريا وذلك من خلال اختراقات مخابراتي حققتها الولايات المتحدة داخل دوائر صنع القرار الروسي،كما حوت على وثائق تفضح شكوك الولايات المتحدة فى أية مكاسب سوف تحققها أوكرانيا من هجوم الربيع، وشملت أيضاً على وثائق تدل على اختراق روسيا عبر هاكرز محترفين لشبكات البنية التحتية للغاز الطبيعي فى كندا، كذلك عن مواقع تواجد قوات خاصة فرنسية وبريطانية وأمريكية تحارب فى أوكرانيا، والوثائق التى تتعلق بموافقة صربيا حليفة روسيا العتيدة على تزويد أوكرانيا بالأسلحة،وتجاوزت وثائق تيكسيرا الحرب الأوكرانية إلى بالون الصين وخطط فاجنر بخصوص رغبتها فى الحرب فى هايتى ،وكذلك خطط قيام الصين ببناء ميناء بنيكاراجوا.
وكشفت وثائق تيكسيرا، أن بريجوجين عرض تقديم معلومات لأوكرانيا عن مواقع تمركز القوات الروسية فى شرق أوكرانيا، مقابل سحب قواتها من مدينة باخموت، فى وقت كانت تزداد فيها خسائر فاجنر فى المدينة خاصة ما يحيط بكهوف سوليدار.
أظهرت الوثائق أن المديرية المركزية للمخابرات التابعة لوزارة الدفاع الأوكرانية HUR لم تأخذ محاولات تواصل بريجوجين معها على محمل الجد خشية الخداع، وقد شاركتها الإدارة الأمريكية تلك الخشية حسب الوثائق.
لقد زادت الوثائق أن بريجوجين، كانت له اتصالات وعلاقات مع المخابرات الأوكرانية عبر لقاءات شخصية ومكالمات تليفونية مع عملاء HUR تمت على أراض إفريقية تتواجد فيها فاجنر(ربما تكون إفريقيا الوسطى)، وحسب الوثائق عبر عن عدم رضاه عن خسائر فاجنرفى الحرب الأوكرانية، كما دعي الجيش الأوكراني إلى توجيه ضربات أعنف على مواقع الجيش الروسى التى تعانى من نقص ذخائر،وذلك على حدود شبه جزيرة القرم، والتي ضمتها روسيا منذ عام 2014 ،كما وصف الحالة المعنوية للقوات الروسية بالمنخفضة.
لماذا سمحت الدولة العميقة بتمرد فاجنر؟:
عبر التاريخ تكرر حدث التمرد فى روسيا، من خلال مجموعة قريبة من السلطة، وفى بعض الأحيان مدعومة منها، بهدف معلن هو التخلص من العناصر الفاسدة والأشرار المحيطين بالقيصر، جهاز أوبريتشنيا الذي أسسه القيصر إيفان الرابع الرهيب من قطاع الطرق والمغامرين والمجرمين، بهدف خلق توازن مع بارونات الأقاليم والنبلاء”البويار” وقادة الجيش، وفى عام 1566 قامت قوات أوبريتشنيا بعمليات قمع وقتل واسعة النطاق، وانطلقت حتى موسكو، وهناك قدمت فروض الولاء والطاعة للقيصر، وتم العفو عنها بعد سحق كل الخصوم والمنافسين، كما تكرر التمرد أثناء الحروب، حيث تمرد الستريليتسكى أو الرماة علي بطرس الأكبر عام 1698 فى أثناء حملات بحر أزوف ضد الأتراك، وتمرد بوجاتشيفعام 1773 علي كاترين العظيمة أثناء الحرب الروسية التركية (1774-1768).
لقد تشكلت تركيبة السلطة فى روسيا عبر مصدرين، الأول الثقافة السياسية المغولية التتارية، وتعلم منها الحكام الروس كيفية بناء الإمبراطورية وحسم مسألة السلطة عبر فكرة الانتخاب الطبيعي من خلال القوة. أما المصدر الثاني التأثيرات البيزنطية، ومنها أخذ الروس النظرية الأوتوقراطية للحم وتحالف القيصر مع الكنسية الأرثوذكسية .تاريخياً وعندما تخوض روسيا حرباً خارجية استباقبة دون حلفاء يتعرض الجيش للتعثر والمصاعب ويتم إلقاء اللوم فى الغالب علي السياسيين وبالتحديد رأس السلطة، وينظر للجيش على أنه المخلص والمنقذ، وهو ما حدث فى الحرب العالمية الأولى حيث دعت المعارضة الجيش للتحرك وإسقاط القيصر نيكولاي الثاني.
أدرك بوتين هذا الدرس جيدا، ومع بداية خروج الحرب فى أوكرانيا عن المسار الذي خطط لها، وبدأ كثير من الروس يتطلعون إلى الجيش، وقدرته علي إخراج روسيا من هذا المأزق.
بدأ ربيب بوتين وطباخه توجيه سهام نقده إلى قيادة الجيش، والتي كانت تزداد تأثيراً مع زيادة التعثر، وخسارة الأراضي في أوكرانيا، فقد صنع بريجوجين التوازن المطلوب لكي يتجنب الكرملين اللعنة التاريخية، وأسقط عبر انتقاداته لقيادة الجيش هيبتها فى أعين الشعب،بل وحملها مسئولية تعثر خطط الرئيس لجعل روسيا عظيمة مرة أخري، وإعادة توحيد أراضيها التاريخية.
كذلك ساد فى الأوساط الشعبية الروسية مقولة رئيسنا يكافح علي جبهتين خارجية مع الأعداء المدعومين من الغرب، وداخلياً مع الفاسدين الذين كذبوا عليه. بل وتوصل بوتين أن التمرد هو الأقل تكلفة بين البدائل الأخرى التى كانت ستكون أسوأ بكثير،إذ سمح التمرد بفضح الضعف ليس بالجيش وحده ،ولكن بالدولة الروسية بشكل عام. وقد بدأ الخلل في تركيبة السلطة الروسية بعد استعادة شبه جزيرة القرم عام 2014 حيث لم تكن النخبة الروسية متحمسة لهذه الخطوة خوفا من أثاره وتداعياته، فى حين بني الكرملين خطواته على اعتبار ضعف الغرب، وأن الأمر سوف يمر كما مر فى جورجيا عام 2008، عندما سيطر الجيش الروسي على أبخازيا وأوستينيا الجنوبية وطرد الجيش الجورجى.
وفي الغالب تكون النخبة الروسية أول من يقفز من مركز الزعيم عندما يتعرض لأزمة كبري، ثم تدعى أنها كانت ضد سياساته ولم توافق عليها، وإدراكا من بوتين لتلك لهذه الحقيقية التاريخية، أصر علي عقد اجتماع لمجلس الأمن القومي علي الهواء مباشرة، في سابقة لم تحدث من قبل في التاريخ الحديث، لطرح سؤال علي النخب السياسية والأمنية والعسكرية عن قبول استقلال جمهوريتي دونتسيك ولوجا نسيك، قاطعاً الطريق علي أي منهم للإدعاء مستقبلاً بعدم قبوله سياسات الكرملين، ونتج عن العقوبات الغربية، وتعثر الجيش الروسي في تحقيق أهداف العملية الخاصة في أوكرانيا، اهتزاز صورة الكرملين أمام النخب الروسية،والتي تضررت كثيراً من هذه العقوبات.
وحافظ بريجوجين علي التوازن الذي صنعه الكرملين بين الجيش وفاجنر من خلال انتقاداته العلنية لقيادة الجيش الروسي والتي لم يعترض عليها الكرملين، وعدم توجيه تهمة الخيانة العظمى التي كانت توجه لأي سياسي قد يصدر عنه تصريحات أقل من ذلك بكثير، من خلال ألقاء المسئولية الكاملة لهذا التعثر علي القيادة العليا للجيش، مما دفعها إلي التضييق على فاجنر، عن طريق منع إمدادها بالسلاح والذخيرة، ومحاولة ضربها والتخلص منها في أكثر من موضع، بل وحظر تجنيد المدانين في السجون ضمن صفوفها كما كان يحدث سابقاً.
وبدأ تأثير العقوبات يظهر في زيادة التضخم، وجاءت التعبئة الجزئية لتزيد من خشية النخب المالية، نتيجة الخسائر ألكبري التي تعرضت لها، وإن تم تعويضها،ولكنها في نهاية الأمر باتت محاصرة في الغرب، وفي الداخل الروسي غير أمنة بالشكل الكامل من احتمال التأميم. كما تعرض التوازن و تقاسم السلطة والثروة السائد منذ 2004 بعد استقرار نظام بوتين لاختلال كبير، وأن توزيع حصص السلطة والثروة المعمول به لم يعد عادلاً.
وكانت إعادة توزيع السلطة والثروة تحتاج إلي شخصية مغامرة، ظهر بريجوجين الذي مثل نفسه ومجموعته وبعض الداعمين داخل المنظومة،الذين تصاعد دورهم بعد أوكرانيا، خاصة أن الكرملين سمح له بما لم يسمح به لغيره.
وختاماً، استخدم الكرملين بريجوجين لخلق التوازن مع الجيش الروسي بعد التعثر في تنفيذ أهداف العملية العسكرية في أوكرانيا، ونجح في ذلك نجاحاً كبيراً ،حيث لم تعد القيادات العسكرية العليا في الجيش الروسي قادرة علي رفع رؤوسها أو الإدعاء أنها يمكن أن تكون الحل أو الأمل للشعب الروسي للخلاص من هذا المأزق،كما كان يحدث تاريخياً .
وبدا بريجوجين خياراً مثالياً للكرملين، لأنه رجل من خارج السلطة التقليدية الروسية، كما أنه مدان سابقاً في عدة جرائم، وقضي سنوات من عمره في السجن،كما أن عمود قواته الفقري من المجرمين أرباب السوابق الإجرامية، وكذلك أصوله اليهودية، كل هذه العوامل جعلته تحت السيطرة التامة للكرملين، كما لن يسمح له إن أراد أن يلعب دوراً أكبر، وبالطبع إن حاول الوصول للسلطة، داخلياً وخارجيا.
ولذلك فإنه مثل خياراً أمناً، ومع ذلك لم يكن التخلص منه قراراً سهلا، وهو ما يفسر عدم ذكر بوتين له ولمجموعته التي لا تعرف قائدا سواه، مما يعني فقدان السيطرة عليها حالة التخلص منه. مما يعني فقدان رأس مال جيوسياسي في العديد من مناطق العالم التي تعمل بها المجموعة، خاصة في سوريا والقارة الإفريقية تحديداً في ليبيا والسودان والساحل الإفريقي لدعم مصالح الكرملين.
وفي المقابل أدرك بريجوجين تلك المعادلة جيداً مما جعله يمتلك القدرة علي التحدي وعدم خشية العواقب،حيث التعرض له في الوقت الحالي يعنى خسارة الكرملين، ولذلك قبل الكرملين وساطة الرئيس البلاروسي، بل وأصدر عفواً عنه، وإن كان كل ذلك لا يمنع أن يتم التخلص منه مستقبلاً بعد تغير الواقع. فقد كان ما حدث تمرداً علي بعض رجال بوتين، وصراعاً عليه لا ضده، صراعاً داخل النخب الروسية علي من يكون الأقرب للقيصر.
وغالبا سوف يتم تسويق كل قرارات القيصر علي أنها تعبر عن حكمته، وحرصه علي أن لا يقاتل الروس بعضهم البعض، وسوف يتمكن من إعادة تنظيم داخلي لنخب كان من الصعب الاقتراب منها، وإعادة توزيع جديدة للسلطة والثروة تتلاءم مع حقائق القوة الجديدة، كما يشكل ما حدث محور حملته الانتخابية القادمة، حيث البلاد التي تواجه عدواً خارجياً، وفي الداخل فساداً وانعدام كفاءة، مما يتطلب بقاء الرئيس لقيادة عملية تصحيح الأوضاع الداخلية، وإتمام المهام الخارجية، حيث روسيا بدونه تعني الفوضى والحرب الأهلية والدماء وهو ما يهون من الأوضاع الاقتصادية الصعبة، بل وتزيد التمسك به.