هل يخشي اللبنانيون انتصار حزب الله؟
لسنوات طوال ستمْتَد تداعيات طوفان الأقصى، شأنُها في ذلك شأن الأحداث الكبرى التي شهدها الشرق الأوسط طوال تاريخه، وستفتح تلك التداعيات سِجّالات علي كافة المستويات، وكان يُنتَظر أن تبدأ بعد سُكون الميدان والمدافع، ودوران محركات السياسة، ولأنها الشعوب اللبنانية فقد حدث ما لم يكن مفترضاً أن يحدث.
بدأت السِجّالات بين الشعوب اللبنانية بكثير من الشعبوية الإعلامية بين تيارين علي طرفي النقيض، فالطرف الأول مسيحي وإن شئت الدقة ماروني يري ضرورة تحييد لبنان عن ذلك الطوفان، مستخدماً الطريقة التي خَلَفْت الانطوائية التي ألحقت بهم خسارات تاريخية ساحقة، غافلاً عن دروس التاريخ وحاكمية الجغرافيا. أما الطرف الأخر حمل هويّة إسلامية من كان منهم سنياً أو شيعياً، مطالباً بدخول لبنان الحرب،وبدا لبنان منقسماً سياسياً بالأخص حول قرار حزب الله بالانخراط في حرب الإسناد. ولم ينقسم شعوره الوطني العام تجاه المجازر التي ارتكبها العدو الصهيوني في غزة أو الضفة الغربية أو لبنان، وبات واضحاً حتى نهايات الصيف الماضي تلاشي الآثار النفسية التي أوْرَثتْها الأحداث اللبنانية المتعاقبة منذ جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري التي لم يُحاكم فيها حزب الله فقط لعدم كفاية الأدلة، إلي أحداث 7مايو2008 إلي الحرب السورية والدور الذي لعبه حزب الله فيها، وكاد لبنان أن تَسْقُط عنه صفة الدولة إلي المشاع السياسي والعسكري، وعادت الشعوب اللبنانية سيرتها الأولي أو طائفتها الأولي، مما أثار قلق بل هلع الطرف الأول الماروني مما دفعهم إلي مغامرات تناقضت مع تاريخهم،وبعد أن عادت فلسطين إلي صدارة الأحداث، واختلف الناس في شتي بقاع الأرض حولها وعليها، ولكنها في لبنان تأخذ بعداً أخر بل أبعاد أخري تبعاً للشعوب اللبنانية، لشدة تداخل تواريخ القضية من مهدها حتى اللحظة الراهنة مع تواريخ الشعوب اللبنانية.
فهل هناك من اللبنانيون من يخشي انتصار حزب الله في حرب الإسناد التي تحولت إلي حرب حقيقية مع إسرائيل؟
هل ينتصر حزب الله؟
يخوض حزب الله المعركة في 2024 مع إسرائيل باسراتيجية وأفكار وتكتيكات حرب لبنان الثانية في 2006، وذلك علي الرغم من تطور نوعية السلاح في مخازنه، ويعتقد أن بإمكانه أن يعلن النصر الإلهي كما حدث من قبل، غير أن إسرائيل التي يواجهها اليوم تغيرت، وكذلك إيران التي يرتبط بها الحزب عضوياً،وسوريا التي تمثل عمق إمداداته، فأفكار الحزب عن إسرائيل أنها تفتقر إلي إرادة القتال، ولا تتحمل الخسائر البشرية، ولا تتحمل بقاء مواطنيها في الملاجئ لعدة أسابيع، وكانت هشة أمام سلاحه، والضعف الاستخبارتي الذي لم يستطع الوصول إلي أي قائد ميداني حتى من قادة الصف الثالث للحزب طوال 33 يوماً من الحرب والقتال في 2006.
فالجيش الإسرائيلي الذي كانت عقيدته القتالية مهتزة نتيجة الانسحاب الفوضوي والمُذِل من الجنوب اللبناني عام 2000، تلك الأفكار لم تعد صالحة ويحتاج الحزب إلي استراتيجيات مختلفة للمواجهة. حتى حزب الله نفسه لم يعد الحزب الذي خاض الحرب في 2006،وبات الحزب في 2024 تحت سقف مصالح إيران وعلاقاتها الدولية بشكل مباشر، وأصبح يُنظر إليه كعضو في هرمية عسكرية ترتبط مباشرة بطهران، مما خالف عِلة وجوده العقائدية والوطنية، في الوقت الذي كانت إسرائيل في حربها معه محررة من أي قيد أو سقف، كما أصبح الحزب في 2024 مكبلاً عسكرياً وتكنولوجيا بالتفوق الإسرائيلي الواضح، نتيجة الدعم غير المسبوق من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين، واستخبارياً بالانكشاف الأمني الكبير نتيجة الاختراق الإسرائيلي الكامل للحزب، مما أدي إلي استشهاد عدد كبير من قوات النخبة والقادة الكبار من الصف الثاني والأول للحزب وصولا إلي استشهاد السيد حسن نصر الله نفسه، وهو الأمر لم تستطع إسرائيل تنفيذه طوال 32عاما قضاها أميناً عاماً للحزب.
لقد مثْل عدم الإجماع الداخلي علي الحرب أكبر القيود علي حزب الله في حرب 2024، وفي محاوله لقلب المعادلة عقب أسبوع ألام حزب الله الذي بدأ بتفجيرات البيجر وصولا لاستشهاد الأمين العام، فقد صرح إبراهيم عقيل قائد قوات الرضوان قبل اغتياله بأن إسرائيل حققت إنجازاً من أعظم الانجازات بدخولها غزة بأكملها، وتفجير البيجر واستشهاد القادة الكبار من الحزب، ولكن هذا الانتصار يبقي خارج الإطار الإستراتيجي الذي ترسمه لنفسها، في إسقاط مماثل علي ما جري للحزب أو بمعني أخر أن اغتيال فؤاد شكر وإبراهيم عقيل وتفجيرات البيجر وأجهزة اللاسلكي، هي إنجازات كبري لكنها في نهاية الأمر تكتيكية، لم تصل إلي الأهداف الإستراتيجية ولن تصل.
الأهم أن فرصة الحزب في قلب المعادلة الاستراتيجية والفوز بالنقاط ما زالت قائمة، وتطبيق نظرية أن الحزب يربح إذا لم يخسر وأن إسرائيل تخسر إذا لم تربح ، لكن إسرائيل أكثر واقعية مما كانت عليه في 2006فلم تعلن أن الهدف من الحرب القضاء علي الحزب أو تجريده من السلاح بل أعلنت أن الهدف إبعاد الحزب إلي وراء الليطاني تنفيذا للقرار1701، لتأمين جبهتها الشمالية حتى يتمكن النازحون من العودة،أما حزب الله فيهدف اليوم إلي الخروج من هذه الحرب سليماً محتفظاً بالسيطرة علي منظومة الحكم في لبنان، وبعد ذلك يمكن ترميم مخزون السلاح وإعادة بناء الكوادر العسكرية، لذا فالنصر في المعركة الحالية بالنسبة لحزب الله يتمثل في لاءاتٍ أربع وهي: ألا يفقد الحزب القدرة الاستراتيجية علي تهديد إسرائيل. وألا يُحال بينه وبين ممارسة أدوارة خارج الحدود اللبنانية خاصة سوريا. وألا يُمس سلاحه أو قدرته علي التسليح لأن ذلك ركيزة الدور الإقليمي الذي يلعبه الحزب. وألا يجبر علي تقديم تنازلات استراتيجية تهز صورته أمام جمهور المقاومة.
وتأتي الإشكالية الكبرى أن الحزب لم يعد قادراً علي إنتاج اللاءات وحده ولا بالاعتماد علي الدعم الإيراني أو الإمداد عبر سوريا كما فعل في 2006، فتلك أول معركة يخضها الحزب دون سوريا، وبات الحزب أحوج ما يكون إلي غطاءاً وطنياً لبنانياً يعيش ألم الجنوب والبقاع وأهلها ولكنه غير معني بلاءات حزب الله، وليس بالمعني الذي حاول حزب خلقه من خلال إشراك فصائل فلسطينية والجماعة الإسلامية وحركة أمل أو ما سُمي بالسرايا اللبنانية وهي المجموعات التي شكلها حزب الله داخل البيئات الطائفية الأخرى كالمسحيين والدروز والسنة في معركة 2024، فالوقت لا يمضي في صالح الحزب فكل يوم بل كل ساعة تمر تتوحش حكومة نتنياهو ويتآكل رصيد الحزب وثقة جمهوره، ووقف إطلاق النار من المؤكد في الحالة التي يمر بها الحزب ولبنان واللحظة الدولية والإقليمية لن يتم علي طريقة 1701عام 2006 عندما استعمل الحزب الحكومة اللبنانية للتفاوض ثم تخلي عنها فور انتهاء الحرب.
هل يخشي اللبنانيون من انتصار الحزب؟ولماذا؟
هناك في الداخل اللبناني من يخشي انتصار حزب الله في هذه الحرب، وهؤلاء ليسو خونة أو أغبياء إلي الحد الذي يجعلهم يراهنون علي انتصار عدو مثل إسرائيل، والمعضلة ليست في هؤلاء الذين يتخوفون من انتصار الحزب،بل في الحزب الذي يريد أن يعيد تجربة 2006 وتكرار ما جري بعدها خلال ما يقرب من عقدين، وعدم اهتمامه بخشية الكثيرين من تحول الانتصار علي إسرائيل مرة أخري بالمعني الذي رسّخَه بعد 2006 إلي مشروع لمواصلة الهيمنة علي لبنان، والتحكم في نظامه السياسي لعشرين عاماً أخري حتى موعد المعركة الأخرى أو النصر الإلهي الثالث، فبعد ساعات قليلة من انتهاء الحرب عام 2006 خرج مسئولي الحزب بخطاب تخويني لكل معارضيه، وتحولت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي كان الحزب مشاركاً فيها من حكومة مقاومة علي حد وصف رئيس البرلمان نبيه بري أثناء الحرب إلي حكومة تتآمر مع الصهاينة والأمريكان علي المقاومة، وتم تقسيم اللبنانيين بين أشرف الناس الذين انتصروا، وآخرين خاب أملهم بهزيمة المقاومة، ومنهم من له تاريخ في العداء لإسرائيل، ودفع أثمان باهظة لهذا الموقف،وكان ذلك مريراً لما أنطوي عليه من تزوير للحاضر والتاريخ، وبعد الانتصار بدأ استخدام السلاح في الحياة السياسية اللبنانية، بدأ بمحاصرة السراي الحكومي باعتصام مسلح وصولا لاحتلال بيروت في مايو 2008، وصولا لاتفاق الدوحة إلي مكن الحزب من عنق النظام السياسي اللبناني، من خلال الحصول علي حق الفيتو أو الثلث المعطل والذي كانت له تداعيات خطيرة علي بنية النظام السياسي اللبناني، وتعطيل استكمال الخطوات التنفيذية لاتفاق الطائف الذي أنهي الحرب الأهلية اللبنانية عام 1989، وهو ما فتح نقاشاً عن دور الحزب في حالة الفراغ الرئاسي والحكومي بل والبرلماني الذي تقترب ذكراه السنوية الثانية بعد أيام قليلة،من خلال إصراره علي أن يكون الرئيس حامياً لظهر المقاومة، لذا فهناك من القوي الداخلية من يراهن بحيثيات مختلف علي ضعف الحزب أملاً في إعادة التوازن للحياة السياسية، فالموارنة اللبنانيين الذين انقسموا حول فلسطين وعليها طوال عمر النكبة، وبينهما من الدماء ما لا يشفي الصدور منه غير الزمن، وصل المؤيدون في تأيدهم إلي السلاح والدم واليهما وصل المعارضون، وترك الموارنة تراثاً لم يتركه الفلسطينيين أنفسهم.
ففي ديسمبر 1947 كتب ميشال شيحا أحد كبار الموارنة عن قرار تقسيم فلسطين وإنشاء الكيان الصهيوني وعَدْه من أكبر الأخطاء السياسية المعاصرة، وسبقه نجيب العازوري عام 1913 في مرجعه الأهم “يقظة الأمة العربية في الأقاليم الأسيوية”وما حَمِله من أهمية استثنائية عن الوحدة العربية والعلمانية والاستقلال والتنبيه لخطر الصهيونية،ومازال صوت الرئيس سليمان فرنجية الجد يتردد في جنبات الأمم المتحدة منذ أن حمل القضية الفلسطينية إليها عام 1974، وصولاً إلي الرحبانية والسيدة فيروز والقدس زهرة المدائن التي ترحل إليها عيونُنا كل يوم.
ورغم كل ذلك اندلعت الحرب بين الفلسطينيين والمليشيات المارونية في لبنان،حتى أضحي طريق فلسطين يمر إلا من جونية عاصمة الموارنة، ولا يتحقق استقلال لبنان إلا بخروج الفلسطينيين من لبنان كما ردد الموارنة.
غالباً ما كانت فلسطين وحدة قياس مارونية قائمة بذاتها، ترفع من تشاء في وقت، وتعود وتخفض من تشاء في وقت أخر، وصل الرئيس كميل شمعون إلي قصر بعبدا لأنه فتي العروبة الأغر وفي القلب منها فلسطين، ووصل الرئيس بشير الجميل إلي نفس القصر لأنه العدو الأول للفلسطينيين في لبنان.
ختاماً، من المفارقات في كل الدنيا إلا لبنان أن تندلع المعركة جنوبه بل في كل لبنان مع إسرائيل في ظل حالة من الفراغ الرئاسي والحكومي والبرلماني،يراهن كُثر علي نتيجة المعركة،الطامحون من الموارنة أهدافهم معلقة علي غبار المعركة عسي أن ينجلي ذلك الغبار فيجد نفسه في قصر بعبدا علي كرسي الرئاسة الأولي،في الوقت الذي تحوم فوق لبنان مخاطر الزوال، ويراهن البعض الأخر علي انكسار يبدّل أوزان الداخل فيصعد إلي سدة الرئاسة. فالرئاسة هي الهدف الأسمى لكل ماروني يحترف السياسة، ويري المعركة الدائرة حالياً جسراً يطوي العقبات والحواجز ويحمله إلي القصر فيضع أوراقه في سلة المقاومة،ويضع البعض الأخر من الموارنة أوراقة في سلة الغرب، فكلا المارونيين يري أن طريق بعبدا يمر من غزة وطوفانها والجنوب ومعركته.