مسار اضراري: كيف أعادت مغامرة “ماكرون” فرنسا إلي الجمهورية الرابعة؟

خاض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أكبر مغامرة في تاريخه السياسي، فبعد هزيمة ائتلافه في انتخابات الإتحاد الأوروبي في يونيو الماضي أمام اليمين القومي،حلّ ماكرون الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)ودعا إلي انتخابات مبكرة،جرت جولتها الأولي في الثلاثين من يونيو الماضي ووضعت نتائجها حزب التجمع الوطني اليميني القومي بزعامة مارين لوبان في المقدمة بأكثر من ثلثي الأصوات، بينما جاء حزب الرئيس ثالثا بعشرين في المائة من الأصوات، مما أدي إلي تصاعد المخاوف من فوز التجمع الوطني اليميني بالأغلبية المطلقة التي تمكنه من تشكيل الحكومة الفرنسية منفرداً لأول مرة في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة،وبعد جولة الإعادة التي جرت في السابع من يوليو الحالي، وعلي عكس ما توقعته معظم استطلاعات الرأي العام إن لم تكن جميعها انتهت تلك الجولة بحصول التجمع الوطني اليميني القومي علي 143 مقعدا من مقاعد الجمعية الوطنية الفرنسية والبالغة 577مقعداً، وتشمل تلك المقاعد التي حصل عليها مجموعة منشقة من الجمهوريين، والحزب اليميني المحافظ السائد للرئيس السابق نيكولا ساركوزي، وقد أدي الارتفاع في المشاركة الانتخابية، خاصة في الجولة الثانية إلي منح إتحاد الجبهة الشعبية الجديدة للأحزاب السياسية اليسارية 182 مقعداً بشكل لم يكن متوقعاً، وفاز المحافظون(الجمهوريون وحلفائهم المعتدلون) بـ 68 مقعداً، في حين تم إخراج حزب الاستعادة اليميني الذي يتزعمه الصحفي السياسي السابق إريك زيمور من الخريطة السياسية الفرنسية بدون أية مقاعد، وعلي الرغم من تلك النتائج فقد حصل حزب التجمع الوطني الذي يمثل اليمين القومي علي 8.7مليون صوت،بينما حصل حزب الجبهة الوطنية علي 7مليون صوت، وحصل حزب ماكرون علي 6.3مليون صوت،وحصل المحافظون علي 1.5مليون صوت،ووفقاً لتلك النتائج ودستور الجمهورية الخامسة الذي أصدره الزعيم الفرنسي شارل ديجول 1958 لا يستطيع أي حزب أو ائتلاف الإنفراد بتشكيل الحكومة الفرنسية،كما لا يستطيع الرئيس الفرنسي الدعوة إلي انتخابات مبكرة أخري قبل مرور عام من تاريخ تلك الانتخابات، مما جعل فرنسا أكثر انقساما واستقطاباً من أي وقت أخر وطوال عمر الجمهورية الخامسة.

 لماذا دعي ماكرون للانتخابات المبكرة؟ كيف وصلت فرنسا إلي هذه النقطة؟ وهل هناك وسيلة لتجنيب فرنسا الفوضى السياسية وحتى المؤسسية؟ وهل دشنت نتائج الانتخابات المبكرة نهاية الجمهورية الخامسة وبداية الجمهورية السادسة في فرنسا أم أعادت فرنسا إلي الجمهورية الرابعة؟

مسار اضراري:

لقد راهن ماكرون علي الفوز الكبير الذي حققه حزب التجمع الوطني بقيادة جوردان بارديلا علي حزب النهضة الذي يتزعمه الرئيس 31.4% مقابل 14.6%)في انتخابات الإتحاد الأوروبي، وشعر الرئيس بالرعب من أن يدخل تاريخ فرنسا بأنه سّلم الرئاسة الفرنسية لمارين لوبان عام 2027، وراهن علي أن أفضل طريقة لوقف ذلك الصعود مرة واحدة وإلي الأبد هي وضع حزب التجمع الوطني في السلطة الأن،فإن وجود زعيم الحزب جوردان بارديلا البالغ من العمر 28 عاماً علي رأس الحكومة من الممكن أن يثبت للشعب الفرنسي أنه غير كفء وغير محترف لحكم فرنسا،ولأن حزب الرئيس الذي فقد الأغلبية في الجمعية الفرنسية الوطنية، ولم يعد لديه الأغلبية الواضحة، مما قد يعرضه في أي وقت لاقتراح بحجب الثقة،فقرر ماكرون أن يترك الفرنسيين يقررون مصيرهم في صناديق الاقتراع، وإحداث صدمة من شأنها أن تثير الخوف والفزع بين الفرنسيين من فكرة تمكن حزب التجمع الوطني من الفوز بأغلبية الأصوات، وفي نفس الوقت يُضعف الحزب نفسه لأنه لم يكن يوماً جزءاً أي ائتلاف ويفتقر إلي الخبرة الذي يتمتع بها منافسوه، كما راهن ماكرون علي أن حزب التجمع الوطني ليست لدية أجندة سياسية متكاملة في حالة فوزه،كما أن حزب التجمع الوطني لن يكون قادراً علي تقديم مرشحين لديهم الخبرة في جميع دوائر الانتخابات البالغ عددها 577 دائرة، كما كان يعلم أن حزب التجمع الوطني لا يضم سوي خمسين ألف عضو يسددون الاشتراكات،الأمر الذي يختلف كثيراً عن الثلاثة عشر مليون الذين صوتوا لمارين لوبان في عام 2022، فإن هذا الحزب لابد أنه يعاني من نقص التمويل ونقص الموظفين، فقد أراد ماكرون أن تكون لدي الفرنسيين صور واضحة تماماً لكل من جوردان بارديلا ولوبان باعتبارهما ديماجوجيين شعبويين، وربما يجذبون بعض الناخبين من التيار السائد لكنه يظل متطرفاً، وعندما يُنتخب سوف يفرط في سياسات الإنفاق، بل ويطرد المستثمرين المحتملين، مما يجلب الاضطرابات إلي شوارع باريس بسبب سياساته المناهضة للهجرة وكراهية الأجانب، وكانت تلك خطوة يائسة من الرئيس للاحتفاظ بالرئاسة حتى عام 2027.

وقيْم الرئيس المحافظين السائدين واليسار، وكان الجمهوريون ورثة جاك شيراك وشارل ديجول علي وشك الخروج من الخريطة السياسية الفرنسية بعد حصولهم علي نسبة 7.3%من الأصوات،وبعد انقسام جناحه اليميني بقيادة عضو البرلمان عن مدينة نيس إريك سيوتي. وتكشفت الظروف التي أحاطت بقرار ماكرون غير المتوقع، والذي اتخذه بمعزل عن الحكومة،ودون القيام بالمشاورات التي يُلزمه بها الدستور،وتحديداً مع مجلسي الشيوخ والنواب ورئيس الحكومة، ولم يعد سراً أن رئيس الحكومة جابريل أتال كان معارضاً بشدة لقرار ماكرون الذي يدين له بكل شيء. كما اعتبر إدوارد فليب رئيس الحكومة الأسبق والرئيس الحالي لحزب “هورايزون” المتحالف مع ماكرون أن الأخير قتل الأكثرية الرئاسية، مما يستوجب الذهاب إلي أكثرية جديدة ليست كسابقتها.

أما فرانسوا بايرو الحليف الرئيسي لماكرون ورئيس حزب الحركة الديمقراطية المنضوية تحت لواء التحالف الداعم لماكرون فرأي أن المعركة الانتخابية التي تلي حل البرلمان ليست معركة سياسية بل صراع من أجل البقاء. وبات واضحاً أن ماكرون اتخذ قراره مع مجموع صغيرة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة،ففي قصر الإليزيه وفي اجتماع دُعيت إليه يائيل بيفيه براون رئيس مجلس النواب ليس للتشاور بل لإبلاغها قراره، طلبت منه اجتماعاً منفرداً لإبلاغه رفضها حل البرلمان التي ترأسه منذ عامين،مذكّرةً الرئيس بالمادة الدستورية التي تلزمه بذلك،ووافق ماكرون علي طلبها إلا أن الاجتماع لم يستغرق سوي دقيقتين.

أما جيرار لارشيه رئيس مجلس الشيوخ والمنتمي إلي اليمين القومي والذي يشغل المنصب من غير انقطاع منذ عام 2014 لم يكن حاضراً الاجتماع الطارئ، تلقي اتصالاً دام دقيقة ونصف من ماكرون في الساعة الثامنة والربع من مساء التاسع من يونيو، وانتقد الرجل ماكرون لعدم احترامه للمادة12 من الدستور، وعدَّ الرجل القرار انتقاصاً من دور المؤسسة التي يرأسها ومن منصبه بل ومنه شخصيا، وسأل لارشية ماكرون هل فكرت جيداً بما قررت، وأجابه ماكرون نعم أنا أتحمل كامل المسئولية ومستعد للتعايش مع حكومة من غير معسكره السياسي. حسب ما نشرت صحيفة لوموند الفرنسية.

استدعاء اليسار :

كانت أحزاب اليسار الفرنسي منقسمة بشأن عدد من قضايا السياسة الخارجية، ولهذا لم تقدم قائمة مشتركة في انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو الماضي،فقد اختلفوا بشأن حرب إسرائيل علي غزة ودعم أوكرانيا والعلاقات المستقبلية مع روسيا، والواقع أن حزب فرنسا المتمردة اليساري المتطرف مناهض إلي حد كبير لحلف شمال الأطلسي،كما ينتقد الإتحاد الأوروبي بشدة، كما يرفض فكرة انضمام أوكرانيا إلي الإتحاد الأوروبي، ويريد علاقات وثيقة مع روسيا، كما يتبني حزب الخصر والاشتراكيون موقفاً أثر ميلاً ألي أوروبا وحلف شمال الأطلسي. وأثناء التفاوض علي تشكيل الجبهة الوطنية التقدمية عادت الخلاقات القديمة، وتم تسويتها وظهر البيان الذي يؤكد علي ضرورة الدفاع عن أوكرانيا والسلام مع القارة الأوروبية،ودعا البيان إلي العمل علي تحرير الرهائن المحتجزين لدي حماس،والتي يرفضون مشروعها الثيوقراطي، كما ضم البيان الدعوة إلي تحرير السجناء الفلسطينيين، ودعا البيان إلي إنهاء اتفاقيات التجارة الحرة وإصلاح السياسة الزراعية المشتركة وفرض الضرائب علي الأثرياء لزيادة ميزانية الإتحاد الأوروبي.

وكان اليسار الفرنسي يحتشد تاريخيا من أجل محاربة اليمين القومي،ففي عام2002 عندما وصل جان  لوبان إلي الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية ضد الرئيس جاك شيراك، مما أثار دهشة وذهول الناخبين، بدلا من رئيس الوزراء أنذاك ليونيل جوسبان الذي كان فوزه أمراً مفروغ منه تقريباً، كما تحرك اليسار في انتخابات 2017 و2022 للتأكد من هزيمة اليمين القومي، وعقب الانتخابات والتأكد من هزيمة اليمين القومي،عادت الخلافات سريعاً مر أخري علي مسألة زعيم الجبهة التقدمية فجان لوك ميليومنشون زعيم فرنسا المتمردة والذي يُعرف بأنه مثير للانقسام، واتُهم بأنه معادي للسامية ،يطمح أن يكون رئيساً  ولكنه سيكتفي بمنصب رئيس  الوزراء ويعرف قاد اليسار الآخرون ذلك،بل أن مارين توندلييه من حزب الخضر، وفرنسوا روفين وكليمنتين أوتان من حزب فرنسا المتمردة سابقاً، وبوريس فالو من الحزب الاشتراكي جميعهم مرشحون لذاك المنصب بل ومتوافقين مع ماكرون.

ما بعد الانتخابات:

بعد نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي الذي شهدت صعود حزب التجمع الوطني اليميني بزعامة مارين لوبان ورئاسة جوردان بارديلا إلي المرتبة الأولي بعد حصوله علي 34% من الأصوات، كان ماكرون يهيأ نفسه للتعايش مع حكومة من اليمين القومي،مما كان سيدخل فرنسا إلي دائرة الدول التي يسيطر عليها اليمين بالكامل كما في إيطاليا وهولندا،أو جزئيا كما في المجر والدنمارك والسويد،وانتقد لارشيه نهج ماكرون بالسيطرة علي القرار السياسي وحرمان حكومته من حرية التصرف، وقلة اهتمامه بالمؤسسات وبدور رئيس الحكومة والنقابات وما يسمي بالهيئات الوسيطة، مما قاده إلي العزلة التي يعاني منها الآن، والتي تمثلت في أن أحداً من المرشحين لم يطلب مساندة ماكرون، والأكثر من ذلك لا يوجد أحد من المرشحين وضع صورة الرئيس بجوار صورته علي ملصقاته الانتخابية. وجاءت النتائج النهائية  للانتخابات المبكرة بفوز حزب التجمع الوطني ومعه حليفه أريك سيوتي رئيس حزب الجمهوريين المنشق والملتحق بالتجمع الوطني33.15% من أصوات الناخبين وعلي 10.7مليون صوت،وتمكن 37من مرشحيه من الفوز في الجولة الأولي.

أما الجبهة الشعبية الجديدة التي تشكلت علي عجل والتي تضم ثلاثة أحزاب يسارية مع حزب الخضر في المرتبة الثانية بحصولها علي 28%من الأصوات، وتمكن 32نائبا من الفوز في الجولة الأولي. وجاء ائتلاف الوسط الداعم للرئيس ماكرون في المرتبة الثالثة بحصوله علي 21%. فقد دفعت نتائج الجولة الأولي للانتخابات وفوز اليمين الجبهة الشعبية الجديدة وائتلاف الوسط رغم التباعد الأيديولوجي والسياسي بينهما،والحملات السياسية والشخصية العنيفة المتبادلة طيلة الجولة الأولي، إلي الاتفاق علي سحب مرشحيهما من الدوائر إلي حصلوا فيها علي المركز الثالث، لكي تصب كافة الأصوات لصالح المرشح المنافس لليمين،- أي كان لونه السياسي، واتفق الطرفان علي سحب 220مرشحاً أكثريتهم من جبهة اليسار، وتحققت المعجزة وانقلبت نتائج الجولة الأولي رأساً علي عقب. ونتجت عن تلك الانتخابات ظواهر لم تعرفها الجمهورية الخامسة طوال تاريخها،كان أهمها نجاح الجبهة الجمهورية في المهمة الرئيسية التي تشكلت من أجلها وهي وقف زحف اليمين القومي ووأد أحلامه علي الرغم من وصول 143نائباً للبرلمان الجديد مقابل 89 نائباً في البرلمان السابق، كذلك أن جبهة اليسار ومن انضم إليها جاءوا في المرتبة الأولي182نائباً، وحل الوسط الرئاسي ثالثاً 168نائباً بخسارة 84نائباً عن البرلمان السابق، وتعني تلك النتائج عدم فوز أية مجموعة من المجموعات الرئيسية علي الأغلبية المطلقة(289نائباً) مما خلق وضعاً سياسياً بالغ التعقيد،وجعل تشكيل الحكومة يحتاج إلي معجزة، وجاءت أهم نتائج تلك الانتخابات في انتقال القرار السياسي من قصر الإليزيه بعد خروج الرئيس ماكرون ومجموعته السياسية ضعيفاً مع فقدان السيطرة علي المجموعات الأخرى إلي البرلمان، وهو ما أعاد فرنسا إلي زمن الجمهورية الرابعة.

ويعطي دستور فرنسا الرئيس الحق في تسميه رئيس الحكومة، ولا يلزمه بمدة محدد لاختياره، ولكن العرف السياسي الفرنسي يُوجب عليه أن يكون الاختيار من الحزب أو التجمع الفائز بالانتخابات، وهي الجبهة الشعبية الجديدة. ولكن الرئيس وائتلاف الوسط واليمين التقليدي (الجمهوريين) الذي حصل علي 65مقعدأ لا يرغبون في وصول اليسار إلي السلطة، بحجة هيمنة حزب فرنسا الابيه والمرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون عليه، كما يرون أن اليسار عاجز عن توفير أكثرية مجلس النواب لعدم رغبة المجموعتين الكبيرتين في التحالف معه، في الوقت الذي تجتهد فيه جبهة اليسار بشق الأنفس وبمفاوضات شاقة للوصول إلي التوافق حول اسم مرشح تطرحه لرئاسة الحكومة،فقد طرح اوليفية فور أمين عام الحزب الاشتراكي نفسه للمنصب، مع وجود صراع بين الجزب الاشتراكي وحزب فرنسا الابيه علي زعامة التجمع اليساري،وحلم ماكرون ومجموعته بحدوث شرخ داخل جبهة اليسار، حيث يبتعد الاشتراكيون والخضر والشيوعيون عن ميلونشون، مما يفسح المجال لتشكيل حكومة من اليمين والوسط واليسار غير الميلونشونين،- أي إقصاء أقصي الطرفين عن تشكيل الحكومة. اليوم بات المشهد السياسي أكثر تعقيداً والانقسام السياسي أكثر حدة، فالدستور الفرنسي لا يلزم الرئيس بالانصياع لنتائج الانتخابات لتسمية رئيس الحكومة، ولكن جميع الرؤساء السابقين كانوا مجبرين علي ذلك خشية أو تجنباً لإسقاط الحكومة. وفي حالة تكليف الرئيس للجبهة الشعبية الجديدة بتشكيل الحكومة كونها الكتلة الكبر، واختارت تشكيلها منفردة أو عجزت عن بناء التحالفات ستكون في وضع أكثر صعوبة من حكومات الرئيس خلال العامين الماضيين،بمعني أخر ستكون هناك أزمة سياسية حالة تشكيل حكومة من دون أكثرية مطلقة أو محدودة، وسيكون من المرجح نسج تحالفات بين الكتل خياراً مرجحاً،ومن دون استبعاد فرضية قيام تحالف بين كتل عدة للإطاحة بالجبهة، مما يسهم في طرح علامات استفهام حول إمكانية استمرار النظام الرئاسي والجمهورية الخامسة.

وختاماً، لقد عاشت فرنسا طوال 66عاماً في ظل الجمهورية الخامسة التي تأسست في 4أكتوبر 1958 وشهدت استقرار سياسياً بشكل عام،ووفقاً لدستور الجمهورية الخامسة تمتع رئيس الجمهورية بصلاحيات كبيرة وتراجعت فيها الصراعات الحزبية والبرلمانية التي ميزت تاريخ الجمهوريات الفرنسية السابق خاص الجمهورية الرابعة،وتعود قدرة الجمهورية الخامسة علي البقاء طوال تلك العقود إلي المرونة والقدرة علي التكيف، واستمرت في التطور والإصلاح علي الرغم عدم التشكيك بها، وجاءت الجمهورية الخامسة نتيجة أزمة سياسية كبري بسبب الحرب الجزائرية،ووافقت الحكومة في 13 مايو 1958 علي مهام خاصة للجنرال ديجول الذي أصبح رئيساً للحكومة،ولعب دوراً رئيسياً في وضع دستور الجمهورية الخامسة،الذي تمت الموافقة علية في استفتاء سبتمبر من نفس العام، وبدأت معه الجمهورية الخامسة في 4اكتوبر، ووضعت تلك الجمهورية حداً لنظام الجمهورية الرابعة الذي تهيمن عليه الجمعية العامة (البرلمان) والنظام الحزبي الذي فشل في حل أزمة الحرب في الجزائر،كما منع فرنسا من المقاومة في الحرب العالمية الثانية واحتلال عاصمتها عام 1940 أمام النازيين، وهي الهزيمة التي أنهت  نظام الجمهورية الفرنسية الثالثة البرلماني،وتم تعديل دستور الجمهوري الخامسة 24 مرة أولها في 1960ليسمح باستقلال المستعمرات الإفريقية السابقة، وجاءت تعديلات أخري أكثر حسماً وساهمت في تعديل نص وروح وممارسات المؤسسات وكذلك المتعلقة بمهام الرئاسة الفرنسية وطريقة انتخاب الرئيس ليصبح بالاقتراع المباشر، وليس من خلال هيئة تضم 80الف ناخب،مما مثْل نقطة التحول الأبرز في نظام الجمهورية الخامسة،فنظام الاقتراع الشعبي أعطي الشرعية لرئيس الدولة ومن ثم السلطة،مما جعل الرئيس الشخصية السياسية التي ينطلق منها كل شئ ويعود إليها كل شئ.

وطوال عقود الجمهورية الخامسة كان المشهد السياسي واضح المعالم فالانتخابات البرلمانية دائماً ما تفرز أكثرية مطلقة تنتمي إلي فريق سياسي معين،مما يتيح لصاحب تلك الأكثرية تشكيل الحكومة حتى وإن كان خصماً للرئيس. وللمرة الثانية علي التوالي لا تنتج الانتخابات البرلمانية أكثرية مطلقة، ولكن أكثرية نسبية تقيد عمل الفائز بأكثرية المقاعد في تشكيل الحكومة، أو لافتقاد العدد الكافي لإقرار القوانين، كما يمكن تكتل باقي الأحزاب ضد الحكومة وحجب الثقة عنها. وتميز النظام السياسي للجمهورية الخامسة بالشرعية الشعبية لكل من الرئيس والجمعية الوطنية،وفي الواقع العملي يتفوق الرئيس علي السلطة التشريعية ليس فقط بالصلاحيات الواسعة التي منحها له الدستور بل لأن الشرعية الشعبية يمثلها شخص واحد انتخبه عموم الفرنسي في الوقت الذي انتخب نواب البرلمان علي أساس دوائر محلية.

 نجت فرنسا من قبضة اليمين، وفي تمام الساعة الثامنة من مساء يوم الأحد السابع من يوليو، انطلقت موجه من الارتياح العميق من العاصمة باريس نحو كل أنحاء أوروبا، وفي التاسعة وثلاثة دقائق غرد رئيس وزراء بولندا دونالد تاسك “في حماس باريس وفي خيبة أمل موسكو، وفي ارتياح كييف،يكفي أن نكون سعداء في وارسو”،وغردت الشيف البريطانية الشهيرة نيجيلا لوسون التي يزيد عدد متابعيها عن متابعي رئيس وزراء بولندا بميلون متابع “تحيا فرنسا”، وكان فيكتور أوربان في بودابست قد خطط سراً للحضور إلي باريس لزيارة مارين لوبان وتهنئة الشاب الذي رأي نفسه بالفعل رئيساً لوزراء فرنسا القادم، ولكن الخارطة السياسية الفرنسية علي درجة عالية من التشتت بما لا يسمح ببروز أكثرية مطلقة، الأمر الذي قد يفرض تشكيل تحالفات بين مختلف الكتل،وبالتالي ستحتل الجمعية الوطنية مكانة متقدمة أكثر من ذي قبل وتأتي الحكومات من تلك التحالفات، مما يعرض صلاحيات الرئاسة الفرنسية للمناقشة ومن الممكن أن يعتبر البعض أن الحل هو إعادة النظر في النظام السياسي لصالح السلطة التشريعية والعودة إلي نظام برلماني مما يعني عودة الجمهورية الفرنسية الرابعة.

د. حسام البقيعي

رئيس وحدة دراسات العالم، الباحث حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى