قراءة في نتائج انتخابات البلدية التركية
مجددا حسم حزب الشعب الجمهوري المعارض أهم البلديات التركية لصالحه، بفوز مرشحيه أكرم إمام أوغلو ومنصور ياڤاش بولايتي اسطنبول وأنقرة، بعد تفوق كان متوقعا على مرشحي حزب العدالة والتنمية مراد كوروم وتورجوت ألتون، ناهيك عن خسارة أردوغان لغالبية الولايات للمرة الأولى منذ الوصول إلى سدة الحكم في 2002.
وفقا للنتائج الأولية، انتهت الانتخابات رقم ٢٠ في انتخابات المجالس المحلية _ التي بدأت في 1930 _ بحلول العدالة والتنمية في المركز الثاني بـ 35.64 ٪، للمرة الأولى منذ توليه السلطة، خلف حزب الشعب الجمهوري الذي جاء في المقدمة بحصوله على ٣٧,٥٣ ٪، وكانت المفاجأة بأن حل حزب الرفاة في المركز الثالث بـ ٦,١١ ٪، وحصوله على بلدية كبرى للمرة الأولى منذ إنشائه، بينما حصل حزبي الديمقراطية ومساواه الشعوب وحزب الحركة القومية على ٥,٦١ ٪ و ٤,٩٤ ٪ على الترتيب.
وعليه، يناقش التحليل انعكاسات نتائج انتخابات البلدية التركية فيما يتعلق بالمشهد السياسي القادم وسلوك الناخبين الأتراك، وحدود تأثيرها على المستقبل السياسي لأردوغان وحزبه.
دلالات مهمة:
لا شك أن انتخابات البلدية هذه المرة، بأرقامها وأحداثها اللافتة، تمخض عنها العديد من الملاحظات، منها:
(*) نسبة المشاركة: شهدت هذه الانتخابات نسبة مشاركة منخفضة نسبيا بـ 77.7% مقارنة بنسبة تجاوزت الـ90% في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو 2023، وكذلك انتخابات البلدية السابقة في 2019 التي وصلت نسبة المشاركة فيها إلى نحو 84%. الأمر الذي يطرح تساؤلات حول أسباب عزوف الناخب التركي عن هذه الانتخابات، ويمكن إرجاعه إلى توقيت الانتخابات باعتبارها عقدت خلال شهر رمضان المعظم، أو أن انتخابات البلديات لا تجذب الجميع كما انتخابات البرلمان أو الرئاسة، أو لأسباب تتعلق بمدى الرضا عن أداء الحكومة، خصوصا وأنه من الواضح أن حزب العدالة والتنمية هو الأكثر تضررا من انخفاض نسبة المشاركة، بالنظر إلى أن نسب المعارضة لم تتغير كثيرا عن ذي قبل.
(*) عدد الولايات: وفقا للنتائج الأولية للانتخابات، وبالنسبة للولايات الكبرى، تفوق حزب الشعب الجمهوري بحصوله على 35 ولاية، بينما حصل حزب العدالة والتنمية على 24 ولاية، بالإضافة إلى ١٠ ولايات كانت من نصيب حزب مساواة وديمقراطية الشعوب، و ٨ لحزب الحركة القومية. ومقارنة بانتخابات 2019، خسر حزب العدالة والتنمية 15 ولاية، وخسر حليفه حزب الحركة القومية ثلاث ولايات. بينما أضيف إلى رصيد حزب الشعب الجمهوري 14 ولاية، وولايتين لحزب مساواة وديمقراطية الشعوب. مما يؤكد مواصلة العدالة والتنمية تراجعه على صعيد المحليات تحديدا، حتى أن قيادة أردوغان بنفسه للحملات الانتخابية لمرشحي الحزب، وزيارته ل ٥٢ ولاية لم تكن كافية لحسم أكبر عدد من المحليات كالمعتاد.
المصدر: TRT
(*) تفاوت نسب الفوز: حيث أظهرت النتائج الأولية لحصول حزب الشعب الجمهوري على ٣٧,٥٣ ٪ من الأصوات، مقابل ٣٥,٦٤ % لصالح حزب العدالة والتنمية، إلى جانب ٦,١١ % لصالح حزب الرفاه من جديد بقيادة فاتح أربكان، و ٥,٦١ % لحزب الديمقراطية ومساواة الشعوب، وأخيرا ٤,٩٤ ٪ % لحزب الحركة القومية.
كما سبق أن حصل بن على يلدرم في انتخابات ٢٠١٩ على ٤٤,٩ ٪ مقابل ٥٤ ٪ لأكرم إمام أوغلو، بفارق أقل من الانتخابات الأخيرة، بعدما وسع أكرم إمام أوغلو الفارق بحصوله على ٥١,٠٩٪ مقابل ٤٩,٥٩٪ لمراد كوروم. والأمر لم يختلف كثيرا في أنقرة، حيث أسفرت نتائج ٢٠١٩، عن حصول محمد أوزهاسكي مرشح العدالة والتنمية على ٤٧,٩٪ بفارق أقل من ٣ نقط عن منصور ياڤاش الذي حصل على ٥٠,٩٪، إلا أن الأخير وسع الفارق هذه المرة في انتخابات ٢٠٢٤ إلى أكثر من ١٠ نقاط ( ٥١,٠٩ ٪ مقابل ٣٩,٥٩ ٪ ).
هذه النتائج كانت متوقعه إلى حد كبير، إلا أن الفارق فاق التوقعات واستطلاعات الرأي التي رجحت تقدم أحد المرشحين بفارق ثلاث نقاط على الأكثر، كنتيجة قد تكون طبيعية لترشيح شخصيات لا تتمتع بثقل كبير مقارنة برئيسي البلديتين الحاليين. كما شكلت نسبة الأصوات التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية مفاجأة بالنسبة للجميع، حيث كان من المتوقع أن يتكرر الإخفاق في ولايتي إسطنبول وأنقرة، وليس إلى درجة فقدان غالبية الولايات.
(*) ولايات الزلزال: استمر تفوق العدالة والتنمية في الولايات التي ضربها الزلزال في 16 فبراير 2023، مثل هاتاي وغازي عنتاب وكهرمان مرعش، وتكرر سيناريو الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو الماضي، وقد يكون هذا نتيجة طبيعية لاهتمام الحكومة بمناطق الزلزال، من خلال عملية إعادة الإعمار وتسليم عشرات الآلاف المنازل لمتضرري الزلزال.
(*) تأثر المعاقل الرئيسية: حيث كانت المفاجأة في هذه الانتخابات بخسارة العدالة والتنمية لبعض المعاقل الرئيسية مثلها بورصة وأفيون وأديامان، فضلا عن تقارب النسب في بعض البلديات، ومنها ما كان محسوبا على المعارضة، مثل ولايتي أرتفين وبودرو، حتى أن ولاية أزمير رغم حسمها من جانب مرشح حزب الشعب الجمهوري، إلا أن النتائج كانت متقاربة رغم أن المدينة تعتبر أحد أكبر معاقل المعارضة، بعد أن كان الفارق بين مرشحي الحزبين في انتخابات ٢٠١٩ يصل إلى ٢٠ نقطة.
(*) تراجع النزعة القومية: شهدت الأحزاب القومية هذه المرة تراجعا واضحا، ممثلة في حزبي الحركة القومية والجيد، مقارنة بانتخابات البرلمان والرئاسة الماضية التي حقق خلالها الحزبين نحو ١٠ ٪ من الأصوات، وقد يكون هذا التراجع انعكاسا طبيعيا لغياب الملفات التي أثارت النزعة القومية لدي الناخب التركي في تلك الأثناء، وعلى رأسها ملف اللاجئين السوريين.
(*) صعود حزب الرفاه: بحصول حزب الرفاه على ٦,١١ ٪ من الأصوات، ورئاسة بلدية كبري ( من أصل ٣٠ بلدية ) للمرة الأولى في تاريخه، قد يكون فاتح أربكان حجز لحزبه مكانا في خارطة التحالفات الحزبية استعدادا لانتخابات ٢٠٢٨، باعتباره سيكون محل استقطاب التحالف الحاكم والمعارضة، فلم يكن من المتوقع أن يتجاوز الحزب سقف الـ ٥٪ من مجمل الأصوات، بالذات في ظل خفوت دور الأحزاب الصغيرة الأخرى.
(*) تراجع الأكراد: حيث واصلت النسبة التصويتية لحزب المساواة وديمقراطية الشعوب (حزب الشعوب الديمقراطي سابقا ) انخفاضها في هذه الانتخابات أيضا؛ من ١٢ ٪ في انتخابات البلدية لعام ٢٠١٩، إلى ١٠ ٪ في انتخابات مايو ٢٠٢٣، حتى وصلت إلى ٦,١١ ٪ في بلديات ٢٠٢٤، والنسبة الأخيرة فد تؤشر لاتفاق ضمني بين الحرب وحزب الشعب الجمهوري، بعد تقديمه مرشحين باهتين.
حدود التأثير:
انتخابات البلدية رغم أهميتها إلا أنها غير كافية لرسم ملامح أو أعضاء السلطة السياسية في ٢٠٢٨، فهي تؤدي إلى بروز شخصيات بعينها على المسرح السياسي، وتحديدا رؤساء الولايات الكبرى، إلا أن ذلك لا يعني الجزم بأن رئيس الولاية سيكون رئيس تركيا فيما بعد، أو أن حزبه هو من سيفوز بالسلطة، وإلا فعلها الشعب الجمهوري في أصعب انتخابات مر بها أردوغان في مايو ٢٠٢٣. غير أن المتوقع أن تؤسس نتيجة البلديات لمرحلة جديدة من التحالفات الداخلية، وتحديدا في صفوف المعارضة، بعد أن أضفت نتائج الانتخابات البلدية أملا جديدا في تخطي انتكاسة نتيجة انتخابات مايو ٢٠٢٣.
كما عكست النسبة التي تحصل عليها العدالة والتنمية عدم تأثره بشكل كبير بإعلان حزب الرفاه لمرشح مستقل، خاصة وأن الأخير حصل على نحو ٦٪ من الأصوات، وهي نسبة غير كافية لقلب النتيجة، إلا أن نفس الحزب مع نفس الناخب يخسر انتخابات ذات مستوى أقل. بما قد يؤشر إلى أن تراجع العدالة والتنمية جاء نتيجة لعوامل أخرى، لعل أهمها:
- دخول نحو مليون ونصف ناخب جديد من فئة الشباب الذين تجاوزوا الـ ١٨ عاما، ممن لم يروا تركيا قبل العدالة والتنمية، ولا يؤيدوا بعض السياسات الداخلية والخارجية للحزب، وبالتالي يريدوا الأفضل. مما قد يدفع أردوغان وحزبه خلال الفترة القادمة مراجعة جدية للوضع، بتجديد دماء الحزب على سبيل المثال، بعزل شخصيات موجودة واستقدام وجوه جديدة، خاصة من فئة الشباب أو من يجيدون التعامل معهم أو مخاطبتهم.
- اللغة أو اللهجة الخطابية ذاتها يستخدمها العدالة والتنمية منذ أكثر من عقدين من الزمان، هذه اللهجة التي تستهدف الحفاظ على تأييد الفئة المحافظة تحديدا، إلا أنه لا يسعي لتنويع خطابه بحيث يعمل على جذب فئات أخرى، كالشباب والعمال والسيدات، وحتى الأكراد، ولهذا قلما نجد اختراقا من جانب العدالة والتنمية لأحد معاقل حزب الشعب الجمهوري.
- التصويت في انتخابات ٢٠٢٣ جاء في جزء منه لأردوغان نفسه، فأصبح رئيسا، وليس لحزب العدالة والتنمية عموما، ففقد أغلبيته المعتادة، وبناءً على ذلك كانت نتائج انتخابات البلديات.
العوامل آنفة الذكر تدعم فرضية أن الاقتصاد لم يكن العامل الأساسي في تراجع العدالة والتنمية، رغم أهمية هذا العامل، إلا أن الوضع الاقتصادي الحالي أفضل بكثير مما كان عليه في انتخابات مايو الماضي، مع اختفاء ملف اللاجئين أيضا.
واقعيا، كلا العدالة والتنمية والشعب الجمهوري يعانيان مؤخرا أزمات داخلية ليست لها صلة بالآخر، فالأول يحتاج إلى التجديد والبناء على الماضي وليس الوقوف عنده والاكتفاء بالتباهي به بالإضافة إلى عدم الاستهانة بالخصوم. والثاني، يحتاج لاستعادة الثقة الذاتية في القدرة على العودة، واستغلال البلديات لتحقيق نتائج ملموسة على الأرض باعتبارها الوسيلة الأفضل للتواصل المباشر مع الناخب، لاستعاده ثقته وفق نظرة بعيدة المدي، بدلا من النظر إلى الرئاسة مباشرة عقب إعلان نتيجة البلديات، فجاك شيراك أصبح رئيسا لفرنسا بعد إنجازات على مستوى المحليات، كذلك رينزي وكراكسي في إيطاليا.
وعلى ما يبدو أن أردوغان وحزبه سيعيدان النظر بشكل جدي في سياسات الحزب، فولاية مثل إسطنبول شهدت الحد الأدنى من المشاركة، هذا الأمر يحتاج إلى البحث في خلفياته بصورة تفصيلية للعدالة والتنمية، لأن الولاية في الأصل كانت له، ومن ثم معرفة أسباب عزوف الناخبين الذي جاء في غير صالحه. وفي السياق ذاته، جاء خطاب الشرفة لأردوغان متقبلا الخسارة، واعتبر خلاله أردوغان أن ” 31 مارس نقطة تحول ” بالنسبة للحزب، و ” رسالة للسياسيين “، وتعهد بإجراء الإصلاحات اللازمة، بداية من الاقتصاد، حيث أشار إلى أن الحكومة وضعت برنامجا متوسط الأجل لمعالجة التضخم وتحسين القدرة الشرائية.
على الجانب الآخر، قد تكون البلديات بمثابة اختبار من قبل الشارع للمعارضة لكي تثبت جدارتها في الإدارة قبل انتخابات 2028، خاصة وأنها قد تخلو من أردوغان، لذا يمكن توصيف المرحلة المقبلة في تركيا بأنها محاولة ” البحث عن الذات ” و” الإصلاح ” من قبل الأحزاب السياسية برمتها.