كيف استعدت الأحزاب التركية لانتخابات البلديات؟
تجرى غدًا تركيا، انتخابات رؤساء البلديات، ويشارك فيها نحو ٣٤ حزبا بعد أقل من عام على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي عقدت في مايو 2023، حيث يستعد الناخبون الأتراك للذهاب إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رؤساء البلديات البالغ عددها نحو 81 بلدية، في محاولة من جانب أردوغان الذي يقود الحملات الانتخابية نيابة عن مرشحي حزبه هذه المرة لاستعادة بلديتي أنقرة واسطنبول، بعد أن خسرهما في انتخابات 2019 للمرة الأولى، بعد سيطرة دامت لقرابة ربع قرن من الزمن.
يذكر أن عدد المرشحين للبلديات ارتفع هذه المرة مقارنة بعام 2019، ليسجل ١٤١٢٢ لرئاسة البلديات و734 لمنصب عمدة بلديات العاصمة؛ ترشح في أنقرة على سبيل المثال ٢٤ مرشحا، و ٢٧ في إزمير، و٤٩ في إسطنبول، و٢٩ في غازي عنتاب، بالإضافة إلى ٢٨ مرشحا لبلدية ملاطيا.
وفي هذا الإطار، يناقش هذا التحليل أهم المستجدات في المشهد الانتخابي التركي، والتغيرات التي طرأت على خارطة التحالفات عقب انتخابات مايو الماضي، ومدى تأثيرها على فرص المرشحين.
انتخابات هامة:
عادة ما تحظى انتخابات البلدية في تركيا باهتمام موسع من الساسة والإعلاميين، وهو ما يمكن إرجاعه إلى أن البلديات أفضل وسيلة للتأثير المباشر في الناخبين، والسلطات التي تتمتع بها البلديات، جنبا إلى جنب مع مراكز القوة السياسية الأخرى في الدولة، حتى أن ميزانية البلديات تفوق ميزانية بعض الوزارات، ومن شأنها أن تسهم في مراحل متقدمة في توضيح خارطة أهم الشخصيات في الدولة.
فعلى سبيل المثال، أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية اسطنبول حاليا، الذي وصلت شعبيته كرئيس لبلدية بحجم اسطنبول إلى حد ترشيحه من جانب أحزاب طاولة السداسية _ سابقا _ لمنافسة أردوغان على الرئاسة، لولا إصرار كليتشدار أوغلو على خوض السباق الانتخابي بنفسه، واعتبره مراقبون شخصية كادت أن تهدد عرش أردوغان، والأمر نفسه بالنسبة لمنصور ياڤاش رئيس بلدية أنقرة. أما بالنسبة للانتخابات البلدية في ٣١ مارس، فإنها تحظى بأهمية إضافية نظرا لعدة عوامل، يأتي أهمها على نحو التالي:
(*) تثبيت أركان العدالة والتنمية: حيث من المقرر أن تكون هذه هي الولاية الأخيرة لأردوغان، إلا أن هناك احتمالا لا يزال قائما بأن تكون نتيجة انتخابات البلدية بمثابة بالون اختبار لشعبية العدالة والتنمية، وأردوغان تحديدا، باعتباره القائم على الحملات ويستخدم شعارات شخصية أحيانا. ففي حال حسم مرشحو الحزب كبرى البلديات لصالحهم، سيتم استبعاد المعارضة من المنافسة لفترة طويلة قادمة.
كما من الممكن أن يتجرأ أردوغان على إجراء تعديلات دستورية تسمح له بالبقاء في السلطة، وفي هذه الحالة يمكن القول إنه وظف عبارات مثل ” آخر انتخابات لي ” و ” سنسلم الراية “، لإثارة تعاطف الجماهير. فقد سبق وأعلن وزير العدل السابق بكير بوزداغ أن أردوغان يمكن أن يترشح لولاية جديدة ” حال أجريت الانتخابات مبكرا “، وفي موقف شبيه لزعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي، ناشد فيه أردوغان بالتراجع عن تصريحه الذي كشف فيه أن هذه الانتخابات ” الأخيرة ” له، وقال ” لا يمكنك المغادرة، لا يمكنك ترك الأمة التركية .. نحن في تحالف الجمهور معك .. نريد أن نراك كمنقذ للقرن الجديد “.
(*) معرفة الوزن النسبي للأحزاب: في هذه الانتخابات اختار كل حزب من الأحزاب المعارضة بمختلف توجهاتها أن يخوض السباق الانتخابي بمرشح مستقل، كاختبار حقيقي لشعبية الحزب والوزن النسبي له، الذي قد يجعل منه رقما صعبا في الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2028، عندما يحين وقت تشكيل التحالفات، والعمل على معالجة الإخفاقات، وليس بهدف المنافسة في حد ذاتها، مثل حزب السعادة وحزب الرفاه من جديد وحزب الهدى وغيرها.
(*) السيطرة على الولايات الكبرى: يرغب أردوغان في استعادة السيطرة على ولايتي اسطنبول وأنقرة لما لهما من أهمية كبرى فيما يتعلق بإدارة الملف الداخلي، وإضفاء المزيد من التفاهم بين إدارة البلديات والمؤسستين التشريعية والرئاسية، بعد فوز التحالف الحاكم في انتخابات مايو الماضي. أضف إلى ذلك الأهمية الرمزية بالنسبة لولاية إسطنبول بالنسبة لأردوغان تحديدا، باعتبارها الولاية التي بدأ منها مشواره السياسي في 1994، وسبق أن اعتبرها أردوغان ” سر البقاء في السلطة “.
وعلى الجانب الآخر، فإن نتيجة بلدية إسطنبول ستؤثر أيضا على المستقبل السياسي للمعارضة، وإمام أوغلو تحديدا، الذي ينظر إليه كمرشح محتمل للرئاسة، خاصة وأنه يواجه تهم قضائية بإهانة موظفين حكوميين ينتظر البت فيها.
ومن الواضح أن التحالف الحاكم يبذل جهدا مضاعفا هذه المرة لحسم الولايتين، بقيادة أردوغان بنفسه للحملات، خاصة وأن ولايتي إسطنبول وأنقرة استعصت مجددا على حزب أردوغان في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الماضية، بعد ما لم يحصل فيها الحزب على أغلبية الأصوات، وبالتالي فإنه خسارتها مجددا للمرة الثالثة على التوالي سيصعب من مهمة العدالة والتنمية في هاتين الولايتين، مما قد يمهد أيضا لتراجع النفوذ في ولايات أخرى.
السياق العام:
تشهد انتخابات البلدية التركية هذه المرة على بروز بعض الظواهر اللافتة، منها:
(&) الانشقاقات الداخلية: تخوض المعارضة الانتخابات البلدية هذه المرة بصورة متشرذمة مقارنة بالسابق، ففي الانتخابات الأخيرة في 2019، تحالفت أحزاب المعارضة إلى جانب حزب الشعب الجمهوري مثل حزب الجيد ( القومي ) وحزب ديمقراطية ومساواة الشعوب _ المسمى الجديد لحزب الشعوب الديمقراطي _ ممثل الأكراد، وكان لهذا التحالف بالغ الأثر في فوز المعارضة ببلديتي إسطنبول وأنقرة، ثم توسع التحالف ليضم ٦ أحزاب في انتخابات مايو الماضي، إلا أن عدم التوافق بدا جليا بين الأحزاب حينها حول المرشح الرئاسي، إلى الدرجة التي دفعت ميرال أكشينار زعيمة حزب الجيد للانفصال عن التحالف _ قبل عودتها مرة أخرى _، واستمرت انشقاقات داخل التحالف المعارض حتى تفككه تماما عقب خسارة انتخابات الرئاسة.
كما أجرى حزب الشعب الجمهوري انتخابات داخلية لاختيار أوزغور أوزال رئيسا للحزب بديلا لكليتشدار أوغلو عقب الخسارة، إلا أنه لا يزال يوجد تيار مؤيد لاستمرار كليتشدار أوغلو في رئاسة الحزب، ويأملون حال حدثت انتكاسة جديدة في إجراء انتخابات داخلية مبكرة للحزب تسفر عن عودته، والأمر نفسه بالنسبة لبعض مؤيدي الحزب، إلى جانب احتمالية أن يواجه حزب الشعب الجمهوري موجة من التصويت العقابي بعد خسارة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
إلى جانب اتهامات الفساد والبعد عن القومية وهوية الحزب الموجهة إلى ميرال أكشينار من جانب أعضاء حزبها، بشكل قد يهدد مستقبلها على رأس الحزب في مرحلة قادمة. وعليه، قرر كل حزب خوض الانتخابات بصورة منفردة هذه المرة سيشتت الأصوات التي ستحصل عليها ممثلي حزب الشعب الجمهوري.
الأمر نفسه بالنسبة للتحالف الحاكم، بعدما انفصل عنه حزب الرفاه من جديد بقيادة فاتح أربكان، احتجاجا على الموقف التركي من حرب غزة، خاصة وأنه يحظى بشعبية كبيرة في البلديات المحافظة، وفاز بنحو 60% من بلديات تركيا في 2019، ويملك نسبة تقارب ال5% في المدن الكبرى.وكذلك حزب الهدى الكردي.
(&) احتمالات تغير اتجاهات التصويت: من الملاحظ وفقا لاستطلاعات الرأي الأخيرة إمكانية حدوث تغيير في الوجه التصويتية لبعض الناخبين في الولايات والمناطق المحسوبة على المعارضة أو التحالف الحاكم، ففي إزمير المحسوبة على المعارضة، قدم بعض الناخبين نظرة براجماتية تجاه المرشح الأفضل فيما يتعلق بالخدمات والمزايا التي سيقدمها للسكان بغض النظر عن الأيديولوجيا. كذلك بالنسبة للعدالة والتنمية الذي عبر بعض ناخبيه في بعض المناطق استعدادهم لعدم انتخاب العدالة والتنمية نتيجة للوضع الاقتصادي، والأمر نفسه بالنسبة لبعض السيدات اللاتي أعلنّ استعدادهن لذلك حال تركت لهن الأريحية فيما يتعلق بالمعتقدات الدينية كالحجاب وغيره.
(&) حضور الملفات الملحة: كان للملفات الخارجية دورها في تشكل المشهد السياسي والحزبي الراهن، حيث استحوذت حرب غزة على اهتمام التحالف الحاكم بعد تعاطف قطاع كبير من الناخبين، فأصبح يوظفها الجميع في حملاته من خلال انتقاد سياسة الحكومة في هذا الملف. ومن ناحية أخرى، كانت سببا في انشقاق حزب الرفاه من جديد عن التحالف بسبب انتقاد فاتح أربكان لـ ” استمرار التجارة مع إسرائيل ” و ” إرسال نحو ١٠٠٠ سفينة إلى إسرائيل “. في مقابل غياب ملف اللاجئين السوريين والمصالحة مع الأسد بشكل لافت رغم تصدرهما الحملات الانتخابية الرئاسية والبرلمانية في مايو الماضي.فضلا عن الحديث عن المحادثات التركية لتحجيم حزب العمال الكردستاني في العراق بهدف استقطاب أصوات القوميين.
إلى جانب الوضع الاقتصادي المستمر في الاضطراب، باعتبار أن الناخب أعطى لأردوغان فرصة جديدة عقب الفوز بالانتخابات الرئاسية إلا أنه لم يرَ تغيرا ملموسا حتى الآن، وظل تراجع قيمة العملة التي وصلت إلى أكثر من ٣٢ ليرة مقابل الدولار، وارتفاع مستويات التضخم ومعدل البطالة، رغم الوعود التي أغدق بها أردوغان ناخبيه، بالإضافة إلى رفع أسعار الفائدة إلى 50% للمرة التاسعة منذ الانتخابات الأخيرة، التي لم تجدِ نفعا حتى الآن، ومطالبة المتقاعدين بزيادة رواتبهم.
حظوظ متأرجحة:
رغم تقدم الأحزاب السياسية بمرشحين عنها في ولايات مختلفة، إلا أن أعين الجميع منصبة على أنقرة وإسطنبول تحديدا، لما لهما من تأثير كبير على المشهد السياسي، ورغم تقدم عشرات المرشحين، إلا أن المنافسة ستكون واقعيا بين مرشحي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري.
(-) بالنسبة للمعارضة، فإن ترشيح الأكراد لمرشح مستقل في 59 ولاية، من بينها إسطنبول وأنقرة وإزمير، قد يأتي خصما من الأصوات التي كان من المرجح أن يحصل عليها إمام أوغلو وفقا للانتخابات السابقة، حيث أعلن حينها حزب الشعوب الديمقراطي دعمه لإمام أوغلو، فاستحوذ الأخير على قاعدة شعبية إضافية تقدر بنحو ١٠٪، منها ٧٪ داخل إسطنبول، ومن ثم فقدان إمام أوغلو لهذه النسبة وفقا للوضع الحالي.
كما رشحت ميرال أكشينار نوابا عن حزبها في ولايات مثل إسطنبول وإزمير وأنقرة وبالكسير ودينزلي وبورصا وأضنة، لمزاحمة مرشحي حزب الشعب الجمهوري في تلك الولايات، وهو أمر قد يصب في صالح التحالف الحاكم. إلى جانب بعض مرشحي الأحزاب الصغيرة، مثل النصر والسعادة والديمقراطية والتقدم وغيرها.
إلا أنه من ناحية أخرى، فإن حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب لم يقدم مرشحين أقوياء، بما قد يبقي فرص المعارضة ويعزز فرضية أن الترشح جاء صوريا فقط.
(-) أما بالنسبة للتحالف الحاكم، فقد بدا أكثر تماسكا، بعدما قدم التحالف الحاكم مرشحين موحدين في نحو 30 بلدية، فحزب الحركة القومية لم يرشح أحدا في ولايتي إسطنبول وأزمير، في المقابل لم يرشح العدالة والتنمية في مرسين ومناصيا أيا من أتباعه، في محاولة من الحزبين لجمع أكبر عدد من البلديات تحت لواء التحالف الحاكم، ومن ثم منع تشتت الأصوات بينهم، وقصر المنافسة في الولايات الهامة على أحد الحزبين في مواجهة المعارضة.
إلا أن وجود مرشحين عن حزبي السعادة والرفاه من جديد قد يقلص من عدد الأصوات التي قد يحصل عليها العدالة والتنمية، فحزب الرفاه من جديد _ تحديدا _ يقدم حوالي ٦١٧ مرشحا لرئاسة البلديات، كان معظمهم أعضاءً سابقين في حزب العدالة والتنمية في ولايات، سكاريا وقونية وكهرمان مرعش وبيتليس وبينغول. بالتالي قد يستقطبا أيضا _ بالإضافة إلى القاعدة التصويتية الأصلية _ الأصوات المحافظة التي لا ترغب في التصويت لتحالف أردوغان في الوقت الراهن، احتجاجا على الوضع الداخلي، ورغم أن نسبة الحزبين ضئيلة في التأثير في الانتخابات، إلا أنها تعد ضمن المنغصات بالنسبة لأردوغان، والأمر نفسه ينطبق على حزب الهدي الذي لا يملك تأثير كبير في المدن الكبرى، ويتركز تواجده في جنوب وشرق تركيا.
ووفقا لاستطلاعات الرأي فإن منصور يافاش يتقدم على تورجوت التون بفارق مريح، في مقابل منافسة محتدمة في إسطنبول بين أكرم إمام أوغلو ومراد كورم بسبب عدم وجود فارق كبير بينهما، بما يجعل الساعات القليلة المتبقية قبيل انطلاق الانتخابات على درجة كبيرة من الأهمية، لا سيما بالنسبة لفئة المترددين.
وعلى ما يبدو أن أردوغان يراهن على عدة عوامل قد تقلل من تأثير الوضع الاقتصادي في نتيجة الانتخابات، وهي خسارة مرشحي المعارضة لأصوات كانت موجودة في الانتخابات السابقة بعد تفكك المعارضة وترشيح كل حزب مرشح مستقل، ومحاولة تسليط الضوء على التعاون _ ولو ضمنيا _ بين حزب الشعب الجمهوري وحزب المساواة وديمقراطية الشعوب، والاهتمام بالمناطق المتضررة من الزلزال، خاصة فيما يتعلق بجهود إعادة الإعمار.
وفي الختام، من غير المرجح حتى الساعات القليلة التي تسبق الانتخابات ما إذا كانت انقسامات المعارضة ستأتي في صالح مرشحي التحالف الحاكم، أم أن نتيجة انتخابات الرئاسة الأخيرة التي فقد فيها التحالف الحاكم الأغلبية لصالح المعارضة ستكون الأكثر ترجيحا لتكرار نفس السيناريو،فالانتخابات التركية بوجه عام تتداخل في حسمها عوامل سياسية واقتصادية وأيديولوجية، وحتى شخصية تتعلق بالمرشحين،بل ويضاف إلى انتخابات البلدية عامل المناطقية والكاريزما والتواصل المباشر، وكلها عوامل تجعل من الصعب الجزم بمنتصر معين في الانتخابات،خصوصا في الوقت الحالي ف 24 ساعة مدة طويلة في الانتخابات التركية. ومع ذلك يتوقع أن يحقق الحزب الحاكم هذه المرة نتائج أفضل من سابقتها في 2019.