نهاية محتملة.. كيف بدأ الصراع بين “البرهان” و”حميدتي”؟
لم يجد المؤرخ البريطاني «بيتر ودورد» عنونًا لكتابه عن تاريخ السودان أفضل من “الدولة المضطربة”، ليصف تاريخ السودان الصاخب بعد الاستقلال عن الاستعمار البريطاني منتصف القرن العشرين، حيث شهد ذلك التاريخ جولات متعاقبة من الصراعات السياسية والثورات والانقلابات، تعادل ـ إن لم تكن تفوق ـ ما حدث لجيرانه مجتمعين.
ولم يأتي عنوان الدولة المضطربة من فراغ، نظراً لطبيعة التاريخ السياسي للسودان، حيث المجتمع السوداني منذ الاستقلال الوطني يشهد تسيساً حاداً طوال الوقت ,نقاباته واتحاداته ومدارسه ومؤسساته الدينية, وحتى المؤسسة العسكرية لم تكن استثناءً من ذلك, فقد تنقل السودان منذ الاستقلال بين عدة أشكال مختلفة للحكم والسلطة, تقسم إلي ثلاث فترات للحكم المدني, وثلاث فترات من الانقلابات والحكم العسكري, غير أن الانقلابات العسكرية في السودان تختلف عن الانقلابات في غيرها من البلاد, حيث يسعى الضباط المنقلبون إلى تحقيق ما فشل نظرائهم المدنيين في تحقيقه, أو العكس حين يفشل السياسيون في إدارة الحكم المدني, فإن خصومهم يلجؤون إلى حلفائهم من العسكريين لتحقيق أهدافهم السياسية.
وكانت انتفاضة ديسمبر 2018 التي أزاحت الرئيس البشير وجبهة الإنقاذ عن السلطة, الذى حكم البلاد لنحو ثلاثة عقود, حلقة من حلقات التاريخ السياسي للسودان, وبدأت مرحلة انتقالية تقاسم فيها العسكريون والمدنيون السلطة, نتيجة اتفاق أغسطس 2019, حتى يتم إجراء الانتخابات, وتعطل هذا الترتيب بعد أحداث 25 أكتوبر2021 وانفراد العسكريين بالسلطة, والذى تسبب في سلسة من الاحتجاجات الحاشدة المطالبة بالديمقراطية في السودان, وحظى الجيش السوداني بدعم داخلي من فصائل متمردة استفادت من اتفاق السلام في 2020, وأيد محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد ميلشيا الدعم السريع خطة الانتقال, حيث ظهر البرهان على التليفزيون ليعلن إبعاد المدنيين عن السلطة ودعم حميدتي تلك الإجراءات, وكافأه البرهان بتعينه نائباً له في مجلس السيادة, ولم يستطع العسكريون الحفاظ على تماسكهم بعد الانفراد بالسلطة, وشيئاً فشيئاً بدأ الصراع يظهر بين الرجلين, حتى وصل إلى وصف حميدتي انفراد العسكريين بالسلطة الذى أيده في 25أكتوبر2021 بأنه كان خطئاً , وصولاً إلى الاشتباكات التي بدأت في الخامس عشر من إبريل وما زالت في العاصة الخرطوم, بين قوات الجيش السوداني بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي.
تحاول هذه الورقة الإجابة عن السؤال التالي، هو: ما هي أسباب الصراع في السودان، وكيف ينتهي؟
أسباب الخلاف:
إن الخلافات قائمة منذ عهد البشير بين الجيش السوداني و قوات الدعم السريع, التي تشكلت عام 2013 للقضاء على التمرد فى دارفور, وعقب الإطاحة بالبشير عام 2019 تنازع العسكريين والمدنيين على السلطة حتى انفرد بها العسكريين بعد أحداث 25 أكتوبر 2021,ثم بدأ الصراع بين الرجلين, الفريق عبد الفتاح البرهان الذى كان قائد للقوات البرية في عهد البشير وصار قائداً للجيش النظامي, والفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذى أسس قوات الدعم السريع معتمداً على ميليشيات الجانجويد التي خاضت حرباً دامية في دارفور مساندة للجيش السوداني. ويمكن حصر أسباب الخلاف بين الجنرالين فيما يلى:
تطلعات سياسية:
يرى العديد من الخبراء في الشأن السوداني أن الخلافات بين “البرهان” و”حميدتي” في جوهرها نتيجة التطلعات السياسية لها, وجاء الاتفاق الذى وقع في ديسمبر الماضي, والذى شمل أطرافاً مدنية, كخطوة أولى في عملية سياسية, تهدف لإنهاء الأزمة التي تسبب فيها الانقلاب, ورأى الفريق البرهان الاتفاق تكتيكاً للمماطلة, بينما سعى حميدتي لتحسين قدرته التنافسية وذهب إلى حد وصف نفسه بأنه حليف للحرية والتغير, ونفى وجود أية خلافات مع الجيش وقال أن خلافتنا مع المكنكشين في السلطة (المتمسكين بها), وضد أي شخص يريد أن يصبح دكتاتوراً, في إشارة إلى البرهان, واستنكرت قيادة الجيش تلك التصريحات والاتهامات الموجه لها بعدم الرغبة في استكمال عملية التحول الديمقراطي وقالت أنها محاولات علنية لكسب التعاطف السياسي, وعرقلة عملية الانتقال الديمقراطي, وقبل ذلك عمل حميدتي منذ وقت طويل على تجميل صورته على المسرح الدولي, استعداداً لترشيح نفسه لرئاسة السودان, في ظل تنافس شديد مع الجنرال عبد الفتاح البرهان, حيث أقام في الجنينة عاصمة إقليم غرب دارفور, واستقبل إمام ضاحية درانسى في باريس حسن شلجومى, المواطن الفرنسي من أصل تونسي, والمنتقد العنيف للتطرف الديني, وأيضاً المدافع القوى عن اتفاقيات أبراهام, التي نتج عنها تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب, ويحظى شلجومى بدعم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون, وبذلك يرسل حميدتي رسائل خفية إلى باريس وعواصم أوروبية أخرى بأنه لا يدعم عودة الإسلاميين والإسلاموية التي سادت في عهد الرئيس البشير خلال الفترة من 1989حتى عام 2019.
بالتوازي مع ذلك استعان حميدتي بخدمات وكالة العلاقات العامة الفرنسية “أن تستورز” لمحاولة تسهيل المقابلات مع وسائل الإعلام الفرنسية لتحسين صورته دولياً, ولفترة وجيزة عام 2019 استعان حميدتي بالشركة الكندية ديكينز أند ماديسون ومديرها الكندي الإسرائيلي أرى بن ميناش لكى يصل صوته إلى العاصمة واشنطن, وفى الخرطوم يتولى المهندس إدريس مدلل من قوات الدعم السريع إدارة العلاقات الإعلامية لحميدتي.
ومنذ عام 2019 سعى حميدتي إلى إظهار نفسه على أنه رجل الأطراف, في مواجهة جنرالات الوسط والشمال الذين يهيمنون على قيادة السوداني, وعلى رأسهم عبد الفتاح البرهان, وعزز تلك الرسالة بإقامته الطويلة التي امتدت خمسين يوماً في الجنينة عاصمة إقليم غرب دارفور, ووساطته خلال تلك المدة بين المجتمعات البدوية خلال موسم الأمطار, الذي تزيد فيه الاشتباكات الدامية, وبالفعل عاد إلى الخرطوم بعد أن توصل إلى أربع اتفاقيات مصالحة بين مختلف الجماعات المعارضة, بل كان زواجه من سيدة من قبيلة العبابدة التي تعيش على جانبي الحدود المصرية السودانية وفى سيناء, جزءاً من استراتيجيته لإظهار شرعيته المحلية على عكس جنرالات الخرطوم.
وانتهج حميدتي نهجاً للتقرب من الشباب السوداني والمجتمع المحلى, وكان دائم الظهور مرتدياً عمامة بيضاء على منصة تيك توك الأوسع انتشارا بين الشباب, وشن حميدتي حملات إعلامية على خصومة في الجيش السوداني, واختار شبكة BBC البريطانية في أغسطس 2022 لانتقاد عبد الفتاح البرهان علانية, بل وصل الأمر بتصريحه أن انقلاب 25 أكتوبر كان فاشلاً, وأن بدون دعمه لم يكن البرهان قادراً على إزاحة المدنيين من السلطة بهذه السهولة.
دمج ميلشيا الدعم السريع فى الجيش:
وضع مفاوضو المجموعة السياسية المدنية, في الاتفاق الإطار الموقع في الخامس من ديسمبر الماضي, بنوداً تتعلق بدمج ميلشيا الدعم السريع فى القوات المسلحة, ولكنها لا تتضمن تفاصيل أو خطط بشأن إنشاء جيش موحد, كذلك انتهى اجتماع هيئة قيادة الجيش الذى عقد في يناير الماضي بضرورة دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة, وهو ما قابلها تردد من قيادة الدعم السريع, على الرغم من توقيع حميدتي على الاتفاق, بل وأصبح من أقوى الداعمين لتطوير هذا الاتفاق ليصبح نهائي, لتشكيل حكومة مدنية, وانسحاب العسكر من السلطة, غير أن مطالبة الجيش بدمع مليشيا الدعم السريع في الجيش خلال عامين فقط مع نهاية الفترة الانتقالية, فيما يرى حميدتي أن يتم الدمج في عشر سنوات ,مما حول المفاوضات الى توترات بين الطرفين.
الملفات الخارجية:
مثلثة ملف العلاقات الخارجية, وخاصة العلاقات بين السودان وإسرائيل وروسيا إلى جانب العلاقات دول الجوار, أحد أهم نقاط الخلاف بين الجنرالين, حيث يتهم الجيش حميدتي بالعمل على إقامة علاقات دبلوماسية موازية للدولة من خلال زيارته إلى الدول التي يزورها البرهان, مما يعطى إيحاءً بوجود قائدين للبلاد, وذكرت العديد من المصادر أن هناك تنافساً بين الرجلين فيما يخص العلاقة مع تل أبيب, حيث يسعى حميدتي لفتح قنوات اتصال مع جهاز الموساد, مما دفع البرهان وحمدوك للاحتجاج لدى الجانب الإسرائيلي, وقرر البرهان تسليم ملف العلاقات مع إسرائيل إلى اللواء متقاعد مبارك عبد الله بابكر في إبريل 2022, لتوحيد قنوات الاتصال بين البلدين. أما على صعيد العلاقات مع روسيا فقد نشب خلافاً بين الرجلين على اعتبار أنها تؤثر على علاقة الخرطوم بواشنطن, حيث سافر حميدتي إلى روسيا عشية بداية الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022 والتقى الرئيس بوتين, ووزير الخارجية سيرجى لافروف, مما أثار حفيظة الجانب الأمريكي في الخرطوم, حيث عقدت القائمة بأعمال السفارة الأمريكية لوسى تاملين اجتماعا مع البرهان وعدد من أعضاء المكون العسكري, واستفسرت عن سبب زيارة حميدتي إلى موسكو, وأجاب البرهان أن حميدتي زار موسكو بصفته قائد الدعم السريع وليس بصفته نائباً لرئيس مجلس السيادة.
الإتفاق الإطارى والعلاقات مع دول الجوار:
ينظر إلى الاتفاق الذى وقع في الخامس من ديسمبر من العام الماضي, على أنه السبب الرئيسي في انفجار الأوضاع بين الجنرالين, إذ رغم توقيهما على نص الاتفاق الذى يتضمن خروج المؤسسة العسكرية من السلطة, إلا أن تصريحاتهما بعد التوقيع كشفت عن تباين فى الرؤى بينهما, إذ أعلن حميدتي دعمه الكامل للاتفاق باعتباره مخرجاً من الأزمة التي تسبب فيها الانقلاب الفاشل حسب وصفه, وأن الاتفاق حزمة واحدة يجب أن تنفذ كلها دون تجزئة في مغازلة واضحة لقوى الحرية والتغير, فيما رأى البرهان ضرورة أن يشمل الاتفاق أطرافاً أخرى, وسرعات ما تحول هذا الاختلاف إلى ملاسنات.
كما أنه من مصادر الخلاف بين الرجلين, يتمثل في العلاقات مع دول الجوار, حيث يدير حميدتي شراكات اقتصادية واستثمارية بعدد من الدول المجاورة, خاصة إثيوبيا وأفريقيا الوسطى. وتشير المصادر إلى أن حميدتي رفض مشاركة قواته في العمليات العسكرية التي شنها الجيش السوداني على عدد من المجموعات الإثيوبية المسلحة منتصف عام 2021.
للبرهان وحميدتي وجهات نظر متباينة فيما يخص الدول المجاورة لغرب السودان، خاصة تشاد وأفريقيا الوسطى, في ظل أنهما يقعان في دائرة النفوذ الدولي بين روسيا والغرب. ففي السابق، أشار حميدتي إلى وجود قوات سودانية تحاول تغير النظام فى أفريقيا الوسطى, فسارع البرهان لنفى ذلك، مؤكدا أن الخرطوم لا ترسل مليشيات لزعزعة الأمن والاستقرار في دول الجوار, وكذلك رفض حميدتي نشر ميلشيا الدعم السريع على الحدود مع أفريقيا الوسطى, وهو ما أشاد به رئيس المجلس الانتقالي في تشاد.
مستقبل الصراع:
نظراً لتمتع الجيش السوداني بإمكانات وخبرات تفوق قوات الدعم السريع, فمن المتوقع أن يحسم الجيش السوداني هذا الصراع فى مدى زمنى قصير , ويرجع ذلك لعدد من الأسباب منها:
- القدرات القتالية والتسليحية التي يمتلكها الجيش السوداني, والتي تفوق إمكانات قوات الدعم السريع.
- عدم رغبة المجتمع الدولي والإقليمي في نشوب صراع طويل في السودان مع ما يحتله من موقع استراتيجي, في ظل انشغاله بالحرب الروسية الأوكرانية.
- انشغال قوات فاجنر الداعم الرئيسي لـ ميلشيا الدعم السريع في الحرب الروسية الأوكرانية, وكذلك سوريا.
- موقف دول الخليج الداعمة الرئيسية لأطراف الصراع الرافض لنشوب صراع يهدد الاستقرار في السودان في ظل الاستثمارات الاقتصادية الضحمة لها في السودان.
- قيام الفريق عبد الفتاح البرهان بإصدار قرار بحل ميلشيا الدعم السريع, مما يفقدها الشرعية التي كانت تطمع بها .
وختاماً، استكملت الأزمة في السودان حلقاتها حتى لا تنفرج، بعد أن أصبح الصراع بين عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش, ومحمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي قائد مليشيا الدعم السريع على المكشوف, بعد أيام من حرب التصريحات بينهما, والحرب أولها كلام, حيث شهد السودان في السبت الخامس عشر من إبريل, اشتباكات مسلحة واسعة, ولا سيما الخرطوم ,فيما تبادل الجيش السوداني وقوات الدعم السريع الاتهامات بمهاجمة مقار تابعة للطرف الأخر, وسط دعوات محلية وإقليمية ودولية لوقف القتال. فى صراع يجمع المحللون على أنه صراع الطموح السياسي للجنرالين بعد انتهاء المرحلة الانتقالية.