كيف انعكست نتائج الانتخابات البرلمانية الماليزية على الداخل؟
تغرق ماليزيا في حالة من عدم اليقين السياسي منذ عام 2018؛ بعد اتهامات بالفساد وجهت إلى رئيس الوزراء الماليزي -حينها- “نجيب عبد الرازق”، تتعلق باختلاس وغسيل أموال؛ قدرت بحوالي 4.5 مليار دولار، في الوقت الذي أظهرت فيه التحقيقات أن نحو 700 مليون دولار، أودعت في حساباته الشخصية، مما أدى تأكل شعبيته، وخروج مظاهرات في شوارع كوالالمبور تطالب باستقالته، بعد أن شهدت ماليزيا واحدة من أكبر الفضائح المالية في العالم.
وفي التاسع عشر من نوفمبر 2022، أجريت الانتخابات البرلمانية في ماليزيا، والتي أطاحت بالزعيم السياسي التاريخي “مهاتير محمد”، في واحدة من أكبر مفاجآت هذه الانتخابات، بالرغم من أنه حقق فوزاً تاريخياً كبيراً في انتخابات 2018، والتي أنهى خلالها سيطرة حزب باريسان والجبهة الوطنية الماليزية المتحدة UNMO الحاكم على السلطة في البلاد منذ الاستقلال عن بريطانيا عام 1957.
ومن هنا يثار العديد من التساؤلات حول دلالات نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في ماليزيا؟ وانعكاساتها على المشهد الماليزي؟، وهو ما يحاول هذا التحليل الإجابة عنه.
قراءة أولية للمشهد:
بعد اتهامات الفساد التي وجهت إلى رئيس الوزراء الماليزي السابق “نجيب عبد الرازق”، في عام 2018؛ تدخل رئيس الوزراء الأسبق “مهاتير محمد”- شغل منصب رئيس وزراء ماليزيا من 1981 إلي 2003، والذي أصبح زعيماً للمعارضة- وطالب بإجراءات حجب الثقة عن “عبد الرازق”، الذي اتهمه بالمسؤولية عن تفشي الفساد وشراء ولاء البرلمانيين بالمناصب، إلى أن قاد المعارضة، عبر ائتلاف الأمل (باكاتان هارابان)، لتحقيق نصر تاريخي في انتخابات عام 2018، والتي أطاحت بحزب المنظمة الوطنية للملايو المتحدين من السلطة.
وبعد أن فاز التحالف الذي قاده “مهاتير محمد” مع خصمه السابق “أنور إبراهيم”، بالأغلبية البرلمانية في انتخابات 2018، والتي أعادته إلي رئاسة الوزراء الماليزية مرة أخرى، إلا أن التحالف بينه وبين “أنور إبراهيم”، لم يدم كثيراً، حيث وجد “مهاتير محمد” نفسه معزولاً، مما دفعة إلى تقديم استقالته بشكل مفاجئ إلي الملك في فبراير 2020.
وأثارت استقالة “مهاتير محمد” المفاجئة العديد من الصراعات داخل الائتلاف الحاكم حول من يخلفه في المنصب، حتى لجأ الشعب الماليزي إلى القصر الملكي، كما يقضي الدستور الماليزي للبت في الخلاف السياسي الذي لم تشهده ماليزيا من قبل، وعين الملك “سلطان عبد الله أحمد شاه”، “محي الدين ياسين”، رئيساً للوزراء خلفاً لـ “مهاتير محمد”، إلا أن “ياسين”، لم يستطع تحقيق الاستقرار المنشود، مما اضطره إلى تقديم استقالته للملك، وعاد حزب باريسان UNMO بقيادة “إسماعيل صبري يعقوب”، إلى الحكم بعد غياب ثلاثة أعوام.
وبالرغم من ذلك لم تصل البلاد إلى الاستقرار السياسي المنشود، وأصبحت مدة “يعقوب” أقصر مدة لرئيس وزراء في تاريخ ماليزيا، بعد استجابته للضغوط الشديدة من داخل حزبه، والجبهة الوطنية الماليزية المتحدة والقوى السياسية وقواعدها الشعبية، وقام بحل البرلمان في العاشر من أكتوبر 2022، تمهيداً للدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة خلال ستين يوماً من تاريخ حل البرلمان كما ينص الدستور بدلاً من سبتمبر 2023، أملاً في تحقيق أغلبية مريحة.
وأجريت تلك الانتخابات في التاسع عشر من نوفمبر 2022، وقد شهدت عدداً من المفاجآت، التي لم تكن في حسبان من دعا إليها، يتمثل أهمها فيما يلي:
(&) برلمان معلق لأول مرة في تاريخ ماليزيا: حيث أظهرت نتائج الانتخابات حصول تحالف ميثاق الأمل بقيادة أنور إبراهيم – الذي يوصف بالتقدمي أو الليبرالي المتحالف مع أحزاب الأقلية الصينية- على 83 مقعداً، تلاه التحالف الوطني المحافظ، والذي يضم إتجهات إسلامية برئاسة رئيس الوزراء السابق محي الدين ياسين، وحصل على 73 مقعد، بينما فازت الجبهة الوطنية الماليزية المتحدة بقيادة رئيس الوزراء الحالي إسماعيل صبري يعقوب، على 30 مقعداً في أسوأ أداء انتخابي في تاريخ الجبهة.
وأدى عدم تمكن أي من التحالفات المتنافسة في تلك الانتخابات من الحصول على الـ 112 مقعد من أصل 222 مقعد، واللازمة لتشكيل الحكومة دون الحاجة إلى التحالف، إلى وجود برلمان معلق، وبعد فشل التحالفات المتنافسة في الفوز بالأغلبية المطلوبة، وكذلك بعد رفض محي الدين ياسين التحالف مع أنور إبراهيم؛ لتشكيل تحالف يتولي الحكم؛ مما أعطي الملك سلطان عبد الله أحمد شاه اليد الطولي في تقرير من يشكل الحكومة.
وفي نهاية المطاف، وبعد مشاورات مع العديد من أعضاء البرلمان، قام الملك بتكليف أنور إبراهيم، زعيم تحالف الأمل، بتشكيل الحكومة الماليزية الجديدة التي نالت ثقة البرلمان في التاسع عشر من ديسمبر 2022، بعد أن نالت دعم 148 نائباً.
(&) خروج أنور إبراهيم من السجن إلي تولي رئاسة الوزراء: في الرابع والعشرين من نوفمبر 2022، أدى أنور إبراهيم البالغ من العمر75 عاماً، اليمين الدستورية رئيساً لوزراء ماليزيا، بعد رحلة سياسية استمرت لثلاثة عقود، تنقل فيها من تابع مخلص لرئيس الوزراء مهاتير محمد إلى قائد للاحتجاجات، ثم إلي سجين ثم إلي زعيم المعارضة.
وحرم أنور إبراهيم من الوصول إلى رئاسة الوزراء مراراً على مدار السنيين، بالرغم من اقترابه من المنصب، وسبق أن شغل منصب نائب رئيس الوزراء في التسعينيات من القرن الماضي، وبدأ حياته السياسية كطالب ناشط يقود مجموعات شبابية مسلمة في كوالالمبور، وأسس حركة الشباب الإسلامية، وتم القبض عليه بسبب دوره في قيادة المظاهرات ضد الجوع والفقر في الريف، وبعد سنوات انضم إلي الحزب الوطني الماليزي بقيادة رئيس الوزراء مهاتير محمد، وصعد داخل الحزب سريعاً حيث تم ترقيته إلى مناصب وزارية مختلفة، ليصبح نائب رئيس الوزراء عام 1993.
وكان من المتوقع علي نطاق واسع أن يخلف مهاتير محمد، ولكنهما اختلافا حول قضايا الفساد والاقتصاد، وزادت التوترات بينهما خلال الأزمة المالية الأسيوية عام 1997، وفي عام 1998، تم طرد أنور إبراهيم من الحكومة والحزب، ليقود المعارضة ضد مهاتير محمد، وألقي القبض عليه واحتجازه دون محاكمة، ووجهت له تهم الفساد وحكم عليه بالسجن ستة أعوام، وحكم آخر بتسعة أعوام، بتهمة الشذوذ، إلا أنه بعد عام من تنحي مهاتير محمد من السلطة، ألغت المحكمة العليا في ماليزيا الحكم الأخير وأطلقت سراحه، ليقود المعارضة السياسية في البلاد، وسجل أداءاً انتخابيا قوياً في انتخابات 2008، ثم عقد صفقة مع مهاتير محمد في عام 2016، ليعود الأخير إلي السلطة مرة أخرى بعد دمج أربعة أحزاب في أول تحالف متعدد الأعراق، وحاز التحالف علي دعم الأغلبية المسلمة والأقليات الصينية والهندية والملايو وفاز التحالف في إنتخابات 2018، بالأغلبية وأدت استقالة مهاتير محمد في فبراير عام 2020 إلى انهيار التحالف، وقد تولى أنور إبراهيم رئاسة الوزراء في وقت ملئ بالتحديات، حيث تباطئ الاقتصاد والانقسام السياسي بعد سنوات من عدم الاستقرار وانتخابات شهدت تنافساً محتدماً بين القوي السياسية .
(&) هزيمة تاريخية لمهاتير محمد: خسر رئيس الوزراء التاريخي لماليزيا، مهاتير محمد في السباق إلى مقاعد البرلمان، وذلك لأول مرة منذ 53 عاماً، في هزيمة قد تمثل نهاية مسيرته السياسية الممتدة لسبعة عقود، حيث فشل في الاحتفاظ بمقعده البرلماني الذي يحوزه منذ عام 1964، إذ جاء بالمركز الرابع ضمن منافسة بين خمسة مرشحين في دائرة جزيرة لانكاوي الانتخابية، وتعد هذه أول هزيمة لمهاتير محمد منذ عام 1969، حيث لم يحصل سوى علي 9% من أصوات دائرته الانتخابية، ولم يحقق تحالفه الفوز بأي مقعد، وهو ما يعكس توجهاً جديداً في أوساط الناخبين البالغ عددهم 21 مليون ناخب، كما يرجع تنامي القطاعات الناخبة الشابة بعد التعديل الدستوري الذي تم إقراره عام 2019، وما تبعه من اختلاف في النظرة للواقع الماليزي والرغبة في التغيير، علاوة على أنه لم يحقق من وعوده الانتخابية سوى التخلص من نجيب عبد الرازق، ومنع حزب الأمنو من الوصول إلى الحكم، عند عودته كرئيس للوزراء عام 2018، لكنه فشل في تحقيق ما وعد به الناخبين، وكذلك تسليم السلطة لأنور إبراهيم الذي قاد معه التحالف الفائز في الانتخابات بعد عامين.
عودة الإسلاميين:
(&) فوز حزب PAS الإسلامي بأكبر عدد من المقاعد: بالنظر إلى الانتخابات العامة الأخيرة في ماليزيا فإن الفائز الحقيقي فيها هو الحزب الإسلامي لعموم ماليزيا (PAS)، حيث فاز بعدد 49 مقعداً من أصل 62 مقعد، تنافس عليها وقد حقق الحزب نجاحاً ليس في الساحل الشرقي والمناطق الشمالية من شبه الجزيرة الماليزية التي تمثل مناطق الدعم التقليدية للحزب فحسب، بل أظهر ملايو الطبقة الوسطي وموظفو الخدمة المدنية دعماً قوياً للحزب في المناطق الحضرية الخارجية والعاصمة الإدارية الفيدرالية، وهي مناطق لم يتمكن الحزب من تحقيق نجاحات فيها من قبل، كذلك حقق الحزب نجاحات في ولاية بينانج التي تعتبر واحدة من أكثر المناطق ليبرالية في ماليزيا، حيث فاز بمقعد في دائرة بيرماتانج بواه وكذلك مقعد في ولاية بينانج.
وعلى الرغم من الأداء المنظم لحزب PAS الإسلامي، الذي أصبح الحزب الإسلامي لعموم ماليزيا في الانتخابات، كان لدى العلماء رؤية طويلة الأجل، لبناء شبكة كبيرة من المدارس القرآنية في جميع أنحاء المنطقة، وتوسع الحزب في بناء المساجد المجتمعية ورياض الأطفال في جميع أنحاء الدولة، وكان أحد الأهداف الأساسية في المجتمعات الريفية هي التصويت لحزب ينظم حياتهم الإسلامية ويروج للإسلام، وبدأ وصف أولئك الذين لا يعتنقون المعتقدات نفسها بالكفار، مما أدى إلي فصل أعضاء الحزب الإسلامي لعموم ماليزيا عن الملايو الآخرين في المجتمعات الريفية القريبة، وظهر ذلك بوضوح خلال الانتخابات، حيث ترفع الأعلام السياسية الملونة، فالأخضر للحزب الإسلامي لعموم ماليزيا، والأزرق الداكن للجبهة الوطنية باريسان ناشيونال، والأزرق الفاتح الذي تغير لونه إلى الأحمر في الانتخابات الأخيرة لتحالف الأمل.
وفي ظل هذا الموقف المعتدل لحزب PASالإسلامي، حصد الحزب 27 مقعداً في البرلمان الفيدرالي، واهتزت نتائج الحزب في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث خسر الزعيم الحالي للحزب عبد الهادي أوانج مقعده الفيدرالي عام 2004، وهزمت حكومة الحزب في ولاية تيرينجانو هزيمة ساحقة بعد ولاية واحدة، غير أن نتائج الحزب تحسنت في انتخابات 2008, وفاز بحكومة ولاية قدح، وأصبح نزار جمال الدين رئيس وزراء ولاية فيرق (Perak)، وشارك الحزب في حكومة ولاية سيلانجور .
وقد شهد الحزب انقساما كبيراً بعد ترك المعتدلين والمهنيين الحزب لتأسيس حزب أمانة الوطني (PartiAmanah Negara)، ومرة أخرى سيطر العلماء بقيادة عبد الهادي أوانج على الحزب، مما قاد إلى وجهة نظر مفادها أن العلمانية أيدولوجية، تستهدف القضاء على الإسلام في المجتمع، وبالتالي يجب معارضتها، ورأى أن الحزب لا يمكن أن يكون له تأثير علي المستوى الفيدرالي، ولكن يمكنه التأثير على المجتمع من خلال حكومات الولايات التي يسيطرون عليها، وهو ما كان واضحاً بشكل كبير في ولاية كيلانتان، حيث تم حظر دور السينما وجميع وسائل الترفيه، وحظر الحزب العديد من العادات والتقاليد الماليزية بحجة أنها غير إسلامية.
ويسيطر الحزب حالياً علي الهيئة الفيدرالية لتطوير الأراضي الماليزية (فيلدا) والهيئة الإتحادية لتوحيد وتأهيل الأراضي (فلكرا) داخل معاقل الملايو، وتمكن من الفوز بمقاعد خارج مناطق نفوذه التقليدية، حيث وصل أعضاء الحزب إلي أكثر من مليون عضو.
واستطاع الحزب من خلال استخدام هذه الإيديولوجية لعقود، الحفاظ على قبضة انتخابية خانقة لعنق الدولة الماليزية، ومن غير المتوقع أن يخفف الحزب من قبضته في عهد عبد الهادي أوانج وخليفته المحتمل إدريس أحمد، حيث أظهر انقلاب شيراتون عام 2020 -الذي أسقط حكومة الأمل وتشكيل حكومة تتمحور حول الملايو لعبد الهادي أوانج- أن الحزب يمكن أن يقود الحكومة الفيدرالية، وأصبح الحزب الإسلامي لعموم ماليزيا في الانتخابات الأخيرة أكبر حزب سياسي داخل الائتلاف الوطني في البرلمان، لكن الملك سلطان عبد الله احمد شاه لم يكلف الائتلاف بتشكيل الحكومة .
وبالنهاية، يمكن القول أن الانتخابات البرلمانية المبكرة التي شهدتها ماليزيا في نوفمبر 2022، لن تحقق الاستقرار السياسي الذي كان مستهدفاً، إذ لم يحصل أي من الائتلافات المتنافسة على أغلبية تمكنها من تشكيل الحكومة بشكل منفرد، مما يخلق بيئة غير مستقرة سياسياً، في وضع سياسي غامض، الأمر الذي يزيد نفوذ القصر الملكي في السياسة الماليزية، بالرغم من الوضع البروتوكولي الذي يحكم منصب الملك.
فضلاً عن أن فوز الحزب الإسلامي لعموم ماليزيا بأكبر عدد من مقاعد البرلمان -حيث حصل علي 49 مقعداً- دفعت الحزب لأن يرى الوقت أصبح مناسباً لأسلمة ماليزيا بعد جهود استمرت لنصف قرن، في الوقت ذاته يحاول رئيس الحكومة المكلف أنور إبراهيم بتقديم نفسة على أنه رجل التعددية بعد نتائج الانتخابات التي لم يستطع أي من الأحزاب المتنافسة الحصول على عدد من المقاعد اللازم لتشكيل الحكومة بشكل منفرد، مما يفتح الباب واسعاً أمام التحالفات الخلفية مع كل القوى السياسية، وتبقى المشكلة الرئيسية في ماليزيا، وهي التعددية العرقية التي يتميز بها المجتمع الماليزي أكبر معوقات تحقيق الاستقرار في ماليزيا، وهو ما كشفت عنه الانتخابات الأخيرة بشكل أكبر مما توقعه الكثيرون.