لماذا تم استبعاد فرنسا من تحالفات الإندو باسيفيك؟
تمثل منطقة (الإندو باسيفيك-The Indo-Pacific Region)، المنطقة التي يلتقي فيها المحيطان الهادي والهندي جنوب شرق أسيا، ويشير إلي المجال البحري الذي يضم المحيط الهندي والمنطقة القريبة من المحيط الهادي، ويطل علي دول غرب أسيا والشرق الأوسط وشرق إفريقيا، وتكمن أهمية هذه المنطقة، في أنها تمثل حلقة مهمة من حلقات الصراع على النفوذ الدولي بين الولايات المتحدة والصين، خاصة في ضوء التحالفات الدولية التي يسعى كل طرف لتشكيلها في مواجهة الآخر.
وقد لاحظ المراقبون وخبراء العلاقات الدولية أن الولايات المتحدة استبعدت فرنسا من هذه التحالفات، مما أثار العديد من التساؤلات حول الأسباب التي دفعت واشنطن إلى هذا الاستبعاد؟، والهدف من ذلك؟، وهذا ما يحاول هذا التحليل الإجابة عنه.
الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الإندو باسيفيك:
يرجع استخدام مصطلح (الإندو باسيفيك)، إلى “جربيت خورانا-Gurpreet Khurana”، في دراسته المنشورة بمجلة (Strategic Analysis)، يناير 2007، المعنونة “أمن الخطوط البحرية: أفاق التعاون بين الهند واليابان”، وعلى مستوى الخطاب السياسي، كان رئيس الوزراء الياباني “شينزو أبي-Shinzo Abe”، أول من استخدم هذا المصطلح في خطابه أمام البرلمان الهندي في أغسطس 2007، كما برز استخدامه بكثافة في عهد الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”، ليعبر عن زيادة الاهتمام الأمريكي بالمنطقة ويعكس سياساتها لاحتواء النفوذ الصيني المتنامي في تلك المنطقة والعالم.
وزاد من الأهمية الجيوسياسية لمنطقة(الإندو باسيفيك)، وقوع بحر الصين الجنوبي في نطاقها الجغرافي، والذي يحظي بأهمية كبرى لوقوعه في مسارات الشحن البحري، الأكبر كثافة في العالم، حيث يمر عبره ما يزيد عن نصف التجارة الدولية، مما جعل منه مسار تنافس وصراع بين دول المنطقة والقوى الكبرى خاصة الولايات المتحدة والصين.
ومع بدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وفي ضوء التغيرات التي طرأت على الساحة الدولية، من المتوقع أن تزيد الأهمية الإستراتيجية لمنطقة (الإندو باسيفيك) أكثر، وقد تساهم بشكل كبير في تشكيل خريطة التفاعلات والعلاقات الدولية، وكذلك المشاركة في تحديد مستقبل النظام الدولي العالمي خلال العقود القادمة.
التحالفات الأمريكية في منطقة الإندو باسيفيك:
يعود تاريخ التحالفات الأمريكية في منطقة الإندو باسيفيك إلى نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة؛ حيث حافظت الولايات المتحدة على نظام تحالفاتها في شرق أسيا في سياق نظام سان فرانسيسكو، الذي يشير إلى شبكة التحالفات الثنائية التي أقامتها في المنطقة عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، وتشكلت في إطارها منظومة الالتزامات السياسية والعسكرية والاقتصادية بين الولايات المتحدة وبين حلفائها في المحيط الهادي، ومع تنامي التحديات المشتركة لهما في المنطقة خاصة اليابان وأستراليا والقوى الأوروبية، وبزيادة حدة الصراع والتنافس بين واشنطن من جهة وبكين من جهة أخرى، قامت الولايات المتحدة بإنشاء القيادة الأمريكية للإندو باسيفيك في عام 2018، واتجهت إلى تشكيل تحالفي (كوادKwad، و أوكوس Aukus).
(&) تحالف كواد Kwad : هو تحالف نشأ بين الولايات المتحدة واليابان واستراليا والهند، عام 2004، عقب كارثة تسونامي التي ضربت جنوب شرق أسيا في 26 ديسمبر 2004، وجاء بهدف تنسيق جهود الإغاثة وتمهيد الطريق لمزيد من التعاون بين أطرافه، وفي عام 2007، قادت الجهود الكبيرة لرئيس الوزراء الياباني أنذاك “شينزو أبي”، إلى تشكيل “الحوار الأمني الرباعي” بين دول تحالف كوادKwad، بهدف إجراء مناورات بحرية مشتركة كجزء من تدريبات مالابار الثنائية بين أمريكا والهند، وفي عام 2008، انسحب رئيس الوزراء الاسترالي أنذاك “كيفن راد”، من التحالف؛ لعدم رغبته في أن تكون بلاده جزءً من تحالف في مواجهة الصين، التي أصبحت في تلك الفترة شريكاً إقتصادياً مهماً لاستراليا.
ودفعت المساعي الصينية المتزايدة لبناء تحالفات إقليمية ومحاولات توسيع نفوذها العسكري في بحر الصين الجنوبي، إضافة إلى الاشتباكات مع الهند عام 2017، إلى إعادة إحياء فعالية تحالف كوادKwad، بمشاركة استراليا، وإجراء تدريبات مالابار في عام 2020، كما تحرص الإدارة الأمريكية على الحفاظ علي هذا التحالف، حيث عقدت إدارة الرئيس “بايدن”، قمة افتراضية لقادة التحالف في مارس 2021، والتقى رؤساء الدول الأربع في واشنطن في سبتمبر 2021، وهو ما عزز صورة التحالف علي أنه تحالف عسكري، مما رأته بكين تحالفاً يستهدف بالأساس احتواء النفوذ الصيني، لكنها اعتبرته، “كزبد المحيط الذي يحدث أمواجاً، لكن سرعان ما تتبدد”، كما جاء علي لسان وزير الخارجية الصيني “وانج لي”.
(&) تحالف أوكوس (AUKUS): تشكل هذا التحالف عقب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في الاول من مايو 2021، فبعد موجات عنيفة من انتقادات الحلفاء الاستراتيجيين للولايات المتحدة، أعلنت الأخيرة في 15 سبتمبر 2021، عن تشكيل تحالف أمني إستراتيجي مع استراليا وبريطانيا بمسمى (أوكوسAUKUS)، ما يعني أنه تحالف يمتد جغرافياً من القارة الأمريكية إلى المحيط الهادي مروراً بأوروبا، ويأتي في إطار مواجهة الصعود الصيني الدولي، ومساعي بكين لأن تصبح القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية المهيمنة في منطقة المحيطين الهندي والهادي (Indo-Pacific Region ).
وظهرت أهم ملامح التحالف الجديد في تزويد استراليا بأسطول من الغواصات المتقدمة التي تعمل بالطاقة النووية وهي المرة الثانية التي تشارك فيها الولايات المتحدة تقنياتها النووية المتطورة بعد مشاركتها بريطانيا بموجب اتفاقية عام 1958، كما تم الإعلان عن خطط لا تقل أهمية عن صفقة الغواصات تتعلق بالتعاون المشترك في مجال التكنولوجيا العسكرية الجديدة، بما يشمل الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي والصواريخ التي تفوق سرعة الصوت؛ حيث تدرك واشنطن جيداً أن بكين تمثل الخصم الاستراتيجي فعلياً، والذي يفوق في خطورته الإتحاد السوفيتي في أفضل مراحله، لذلك تسعي من خلال هذا التحالف الثلاثي نحو تحقيق توازن قوي في منطقة الإندو باسيفيك عن طريق تحويل استراليا لجزء من الإستراتيجية الأمريكية لمواجهة الصين من خلال تعظيم القوة الاسترالية البحرية لمواجهة القدرات المتزايدة للقوة البحرية الصينية.
عوامل وأسباب الغياب الفرنسي عن تحالفات الإندو باسيفيك؟
هناك العديد من العوامل التي تبعد باريس عن التحالف مع واشنطن في منطقة (الإندو باسيفيك)، لعل من أهمها، استمرار التنافس الاستراتيجي بين البلدين حول المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية، والذي جعل العلاقات المشتركة في حالة توتر مستمر، منذ الحرب العالمية الأولي وما قبلها، حيث ساندت فرنسا أمريكا في حروب الاستقلال ضد الاحتلال البريطاني رداً علي هزيمتها في حرب السبع سنوات مع بريطانيا، وخروجها من أمريكا الشمالية عام 1763، حيث كانت فرنسا إحدى القوي العظمي في النظام الدولي حينئذ، وإلى الآن لا تزال هناك حالة تنافس مستمرة بين فرنسا والولايات المتحدة، حيث يسير البلدان على طريق قد يفضي إلى المواجهة والصدام، وهو ما ظهر بشكل جلي في العديد من المواقف بين واشنطن وباريس ، يأتي أهمها كما يلي:
(&) الموقف الأمريكي من الحرب العالمية الأولي: رأى المفكر الألماني “هانز هيرمان هويا”، أن الحرب العالمية الأولي كانت حرباً أيديولوجية قادتها الولايات المتحدة، ووقعت أحداثها في أوروبا، وأعتبر الدخول الأمريكي للحرب العالمية الأولي -وإن جاء متأخراً- أنه أحدث تاثيراً ثقافياً كبيراً، أكثر من تأثير النموذج الفرنسي، الذي لم ينجح في تحويل سوى حالتين فقط من الممالك الي النظام الجمهوري خلال قرن من الزمان، في حين نجح مشروع الرئيس “ويلسون” في منح حق تقرير المصير للشعوب؛ كقيمة من قيم الحرية التي تنادي بها الثورة الأمريكية، وهو ما قوض معظم الممالك والإمبراطوريات الكبرى في أوروبا والشرق الأوسط .
(&) نتائج الحرب العالمية الثانية: فرغم أن فرنسا كانت في أوج قوتها بعد الحرب العالمية الأولي من الناحية العسكرية والاقتصادية وبالطبع الثقافية، حيث كانت الشريك المتساوي لبريطانيا في قيادة النظام الدولي حتى جاءت الحرب العالمية الثانية بما أحدثته من جرح وصدمة عنيفة للكبرياء القومي الفرنسي بعد أن احتلت ألمانيا أجزاء واسعة من أراضيها عام 1940، وكانت نتائج الحرب علي فرنسا أكثر كارثية من أي بلد أوروبي أخر، فرغم أن استسلام ألمانيا ووقوعها تحت الاحتلال علي يد الحلفاء كان أمر متوقعاً، إلا أن بريطانيا التي عانت من الدمار بنفس القدر استطاعت الصمود حتي جاءت المساندة الأمريكية التي أنهت الحرب لصالح الحلفاء في الوقت التي كانت الخسائر الفرنسية كبيرة في جميع عناصر القوة.
وقد حاولت فرنسا استرداد هيبتها العسكرية عبر خوض حروب متعددة للحفاظ علي مستعمراتها السابقة مما كلفها المزيد من الخسائر والهزائم مثل منطقة الهند الصينية عام 1954، رغم المساندة الأمريكية بما فيها تزويدها بقنابل نووية لاستخدامها في تلك الحروب ولم تعترف فرنسا بهزيمتها وألقت فرنسا اللوم علي الولايات المتحدة واتهمتها بأنها-حسب اعتقادها- تعمدت تأخير الدعم العسكري لها لأن واشنطن حسمت أمرها بتصفية النظام الدولي القديم التي تقوده فرنسا وبريطانيا، ولذلك تسعي لإيقاع الهزيمة العسكرية بالبلدين معاً، وهو ما تأكد بعد الضغط عليهما وعلى إسرائيل خلال حرب السويس عام 1956، واضطرارهم للخضوع والخروج من مصر في النهاية.
(&) انسحاب فرنسا من الجناح العسكري لحلف الناتو: انسحبت فرنسا من الجناح العسكري لحلف الناتو عام 1966، في محاولة لتطبيق سياسة “الجنرال شارل ديجول”، التي قامت على ثلاثة أسس: هي الوطنية الفرنسية والاستقلالية والقوة العسكرية؛ تلك السياسة التي كانت ترتد بالأساس إلي العقدة الفرنسية التي تسببت فيها الحرب العالمية الثانية، والهزائم المتتالية التي منيت بها فرنسا عقب الحرب، وشعورها بأنها لم تعد قوة عظمى،
وبالرغم من ذلك لم تنسحب فرنسا من الجناح السياسي للحلف؛ حتى يظل قادراً على الدفاع عنها حالة وقوع هجوم من الإتحاد السوفيتي، واستمراراً لإظهار سياسة فرنسا الاستقلالية عن السياسة الأمريكية، حاولت باريس مراراً وتكراراً تكوين قوة أوروبية عظمي بين أمريكا والإتحاد السوفيتي، لكنها فشلت في ذلك مما اضطرها إلى العودة إلي الحلف مرة أخرى عام 2009، ودون أن تقر بفشلها في بناء القوة الأوروبية المستقلة التي كانت تطمح إليها.
(&) مبادرة “سنة أوروبا”: أعلن الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون” عام 1973، عن مبادرة عرفت بـ “سنة أوروبا”، والتي كانت تهدف إلي حث حلف شمال الأطلسي للبحث في أهداف الربع الأخير من القرن العشرين، وتوحيد الرؤى بين الجانبين، وقادت فرنسا معارضة أوروبية ضد المبادرة باعتبارها خدعة أمريكية تستهدف إحباط بعث هوية أوروبية خاصة وتشكيل مؤسسات أوربية مستقلة بذاتها، ومثل ذلك نموذجاً للسياسات الفرنسية المعارضة للسياسة الأمريكية، وامتدت تلك السياسات إلى أزمة البترول في سبعينيات القرن العشرين، مع اندلاع حرب أكتوبر عام1973، حيث رأت واشنطن ضرورة توحيد مواقف الدول المستهلكة للنفط، قبل الدخول في حوار مع الدول المنتجة، وإقامة وكالة دولية للطاقة، ولكن الرئيس الفرنسي “جورج بومبيدو”، رفض الإقتراح، وطالب بدلاً من ذلك بإجراء حوار بين الدول المستوردة والدول المنتجة للنفط، حتى تدارك خليفته الرئيس “فاليري جيسكار ديستان” الموقف، ووافق علي المبادرة الأمريكية .
(&) الموقف الفرنسي من حرب فيتنام: قاد المثقفون الفرنسيون خلال الستينيات وحتى الثمانينات الحركات الاحتجاجية التي عارضت الحرب في فيتنام، وضد السياسيات الأمريكية في مناطق كثيرة من العالم، ولم تستفيد فرنسا كثيراً من سطوة ثقافتها علي الشباب في أوروبا وأمريكا مثلما ندمت فرنسا الملكية على مساندتها للثورة الأمريكية، التي ألهمت مبادئها المعارضين للحكم الملكي في فرنسا، وتسببت في سقوط الملكية فيها عام 1789، حيث تسببت ثورة الشباب التي بدأت في فرنسا عام 1968، في أزمة أطاحت في النهاية بحكم الجنرال “ديجول”.
(&) الموقف الفرنسي من الغزو الأمريكي للعراق: كانت فرنسا من أشد المعرضين للغزو الأمريكي البريطاني للعراق، وصل إلى حد التهديد باستخدام حق الفيتو؛ لمنع إصدار قرار من مجلس الأمن الدولي باستخدام القوة ضد العراق، وقادت الجهود الأوروبية لرفض منح الولايات المتحدة شرعية قانونية لشن الحرب، بالتعاون مع ألمانيا وروسيا، واستمراراً للمنافسة بين الفرنسية الأمريكية، قررت الأخيرة مسامحة روسيا، وتجاهل ألمانيا، ومعاقبة فرنسا، كما جاء علي لسان مستشارة الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس جورج بوش الابن “كونداليزا رايس”.
(&) أزمة الغواصات النووية: طفت الخلافات الفرنسية الأمريكية على السطح، عقب إلغاء استراليا لصفقة الغواصات الفرنسية التي تعمل بالديزل واستبدالها بأخرى أمريكية تعمل بالطاقة النووية في سبتمبر 2022، والذي مثل إهانة لفرنسا، وطعنة بالظهر، ودليل على تزعزع الثقة بين الحلفاء، حسب تصريحات وزير الخارجية الفرنسي، لودريان”، الأمر الذي يوحي إلى خروج فرنسا من الحسابات الأمريكية المستقبلية، والذي يشكل عزلة فرنسية، من الممكن أن تؤثر على دور فرنسا وتحجيم نفوذها السياسي والإستراتيجي في مناطق نفوذها القديمة في إفريقيا وبعض دول الشرق الأوسط.
كما بدا واضحاً أن الولايات المتحدة لم تكتف بالتأثير علي استراليا لإلغاء صفقة الغواصات الفرنسية التي وقعت عام 2016، بل تجاهلت فرنسا ولم تقم بدعوتها للمشاركة في التحالفات المتعددة الأطر، والتعاون في تصنيع غواصات تعمل بالطاقة النووية، ومساعي على إحتواء النفوذ الصيني في منطقة الإندوباسيقيك؛ مما أثار حفيظة فرنسا، على الأقل بسبب خسارة صفقة تجارية ضخمة لإنعاش صناعتها العسكرية .
بالنهاية، تشير تجارب المنافسات والمواجهات بين فرنسا والولايات المتحدة منذ الخمسينيات من القرن العشريين؛ إلى الرفض الفرنسي التاريخي للاعتراف بأن النظام الدولي التي كانت أحد أقطابه قد إنتهى، ولم يعد موجوداً، ولهذا تحرص باريس على إظهار استقلاليتها وخصوصيتها، وهو ما يحول دون التقارب في السياسيات مع واشنطن، على الجانب الآخر لا تشكل الإمكانات الفرنسية الذاتية أية إغراءات للولايات المتحدة، كي تكون فرنسا أحد حلفائها الاستراتيجيين، فيما يتعلق بعناصر القوة الصلبة، وهو ما انعكس جلياً في عجز فرنسا عن التأثير على التوجهات السياسية والإستراتيجية الأمريكية.