تدخلات محسوبة: كيف تتعامل “واشنطن” مع الفواعل الدولية في الأزمة الليبية؟
تتجه الإدارة الأمريكية الجديدة في عهد جو بايدن إلى إعادة بلورة استراتيجية جديدة تستهدف الاضطلاع بدور مباشر أكثر فاعلية في ملف الأزمة الليبية تختلف عن السياسة التي انتهجتها إدارة ترامب التي كانت تركزت على الوجود غير المباشر، مما أدى إلى خلق فراغ أمني ساهم في حدوث تفاهمات تركية روسية، شكلت تهديداً على المصالح الأمريكية.
وقد تجلت محاولات “بايدن” في إدارة تفاعلات الملف الليبي في التحركات الأمريكية خلال الأشهر الماضية منذ توليه الرئاسة نحو إعادة تأكيد التزام الولايات المتحدة بدعم جهود التوصل إلى تسوية وتوجت مؤخراً في لقاء وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة في برلين الخميس على هامش مؤتمر “برلين 2” بشأن ليبيا، وتأكيده على الدعم الأمريكي للتقدم الذي أحرزه الشعب الليبي نحو حل سياسي تفاوضي شامل في إطار سعيه نحو الانتخابات الوطنية في ديسمبر 2021.
وفي ضوء ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى تسليط الضوء على أبرز التغييرات في السياسة الأمريكية إزاء الملف الليبيـ وأهم الدوافع وراء تلك التحركات الأمريكية وكيف تستهدف واشنطن تنفيذ أجندتها في ليبيا وهل ستنجح فعلاً في الانخراط الفعال في الملف الليبي، وأبرز التحديات التي قد تعيق من الدور الأمريكي في ليبيا.
مقاربة أمريكية جديدة:
بعثت إدارة بايدن خلال الأشهر الماضية رسائل وإشارات توضح توجهاتها حيال الأزمة الليبية والتي اختلفت عن سابقتها، ويمكن تتبعها على النحو التالي:
(*) دعم جهود التوصل إلى تسوية سلمية سياسية: تتحدد رؤية الولايات المتحدة إزاء الملف الليبي من خلال التأكيد على ثلاثة معطيات أساسية، تتمثل في التزام واشنطن بدعم التقدم المحرز في ليبيا والتشديد من جديد على أهمية الانتخابات الوطنية الليبية المقرر إجراؤها في 24 ديسمبر 2021، كذلك دعم تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2570 (2021) وكذلك القرار رقم 2571 (2021) و اتفاق وقف إطلاق النار في جميع أنحاء ليبيا بتاريخ 23 أكتوبر2020، بالإضافة إلى التأكيد على الأهمية الملحة لإخراج جميع القوات العسكرية الأجنبية والمقاتلين الأجانب والمرتزقة كخطوة أساسية لاستعادة سيادة طرابلس، وبالتزامن مع ذلك شدد الدبلوماسيون والمسئولون الأمريكيون على الحلول السياسية للنزاعات الليبية، حيث دعم المسئولون الأمريكيون عمليات التفاوض التي تقودها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ورحبوا بإنشاء السلطة التنفيذية المؤقتة وحكومة الوحدة الوطنية، على سبيل المثال أكد المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا والسفير لدى ليبيا ريتشارد نورلاند على دعم الولايات المتحدة لإجراء الانتخابات في ديسمبر 2021 وانسحاب القوات الأجنبية من ليبيا كما هو مطلوب بموجب اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020 كذلك في مايو 2021، كما شدد مساعد وزير الخارجية بالإنابة جوي هود على ضرورة خروج جميع القوات العسكرية الأجنبية والمرتزقة والوكلاء والمقاتلين الأجانب بما في ذلك من سوريا وتشاد والسودان، وضرورة إنهاء أي دعم للتدخل العسكري الأجنبي، بما في ذلك من الإمارات.
(*) أوجه التحول في السياسة الأمريكية عن سابقتها: تعتبر الدعوة الصريحة التي وجهتها إدارة بايدن إلى المرتزقة الأتراك ومطالبة تركيا بوقف تدخلاتها وسحب قواتها، عندما طالب ريتشارد ميلز رئيس البعثة الأمريكية لدى الأمم المتحدة في اجتماع لمجلس الأمن حول ليبيا يوم 28 يناير 2021، بالانسحاب الفوري للقوات التركية والروسية من ليبيا بما فيها جميع العناصر المرتزقة الأجانب- تحولا ملحوظا في سياسة الإدارة الجديدة مقارنة بسياسة الرئيس السابق دونالد ترامب التي أعطت تركيا الضوء الأخضر للتدخل في ليبيا، كذلك على عكس ترامب من غير المتوقع أن تدعم واشنطن خليفة حفتر، حيث تبدو إدارة بايدن غير متساهلة مع انتهاكات مليشيات حفتر التي تم الإشارة إليها بشكل ضمني في تقرير الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان لعام 2020، الذي صدر في الـ 2 من مارس الماضي، حيث اتهم التقرير مختلف الجماعات المسلحة بما في ذلك بعض الجماعات المتحالفة مع حكومة الوفاق الوطني و”الجيش الوطني الليبي” بارتكاب انتهاكات مثل القتل التعسفي وغير المشروع، والاختفاء القسري، والتعذيب وقتل المدنيين وتجنيد الأطفال.
دوافع تحركات إدارة بايدن:
هناك جملة من المحفزات يبدو أنها ساهمت في إفراز سياسة أمريكية جديدة إزاء ليبيا، يمكن إبرازها في النقاط التالية:
(&) استعادة القيادة الأمريكية المباشرة: خلال الأشهر الأولى من ولاية بايدن أبدت واشنطن انخراطاً أكبر في الملف الليبي، سعياً في استعادة القيادة من الأطراف الفاعلة على رأسها موسكو، وذلك من أجل رسم ملامح المرحلة المقبلة عبر تنصيب نفسها الراعي المباشر لإدارة ملف الأزمة الليبية، وقد ساعدها في ذلك تحقيقها بعض النجاحات في محطات التسوية واختيار سلطة تنفيذية جديدة من خلال مساعي شخصية أممية تحمل الجنسية الأمريكية.
(&) مواجهة وتقويض التمدد الروسي: تسعى إدارة بايدن إلى وقف التوغل الروسي في المنطقة ككل وليس في ليبيا فقط، لاسيما بعد أن ساهم الانسحاب الأمريكي من ليبيا في خلق فراغاً أمنياً استغلته روسيا وسعت إلى زيادة تواجدها في المشهد الليبي من خلال الدفع بأكثر من ألفين مقاتل من مرتزقة فاجنر في إشارة إلى نية موسكو نحو الحفاظ على تواجد عسكري دائم، الأمر الذي مثل تهديداً مباشراً لمصالح حلفاء واشنطن في أوروبا وحلف ناتو وعرقلة للجهود الأممية نحو التوصل إلى تسوية بين أطراف النزاع الليبي، وبالتالي يعتبر تقويض النفوذ الروسي في ليبيا هدفاً رئيسياً لواشنطن خلال الفترة المقبلة.
(&) ردع التدخل العسكري التركي: تسبب التدخل العسكري التركي في معضلة لواشنطن، خلال إدارة ترامب تغاضت الولايات المتحدة عن التدخل العسكري التركي في الأزمة الليبية على اعتبار أن الوجود التركي سيعمل على موازنة التحركات الروسية في الساحة الليبية، ولكن حدث العكس على الرغم من دعم تركيا وروسيا طرفين متعارضين في ليبيا، إلا أنهما أبدتا قدرتهما الكبيرة على بلورة أسس التعاون لتحقيق مصالحهما المشتركة، كما أن التوسع العسكري التركي أدى إلى تعقد المشهد الليبي بعد الدفع بعدد كبير من المرتزقة من سوريا إلى غرب ليبيا للقتال بجانب حكومة الوفاق الوطني، وبالتالي تقويض جهود التسوية والوساطة التي طرحتها الأطراف الإقليمية والدولية، مما أدى إلى تحول الموقف الأمريكي إزاء الوكيل التركي وضرورة اتخاذ موقف أكثر حسماً من التدخل التركي.
آليات تنفيذ الأجندة الأمريكية:
من المرجح أن تلجأ واشنطن إلى تفعيل حزمة من الأدوات خلال المرحلة المقبلة من أجل تحقيق الرؤية الأمريكية إزاء الملف الليبي، والتي يمكن التطرق لها على النحو التالي:
- دبلوماسية أمريكية نشطة: نجحت إدارة بايدن في توجيه الأنظار مرة أخرى على محورية الدبلوماسية الأمريكية التي تعتبر أدارة رئيسية من أدوات السياسة الخارجية الأمريكية التي أكد عليها الرئيس الأمريكي جو بايدن في وثيقة التوجيه الاستراتيجي المؤقت لاستراتيجية الأمن القومي، حيث تمكنت واشنطن من إحداث اختراق غير مسبوق في الأزمة الليبية، عن طريق الدور المحوري للسفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة “ستيفاني ويليامز” باعتمادها على المسارات الثلاثة للحوار، المسار العسكري(5+5) والسياسي والاقتصاد، والتوصل إلى اختيار السلطة التنفيذية الجديدة في الـ 5 من فبراير الماضي، إلى جانب ذلك تم تعيين سفير واشنطن لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، مبعوثا خاصا إلى ليبيا للتنسيق بين الأطراف لتحقيق الهدف المنشود بشأن استقرار البلاد، والذي كان أكثر حضوراً في الملف الليبي خلال الفترة الأخيرة من باقي سفراء الدول الأخرى.
- المساعدات الأمريكية: خصص الكونجرس تمويلًا مشروطًا لدعم الانتقال وتحقيق الاستقرار والمساعدة الأمنية والبرامج الإنسانية لليبيا منذ 2011، حيث استثمرت الولايات المتحدة أكثر من 850 مليون دولار في التنمية الشاملة لليبيا، بما في ذلك 605 مليون دولار في المساعدات الإنمائية والأمنية الأمريكية، بالإضافة إلى ما يقرب من 269 مليون دولار مؤخراً في المساعدات الإنسانية، بما في ذلك ما يقرب من 11 مليون دولار في المساعدات الإنسانية المتعلقة بجائحة كورونا، كذلك مؤخراً خصص الكونجرس أيضاً ما لا يقل عن 30 مليون دولار من مساعدات السنة المالية 2021 لـمساعدة الاستقرار لليبيا، بما في ذلك دعم العملية السياسية التي تيسرها الأمم المتحدة وأمن الحدود.
- تنشيط دور الحلفاء الأوربيين: في إطار توجهات بايدن بتنشيط سياسة التحالفات وتفعيل آلية العمل الجماعي لحل الأزمات الدولية، تسعى واشنطن إلى بلورة موقف أمريكي أوروبي موحد من أجل التصدي للدور الروسي في ليبيا، وفي سياق ذلك ترى واشنطن إمكانية توظيف الدور الإيطالي لأنه يتسم بموقف متزناً تجاه ليبيا، كما أن ايطاليا أكثر الدول الأوروبية اتصالاً بالأزمة الليبية باعتبارها الجارة الشمالية لليبيا، بالإضافة إلى أن عضوية إيطاليا في منتدى شرق المتوسط تتماشى مع اهتمام واشنطن بردع الدور التركي في المنطقة، إلى جانب روما تبدو برلين مرشح قوي لمواصلة لعب دور هام في الملف الليبي خاصة بعد احتضانها جولات التسوية برلين 1 وبرلين 2.
- تفعيل علاقتها مع الجزائر كشريك أمني: فرضت تطورات الوضع الأمني في منطقة الساحل وليبيا مع عودة التنظيمات الإرهابية وإعلان فرنسا عن إنهاء العملية العسكرية “برخان” على واشنطن مراجعة تفعيل علاقاتها مع الجزائر، لاسيما وأنها تملك تجربة ثرية في مجال مكافحة الإرهاب، وظهر ذلك في رسالة التهنئة التي بعثها الرئيس الأمريكي بايدن في الأول من يوليو الجاري إلى تبون بمناسبة احتفال الجزائر بالذكرى الـ59 لعيد الاستقلال المصادف، حيث أكد على تقديره للشراكة والجهود الثنائية بين الجزائر والولايات المتحدة لدعم الاستقرار في المنطقة خاصة في ليبيا والساحل الأفريقي.
خلاصة القول، على ما يبدو ترغب واشنطن في فرض سيطرة أكبر على الملف الليبي والحفاظ على موطئ قدم لها خلال المرحلة المقبلة، لاسيما وأن الموقف الأمريكي الصريح في ظل إدارة جو بايدن نجح في إزالة الالتباس والغموض الذي شاب السياسية الأمريكية تحت إدارة ترامب بشأن ليبيا، بالنظر إلى أن ليبيا تتقاطع مع ملفات أخرى تحتل أولوية لدى واشنطن مثل ملف الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي وتنامي النفوذ الروسي في المنطقة، واستقرار حلف الناتو بالإضافة إلى إمدادات النفط والغاز،وبالتالي خلال المرحلة القادمة يجب على واشنطن الضغط على جميع اللاعبين على قبول الترتيبات الجديدة تحت القيادة الأمريكية، والتركيز على سحب تدريجي ومتزامن لجميع القوات والمرتزقة الأجنبية لتجنب خلق فراغ أمني خاصة وان برلين 2 لم يضع خارطة طريق أو آليات محددة لإخراج المرتزقة، ولذلك يمكن لإدارة بايدن تولى زمام الأمور من خلال إتباع ثلاثة مسارات من أجل تحقيق ذلك، أولاً التركيز على إعادة جميع المواطنين السوريين والسودانيين المتبقين في غضون شهر، بالتزامن مع التوصل إلى تفاهم مع أنقرة حول تدويل برامجها التدريبية للقوات العسكرية الليبية ووضع أعمال إزالة الألغام تحت مظلة الأمم المتحدة، ثانياً التنسيق مع المشاركين في برلين 2 على نشر مراقبين مؤقتين على محور سرت – الجفرة للحفاظ على وقف إطلاق النار قبل أن تنتهي بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا على أن تتولى واشنطن تقديم الدعم الاستخباراتي لجميع الأطراف المشاركة، وأخيرا يجب على الولايات المتحدة وشركائها مطالبة موسكو ليس فقط بإعادة الالتزام بالقرار 2570، ولكن أيضًا إعادة نشر بعض القوات على الأقل في بنغازي مثلما أعادت انتشارها في وسط ليبيا عندما انسحب حفتر من طرابلس، بالتزامن مع عرقلة واشنطن كل مصادر التمويل لعمليات فاجنر في ليبيا.