إشارات قوية: انعكاسات الحوار الاستراتيجي بين “القاهرة” و “واشنطن”

عقد الأسبوع الماضي في الـ 8-9 نوفمبر 2021 في واشنطن جولة جديدة من الحوار الاستراتيجي الأمريكي المصري بقيادة وزير الخارجية المصري سامح شكري ونظيره الأمريكي أنتوني بلينكن، وتطرقت جلساته التي استمرت يومين إلى العلاقات الثنائية بين البلدين والتحديات الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، حيث أشار الجانبان إلى الذكرى المئوية المقبلة لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة ومصر في عام 2022 وأكدا على أهمية الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة ومصر، كما حددا المجالات التي يمكن فيها تعميق التعاون الثنائي والإقليمي، بما في ذلك الشؤون الاقتصادية والتجارية والتعليم والقضايا الثقافية والقنصلية. الشؤون وحقوق الإنسان والعدل وإنفاذ القانون والدفاع والأمن، ويبدو أن قرار إدارة بايدن باستئناف الحوار الاستراتيجي بين مصر والولايات المتحدة، يعود إلى إدراك واشنطن لمدى الأهمية البالغة لمصر كشريك استراتيجي حيوي في المنطقة يصعب عليها تجاهله.
في ضوء ذلك، يسعى هذا التحليل إلى تسليط الضوء على تاريخ الحوار الاستراتيجي الأمريكي المصري، وكيف يمكن تفسير توقيت إطلاق هذا الحوار من خلال تأكيد دور مصر الحاسم في إدارة ملفات المنطقة، وإبراز مخرجات جلسات الحوار.
نشأة ومراحل:
الجدير بالذكر أن الحوار الاستراتيجي بين مصر والولايات المتحدة ليس بالجديد، بل تم تأسيسه عام 1998، ويمكن تتبع ذلك على النحو التالي:
(*) إدارة بيل كلينتون: تأسس في ظل إدارة بيل كلينتون عام 1998، وعقد الحوار الاستراتيجي الأول على المستوى الوزاري في يوليو 1998 في عهد إدارة بيل كلينتون، وكان ذلك في ذروة عملية أوسلو للسلام، حيث سعت الإدارة الأمريكية آنذاك إلى ضمان التنسيق الوثيق في الأمور السياسية والدبلوماسية ولفت انتباه الرأي العام إلى العلاقات الثنائية القوية بين البلدين، وعقدت إدارة كلينتون جولات إضافية من الحوار على المستوى الوزاري المساعد في ديسمبر 1998 وفبراير 1999.
(*) إدارة جورج بوش: اعتبرت إدارة جورج دبليو بوش العلاقة بين الولايات المتحدة ومصر حيوية لدفع عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، ولذلك في مارس 2002 أعلنت أنها ستبدأ جولة أخرى من اجتماعات الحوار الاستراتيجي من أجل التنسيق المنتظم حول القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية، وكررت هذه الدعوة في يوليو 2004 وفبراير 2006، لكنها لم تعقد في نهاية المطاف حواراً آخر حتى يوليو 2006، حيث أضيفت حرب لبنان وتداعياتها الإقليمية إلى جدول الأعمال، كذلك عكس الحوار رغبة الإدارة في تجاوز خلافاتها مع القاهرة بشأن ملف الحريات وحقوق الإنسان.
(*) إدارة أوباما: واصلت إدارة أوباما خلال عامها الأول في المنصب تنشيط العلاقات الثنائية مع القاهرة، و بعد خطاب الرئيس في القاهرة في يونيو 2009، أعادت واشنطن عقد الحوار الاستراتيجي على المستوى الوزاري المساعد، وعقدت جولة ثانية في ديسمبر من ذلك العام، حيث ركزت جلسات الحوار على الجهود المشتركة لدفع عمليات السلام الإسرائيلية الفلسطينية والإسرائيلية السورية، مع تغطية عدد من القضايا مثل الوضع الإنساني في السودان وسلامة أراضي العراق، لكن في نفس الوقت نظرت الإدارة إلى الحوار على أنه إطار غير مناسب لمعالجة المخاوف بشأن السياسة الاستبدادية في مصر، وبالتالي توقف الحوار في الفترة من 2009 إلى 2015، ثم استأنف مرة أخرى في 2 أغسطس 2015 بزيارة وزير الخارجية جون كيري إلى القاهرة لبدء الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة ومصر.
دلالات عقد الحوار الاستراتيجي:
يحمل توقيت إجراء الحوار الاستراتيجي الأمريكي المصري في الفترة 8-9 نوفمبر الجاري عدة دلالات هامة، أبرزها ما يلي:
(&) تغير رؤية إدارة بايدن إزاء القيادة المصرية “مصر شريك إقليمي رئيسي لا يمكن تجاهله”: أثبت نجاح مصر في السيطرة على الصراع المسلح بين حماس وإسرائيل في مايو 2021، إلى إدارة بايدن أهمية أخذ القيادة المصرية للرئيس السيسي بجدية أكبر، وإعادة تقديم مصر كشريك إقليمي لا غنى عنه في المنطقة، وذلك بعد تجاهل إدارة بايدن القاهرة في أيامها الأولى على الرغم من اتصال بلينكن بوزير الخارجية المصري سامح شكري في غضون شهر من تأكيد تعيينه، إلا أن الرئيس بايدن لم يتحدث مع الرئيس عبد الفتاح السيسي إلا بعد خمسة أشهر من توليه منصبه، وهي فترة طويلة بالنظر إلى أن الرئيس أوباما اتصل بالقاهرة في اليوم الأول من ولايته الأولى.
(&) مصر نوعت شراكاتها الدفاعية: يبدو أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تسير على نفس النهج دون تغيير، وهو السياسة المعيبة المتمثلة في خلط المساعدات العسكرية بتحسين ملف حقوق الإنسان، و استجابة لذلك قررت القيادة المصرية أن تنوع مصادر التسلح لتجنب عواقب إساءة استخدام الولايات المتحدة للمساعدات العسكرية في ممارسة الضغوط السياسية، و يشمل المصدرون العسكريون والحلفاء لمصر روسيا والصين واليابان وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، و وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، احتلت مصر المرتبة الثالثة بين أكبر 25 مستوردًا للأسلحة في العالم في الفترة من 2016 إلى 2020.
(&) سياق عقد الحوار: جرى العرف أن جلسات الحوار السابقة كانت تستخدم من أجل تحديد أجندة المناطق التي تهم الولايات المتحدة، حيث تتمتع مصر بنفوذ سياسي أو اقتصادي، وهي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وشرق البحر الأبيض المتوسط وشرق إفريقيا، هذه المرة، يجري الحوار الاستراتيجي بين مصر والولايات المتحدة وسط تغيرات حادة في الإقليم حيث تلعب مصر دورًا حاسمًا في التحكم في مسارات ونتائج عدد من الملفات على رأسها تدهور الأوضاع الأمنية والإنسانية في اليمن وسوريا، والانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان، بالإضافة إلى محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، و في الوقت نفسه، لا يزال التهديد المتزايد للميليشيات المحلية والمرتزقة في دول شمال إفريقيا الضعيفة مثل ليبيا ، مصدر قلق كبير، كما تشتعل منطقة شرق إفريقيا بالحروب الأهلية التي وفرت تربة خصبة للمنظمات الإرهابية والميليشيات القبلية.
أهم مخرجات الحوار الاستراتيجي:
شهدت الاجتماعات التي استمرت يومين مناقشات حول عدد من مجالات التعاون ذات الاهتمام المشترك، بما في ذلك القضايا السياسية والاقتصادية والقضائية وحقوق الإنسان والتعليمية والثقافية، إلى جانب تبادل الرؤى حول القضايا الإقليمية والدولية، على النحو التالي:
- التأكيد على الشراكة الاستراتيجية بين البلدين: أعادت الولايات المتحدة ومصر التأكيد على التزامهما الراسخ بالأمن القومي للبلدين وباستقرار الشرق الأوسط، كما أشادت مصر بدور الولايات المتحدة في التنمية الاقتصادية في مصر وإمدادها بالمعدات الدفاعية والتعاون المشترك لتعزيز القدرات الدفاعية المصرية، في المقابل أعربت الولايات المتحدة عن تقديرها لقيادة مصر في مجال التوسط لإيجاد حلول للنزاعات الإقليمية، ولا سيما تعزيز السلام وإنهاء العنف في غزة.
- آليات معالجة القضايا الإقليمية: فيما يتعلق بسد النهضة الإثيوبي، جددت الولايات المتحدة دعم الرئيس بايدن للأمن المائي لمصر، ودعت مصر إلى استئناف المفاوضات للتوصل إلى اتفاقية حول سد النهضة برعاية الاتحاد الأفريقي، وذلك تماشيا مع البيان الرئاسي لمجلس الأمن الدولي الصادر بتاريخ 15 سبتمبر 2021 واتفاق إعلان المبادئ الذي تم التوصل إليه في العام 2015، فيما يتعلق بليبيا شددت الولايات المتحدة ومصر على أهمية إجراء الانتخابات في ليبيا في 24 ديسمبر، كما أعربتا عن دعمهما لخطة عمل اللجنة العسكرية المشتركة الليبية (5+5) لإخراج كافة القوات الأجنبية والمقاتلين والمرتزقة من البلاد، بالإضافة إلى ذلك تم مناقشة تطورات الأوضاع في السودان وحل النزاعات الإقليمية والأزمات الإنسانية في سوريا ولبنان واليمن، كما اتفقا على مواصلة المشاورات رفيعة المستوى حول القضايا الأفريقية والشرق أوسطية.
- تأكيد الالتزام بالتعاون الدفاعي الثنائي: أكدت الولايات المتحدة ومصر التزامهما على التعاون في مجال مكافحة الإرهاب والأمن الحدودي والبحري، كما أعادت مصر تأكيد التزامها بالمشاركة النشطة في القوات البحرية المشتركة بناء على الاستكمال الناجح للدورة الثانية والثلاثين للجنة التعاون العسكري بين الولايات المتحدة ومصر ومناورات النجم الساطع 2021 متعددة الجنسيات، في المقابل أشارت الولايات المتحدة إلى أهمية عقد مصر الأخير الممول وطنيا بقيمة مليار دولار لتجديد مروحيات أباتشي المصرية ، كما أشار الجانبان إلى برنامج شراكة الدول للحرس الوطني الأمريكي الأخير بين مصر والحرس الوطني في تكساس كفرصة لزيادة التعاون.
- حواراً مثمراً حول حقوق الإنسان وتعزيز التعاون القضائي: تناول الحوار الحقوق المدنية والسياسية بما في ذلك حرية التعبير ومكافحة العنصرية وتمكين المرأة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ورحبت مصر بانتخاب الولايات المتحدة لعضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بينما رحبت الولايات المتحدة باستراتيجية مصر الوطنية لحقوق الإنسان وخططها الوطنية للنهوض بحقوق الإنسان في البلاد بالتعاون مع المجتمع المدني، بالإضافة إلى ذلك أعلنت مصر والولايات المتحدة عن عزمهما على تعزيز التعاون القضائي وأجهزة إنفاذ القانون لمكافحة الجريمة العابرة للحدود من خلال تبادل الأدلة والمعلومات المستخدمة للتحقيق في هذه الجرائم ومقاضاة مرتكبيها بما يتفق مع المعايير القانونية الدولية، حيث وقع البلدان على مذكرة تفاهم تهدف إلى تسهيل التعاون السريع وتعزيزه بموجب معاهدة المساعدة القانونية المتبادلة في المسائل الجنائية، والتي دخلت حيز التنفيذ في 29 نوفمبر 2001.
- توسيع التعاون الاقتصادي والتجاري الثنائي وقضايا المناخ: تم تبادل الأفكار حول زيادة الاستثمار بين البلدين وتوفير المزيد من الفرص لشعوبهم ومكافحة أزمة المناخ، وفي ضوء ذلك رحبت الولايات المتحدة بترشيح مصر من قبل الاتحاد الأفريقي لاستضافة مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ في دورته السابعة والعشرين في شرم الشيخ وتوفير القيادة كرئيس للمؤتمر لتعزيز الطموحات الدولية بشأن المناخ، كما أشادت بالتقدم الذي أحرزته مصر في مجال تطوير الطاقة الخضراء وعزمها على متابعة أهداف مناخية طموحة، كما أعلن الطرفان عن إطلاق لجنة اقتصادية مشتركة رفيعة المستوى وتشكيل مجموعة عمل مشتركة بين البلدين بشأن المناخ، وإطلاق برنامج جديد للاقتصاد الأخضر و الإصلاح التجاري من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، إلى جانب توقيع مذكرة تفاهم بين بنك التصدير والاستيراد للولايات المتحدة ووزارة المالية المصرية.
- مواصلة تعزيز التعاون التعليمي والثقافي: تم مناقشة توسيع العلاقات بين الشعبين عبر التبادلات التعليمية والثقافية والعلمية والبيئية والتعاون في برامج مثل فولبرايت وبرنامج القادة الزوار الدوليين وبرامج المتحدثين في الولايات المتحدة، كما تم تأكيد الالتزام بالتعاون العلمي من خلال الصندوق المشترك للعلوم والتكنولوجيا بين الولايات المتحدة ومصر الذي تم تعزيزه من خلال تجديد اتفاقية العلوم والتكنولوجيا بين البلدين مؤخرا، وأعربت الولايات المتحدة ومصر عن التزامهما بالتوقيع على تمديد لمذكرة التفاهم التي تعزز حماية الملكية الثقافية وبدء المناقشات من أجل خطة عمل ذات صلة، بالإضافة إلى ذلك، شدد الجانبان على أهمية حماية التراث الثقافي والحفاظ عليه من خلال إطار اتفاقية الملكية الثقافية بين الولايات المتحدة ومص
خلاصة القول، بالنسبة لواشنطن تعتبر سياسة إجراء الحوارات الاستراتيجية مهمة بشكل أساسي نتيجة قيمتها الرمزية، والتي تنبع من حقيقة أن تكريس المسئولين الأمريكيين رفيعي المستوى وقتًا كاملًا لبلدان معينة يظهر الأهمية التي توليها واشنطن لهؤلاء الشركاء من خلال إرسال إشارات قوية بشكل خاص في لحظات الخلاف السياسي، من أجل تأكيد استدامة العلاقات الرئيسية على الرغم من التوترات قصيرة المدى، وبالتالي يمكن اعتبار خطوة استئناف الحوار الاستراتيجي الأمريكي المصري علامة فارقة وهامة في رسم ملامح العلاقات الأمريكية المصرية في ظل إدارة بايدن، فبالنسبة للقيادة المصرية، يمثل هذا الحوار فرصة لإعادة تأكيد دورها كشريك حيوي للولايات المتحدة في المنطقة، بينما بالنسبة للولايات المتحدة، يمثل فرصة لتعزيز التعاون في القضايا طويلة الأمد مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ، عن طريق السعي إلى تضييق الفجوة من خلال إيجاد رؤى مشتركة تتماشى مع نهج مصر إزاء قضايا المنطقة مثل تطورات الأوضاع في السودان وتشجيع المشاركة البناءة في قضايا مثل سد النهضة الإثيوبي وليبيا، بعيداً عن النهج الأمريكي الذي أثبت فشله أمام القيادة المصرية المتمثل في استخدام حزمة المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر كأداة للضغط من أجل تحسين حقوق الإنسان.