مواجهة مفتوحة: هل ينجح بايدن في تطويق نفوذ الصين الاقتصادي؟

في وقت تتصاعد فيه التوترات بين واشنطن وبكين والعديد من الدول الأوروبية، سعت إدارة بايدن إلى بناء جبهة أكثر توحيدًا بهدف مواجهة النفوذ الصيني المتصاعد، ومؤخراً اقترح الرئيس الأمريكي جو بايدن أن تطلق الدول الديمقراطية مبادرة منافسة لمشروع الحزام والطريق للاستثمار في البنى التحتية، وذلك في خضم توتر مع بكين على خلفية فرض عقوبات على مرتكبي انتهاكات بحق أقلية الإويغور المسلمة، في منطقة شينجيانج في شمال غرب الصين، حيث أعلنت الولايات المتحدة يوم 22 مارس فرض عقوبات على مسؤولين صينيين لدورهما في “الانتهاكات الخطرة لحقوق الإنسان” بحق أقلية الإيغور المسلمة في منطقة شينجيانج، كما اتخذت المملكة المتحدة نفس القرار يوم 26 مارس وذلك بعد ساعات من اعلان الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على أربعة أشخاص وكيان صيني بسبب الانتهاكات في شينجيانج، وتأتي تلك التحركات الأمريكية في وقت يشتد التنافس بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية في جميع النواحي، وسجلت العلاقات الثنائية بينهما أدنى مستويات لها سنة 2020 منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية قبل أربعة عقود، واتساقا من تلك المساعي الأمريكية يمكن طرح عدة تساؤلات، ما هي أبرز تحركات إدارة بايدن منذ تولي البيت الأبيض في مواجهة نفوذ الصين، كيف استجابت الصين إزاء تلك التحركات، وما هي خيارات واشنطن من أجل تهميش النفوذ الاقتصادي الصيني؟.

تحركات أمريكية متنوعة:

تفكر واشنطن في كيفية التعامل مع تنامي النفوذ الصيني بطريقة تعزز موقفها الاقتصادي والسياسي وفي نفس الوقت تحد من التهديد الذي قد تشكله التحركات الصينية على النفوذ الإقليمي الأمريكي، لذلك لجأت إدارة بايدن إلى العمل على عدة قنوات، وذلك على النحو التالي: –

  • تغيير اللهجة إزاء الصين : كانت تصريحات بايدن خلال الحملة الانتخابية تتسم بالهدوء، بالرغم من انه شدد على أن الولايات المتحدة يجب أن تكون صارمة مع الصين، لكن الطريقة الأنجح لفعل ذلك تكون عبر بناء جبهة موحدة من حلفاء وشركاء الولايات المتحدة لمواجهة انتهاكات حقوق الإنسان في الصين، كذلك في الوقت نفسه يتم السعي للتعاون مع بكين في القضايا التي تتلاقى فيها المصالح مثل تغير المناخ، كما أشار في أول خطاب حول السياسة الخارجية إلى استعداد واشنطن للعمل مع بكين عندما يكون ذلك في مصلحة أمريكا، لكن الان حدث تصعيد في اللهجة، على سبيل المثال تعهد بايدن في أول مؤتمر صحفي له، الأسبوع الماضي، بمنع الصين من قيادة العالم و من أن تصبح الدولة الأولى في العالم، و انتقد الوضع السياسي في بكين واصفا إياها بـ”الاستبدادية”، كذلك اتهم وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الصين بانتهاك حقوق الإنسان في هونغ كونغ وشينجيانغ، وتهديد النظام والاستقرار العالميين، أثناء الاجتماع مع المسئولين الصينيين في ولاية ألاسكا الذي عقد منتصف شهر مارس.
  • خلق تكتل أوروبي موحد ضد الصين: تركز الولايات المتحدة منذ بداية عهد الرئيس جو بايدن على التعاون مع الحلفاء خاصة أوروبا من اجل مواجهة الصين، وفي سياق ذلك تحرك بايدن خلال الفترة الماضية نحو حشد قوة أوروبية ضد الصين على غرار ” مشروع الحزام والطريق الصيني”، فقد اقترح مؤخراً خلال اتصال مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، أن تطلق الدول “الديمقراطية” مبادرة منافسة لمشروع “الحزام والطريق” الصيني للاستثمار في البنى التحتية، لمساعدة فئات من حول العالم تحتاج حقاً إلى المساعدة”، وذلك في إشارة إلى مبادرة “الحزام والطريق” الصينية.
  • مبادرة اقتصادات الجزر الصغيرة (SALPIE): أطلقت إدارة الرئيس جو بايدن هذا الأسبوع مبادرة “اقتصادات الجزر الصغيرة والأقل عدداً من السكان The Small and Less Populous Island Economies Initiative ” التي تهدف لتعزيز التعاون الاقتصادي بين الولايات المتحدة والبلدان والأقاليم الجزرية في منطقة البحر الكاريبي وشمال المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، من أجل مكافحة ممارسات الاستثمار الشرسة التي تتعرض لها الدول الأصغر من قبل الصين، كما تعمل المبادرة على إعطاء حكومة الولايات المتحدة الأولوية للتعاون مع هذه الاقتصادات لمواجهة التحديات الاقتصادية لكوفيد-19، وتعزيز الانتعاش الاقتصادي، والاستجابة لأزمة المناخ، وتعزيز المصالح المشتركة طويلة الأجل، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية الثنائية والإقليمية، و التعاون داخل المنظمات الدولية.
  • تحالف الرباعية” الكواد The Quad”: على المستوى الإقليمي في آسيا، من المرجح أن يتم إيجاد بعض الثقل الموازي للنفوذ الصيني في منطقة آسيا والمحيط الهادئ من خلال الحوار الأمني الرباعي غير الرسمي بين أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة، وبالفعل عقد الرئيس الأمريكي جو بايدن أول قمة للتحالف، وهي قمة افتراضية عبر الإنترنت مع الهند واليابان وأستراليا يوم 12 مارس، من أجل التصدي للتحديات المحتملة في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، إلى جانب تعزيز التعاون في محاربة وباء فيروس كورونا وتغيرات المناخ.

استجابة شاملة من الصين:

تستهدف الصين تدعيم نفوذها الاقتصادي والجيوسياسي من أجل ملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة أثناء حقبة الرئيس الأسبق دونالد ترامب، ومن أجل ذلك اتخذت الصين عدة خطوات يمكن إبرازها على النحو التالي: –

  • التلويح بورقة العقوبات: فرضت الصين عقوبات على 10 منظمات وأفراد في المملكة المتحدة، بما في ذلك الزعيم السابق لحزب المحافظين إيان دنكان سميث، ومن بين نواب حزب المحافظين الذين تم تسميتهم، توم توجندهات ، الذي يرأس لجنة اختيار الشؤون الخارجية ، ونصرت غني ، عضو لجنة اختيار الأعمال، كما تم استهداف نيل أوبراين ، رئيس مجلس سياسة المحافظين ، و تيم لوتون ، عضو التحالف البرلماني الدولي في الصين، و في مجلس اللوردات ، تم فرض عقوبات على ديفيد ألتون ، وهيلينا كينيدي ، من حزب العمال، و المحامي جيفري نيس، بينما كانت جوان نيكولا  سميث هي الأكاديمية المستهدفة الوحيدة، كما شملت الكيانات المختارة مجموعة الأبحاث الصينية ، ولجنة حقوق الإنسان المحافظة ، ودوائر محكمة إسيكس، على الجانب الأخر شملت العقوبات المفروضة على الولايات المتحدة و كندا ، رئيسة اللجنة الأمريكية للحرية الدينية الدولية جايل كونيلي مانشين ونائب رئيس اللجنة توني بيركنز، و عضو البرلمان الكندي مايكل شونج واللجنة الفرعية لحقوق الإنسان الدولية التابعة للجنة الدائمة للشؤون الخارجية والتنمية الدولية بمجلس العموم الكندي.
  • التقارب مع روسيا وإيران: ترى الصين أن عبر التقرب من روسيا وإيران سيتم الاستجابة إلى تحركات تحالف الكواد، من خلال التأكيد على أن لديها تحالفاتها الخاصة، وفي سياق ذلك التقى وزير الخارجية الصيني ووانج يي مع سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي، الذي زار جنوب الصين يوم 22 مارس الجاري من اجل بحث آفاق التعاون بين الجانبين، بينما على الجانب الاخر وقعت الصين مع إيران يوم 27 مارس وثيقة تعاون تجاري واستراتيجي مدتها 25 عاما من المتوقع ان توسع نفوذ الصين في الشرق الأوسط ، وتفتح لها الباب أمام مواجهة المعسكر الأمريكي الأوروبي.
  • إعادة توجيه أسس ” مبادرة الحزام والطريق”: ساهم تفشي وباء كوفيد-19 في إعطاء بكين فرصة ذهبية من أجل تغيير معايير مبادرة الحزام والطريق وإظهار وجهها الإيجابي للعالم من خلال التركيز على الصحة العامة و التحول الرقمي، فقد قررت الصين تبني نهج “الدبلوماسية الطبية”، التي ركزت على تبادل الخبرات وإرسال الأطباء والمعدات الطبية إلى البلدان التي كانت تكافح من أجل السيطرة على انتشار الفيروس، وذلك في إطار مشروع “طريق الحرير الصحي”، في محاولة لمواجهة السرد العالمي عن دورها السلبي في انتشار فيروس كورونا، بينما فيما يتعلق بمجال التكنولوجيا، برز “طريق الحرير الرقمي” الذي تم تقديمه لأول مرة عام 2015 كجزء من رؤية السياسة الخارجية للزعيم الصيني شي جين بينج، في مبادرة الحزام والطريق، وذلك من أجل تعزيز محاولات الصين نحو تحقيق استقلال تكنولوجي في الداخل والتحول لتصبح مركز الشبكات العالمية، وفي سياق ذلك تعد الصين المصدر الأول في العالم لتكنولوجيا الاتصالات كما انها قادرة على المنافسة بشكل متزايد في تقديم الأنظمة المتقدمة ، مثل الكابلات البحرية، إلى جانب ذلك أصبحت البنية التحتية الرقمية أكثر أهمية للاقتصادات الحديثة مع وصول شبكات أسرع وأجهزة استشعار أرخص وانتشار الأجهزة المتصلة، بالإضافة إلى ذلك يستهدف شي في الداخل بناء “بنية تحتية جديدة” ، بما في ذلك شبكات الجيل الخامس ومراكز البيانات والبنية التحتية الرقمية الأخرى ، مما سيخلق قدرة أكبر على تصدير هذه الأنظمة إلى الخارج.
  • تشكيل تجمع اقتصادي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ: في 15 نوفمبر 2020 أعلنت الصين توقيع 15 دولة من منطقة آسيا والمحيط الهادئ اتفاق “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة”، وهو أكبر اتفاق للتجارة الحرة على مستوى العالم، حيث يضم الاتفاق عشر دول في جنوب شرق آسيا إلى جانب الصين واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وأستراليا (أي 2,1 مليار نسمة)، وتساهم الدول الموقعة على الاتفاق بنحو 30 % من إجمالي الناتج الداخلي العالمي، ويعد هذا التجمع بديلا تقوده الصين لاتفاق التجارة العابرة للمحيط الهادئ الذي انسحب منه دونالد ترامب عام 2016.

أدوات تهميش النفوذ الصيني:

هناك ترسانة واسعة من الأدوات المتاحة لواشنطن من أجل تحقيق أهداف السياسة الخارجية ومواجهة التحدي الصيني، يمكن تحديدها في النقاط التالية: –

  • تجنب الانخراط في حوار مع القيادة الصينية: يجب على إدارة بايدن عدم الوقوع في مصائد الحوار دون تقديم أي تنازلات واضحة من بكين، وذلك من خلال تعلم الدروس من وعود الصين التي لم يتم الوفاء بها خلال الإدارات الأمريكية السابقة، وبالتالي ينبغي أن ألا تشتت إدارة بايدن بحوارات لا نهاية لها مع الصين، بل يجب أن تركز بدلاً من ذلك على صياغة سياسات تستند إلى تقييم واضح لممارسات النظام الصيني، على سبيل المثال إظهار التضامن مع المضطهدين في هونغ كونغ وشينجيانج والتبت والبلدان التي تعاني من ضغط الصين، وتجلى ذلك في العقوبات الأخيرة التي تم فرضها على المسؤولين الصينيين المتورطين في اعتداءات ترتبط بحقوق الإنسان.
  • تضافر الجهود الداخلية: يتطلب التحدي الصيني نهجًا شاملاً من قبل الحكومة الأمريكية بأكملها ولا يمكن قصره على وزارة الخارجية وحدها، بل يجب أن يتخطى الرد على الصين وزارات الدفاع والأمن الداخلي والتجارة والطاقة والتعليم، وذلك من أجل محاربة المنافسة الأيديولوجية وإظهار موقف واضح وجريء ضد الشمولية الصينية، على سبيل المثال يمكن للحكومة الأمريكية أن تقدم تمويلاً لمشاريع الشركات الأمريكية التي ترغب في التنافس مع الشركات الصينية، لا سيما تلك التي ستستخدم أنشطة البنية التحتية التي تمولها وتطورها بالفعل الشركات الصينية.
  • تحسين البنية التحتية الداخلية: يجب تطوير شبكات الاتصال للأمريكيين مع الاستثمار في التقنيات التي تحول مجال الاتصالات العالمية لصالح الولايات المتحدة وحلفائها، إلى جانب ذلك تعد الشركات الأمريكية رائدة في إنتاج المكونات والبرامج الرئيسية للعديد من أنظمة الشبكات مثل Open RAN ، والتي يمكن أن تنضج بشكل أسرع وتتوسع عالميًا مع عمليات النشر المحلية، كما يمكن تعزيز مكانة الولايات المتحدة في شبكات الكابلات البحرية العالمية، التي تعمل على نقل الغالبية العظمى من البيانات الدولية ، بما في ذلك مقاطع الفيديو المتدفقة والمكالمات الهاتفية إلى معاملات بطاقات الائتمان وأجهزة الصراف الآلي وأسواق الأوراق المالية، ولذلك يجب على إدارة بايدن حماية الكابلات الموجودة وتحسين عملية تخطيط الكابلات من خلال إنشاء نقطة اتصال فيدرالية واحدة، ويجب على وزارة الخارجية الأمريكية أيضاً مضاعفة جهودها لإزالة العقبات التي تحول دون تركيب الكابلات وإصلاحها في الأسواق الخارجية.
  • استعادة القيادة في الهيئات الدولية: مثل الأمم المتحدة وإنشاء تحالف من الديمقراطيات لمواجهة التحدي الصيني، بالإضافة إلى مساعدة البلدان النامية على تقوية مؤسساتها الديمقراطية، وتوفير الوصول إلى التكنولوجيا الطبية، وتمويل برامج الطاقة النظيفة، وفي سياق ذلك يمكن للكونجرس زيادة تمويل ميزانية المساعدة الخارجية، مما يسمح للولايات المتحدة بالقيام بالمزيد في مجالات مثل الصحة العامة والتعليم والطاقة الخضراء.

خلاصة القول، يقدر المسؤولون الأمريكيون خطورة التحركات الصينية، خاصة إطلاق الصين لمشروع “الحزام والطريق” الذي أتاح لها خلق شراكات دولية عديدة عبر مختلف مناطق العالم، الأمر الذي ساهم في تنامي القوة الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية لها، في المقابل لم تتمكن الولايات المتحدة حتى الان من تعزيز البنية التحتية والتجارة والاتصال في جميع أنحاء آسيا من أجل مواجهة طريق الحرير الصيني، حيث كانت استثماراتها في العديد من بلدان مبادرة الحزام والطريق محدودة، ولذلك يبدو في المستقبل القريب أن حدة التنافس بين واشنطن و بكين ستتضمن التركيز على مجالات بعيدة عن التجارة، مثل قضايا حماية الملكية الفكرية، الممارسات الصينية الاقتصادية القسرية وغير العادلة ، وقضايا حقوق الانسان لاسيما القمع في هونغ كونغ، والانتهاكات ضد أقلية الإويغور المسلمة في منطقة شينجيانج، وبالتالي دعوة الرئيس الأمريكي جو بايدن من اجل تدشين مبادرة أمريكية أوروبية منافسة لمشروع الحزام والطريق الصيني والبحث عن  قوى عظمى من اقتصادات العالم من أجل تكوين حلف مضاد للصين لن تؤثر بشكل واضح وملوس على تهميش النفوذ الصيني الاقتصادي واستمرار التوغل داخل العديد من الدول  في آسيا وأوروبا وإفريقيا.

سلمى العليمي

باحثة متخصصة بالشؤون الأمريكية، الرئيس السابق لبرنامج الدراسات الأمريكية، باحث ماجستير في العلوم السياسية، حاصلة على بكالوريوس العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، ودبلومة في الدراسات العربية، دبلومة من الجامعة الأمريكية في إدارة الموارد البشرية، نشرت العديد من الدراسات والأبحاث الخاصة في الشأن الأمريكي والعلاقات الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى