المسار المحتمل.. ماذا يجري في السودان؟
وقع المحظور ودخل السودان في حرب شبه شاملة امتدت من العاصمة الخرطوم إلى مدينة مروي في أقصى الشمال، والفاشر، ونيالا في أقصى الغرب، والأبيض، وكوستي في أقصى الجنوب، الحرب التي أشعلها تمرد الفريق أول محمد حمدان دقلو «حميدتي»، قائد ميلشيا الدعم السريع، والتي أطلقها في التاسعة والثلث من صباح السبت الماضي، مرشحة إلى أن تتحول إلى حرب أهلية وقبلية شاملة، وممتدة على الرغم من حتمية انتصار الجيش السوداني، وسيطرته على الأوضاع في البلاد.
توقع المراقبون اندلاع هذه الحرب، وحظروا من تبعاتها عندما خالف قائد ميلشيا الدعم السريع توجهات الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وقيادات الجيش، وراح يسبح في النهر منفردًا وفي الاتجاه المعاكس.
وفيما وصف بأنه خطة سابقة التجهيز، تحركت قوات ميلشيا الدعم السريع في توقيت واحد بالعاصمة الخرطوم نحو مقر الحكم، حيث القصر الجمهوري، ومقر القيادة العامة، وفي مطار ومدينة مروي في أقصى الشمال، حيث القاعدة الجوية الكبرى، والمطار الثاني والبديل لمطار الخرطوم، وقد استغلت قوات الدعم السريع حماية عناصرها لتلك المناطق الاستراتيجية، ومؤسسات الدولة، مثل التلفيزيون، ومصافي النفط، والمؤسسات العامة، لتغطي على تحركاتها، وتنجح في دخول مطار الخرطوم وتقوم بإحراق عدد من الطائرات، وتوقف عملية الملاحة، إضافة إلى السيطرة على التلفزيون السوداني، ووقف بثه، والتسلل إلى مطار مروي، وكل هذه العمليات الأولية تمت بوجود هذه العناصر ضمن القوات المكلفة بالحراسة قبل اندلاع عمليات التمرد، كما استغلت ميلشيا قوات الدعم السريع عملها ووجودها داخل المدن بأعداد كبيرة في محاولة السيطرة على البلاد باعتبار أن الجيش لا يستطيع التحرك بآلياته الثقيلة مثل الدبابات والعربات المدرعة بين شوارع المدن، كما أنه لا يستطيع استخدام سلاح الجو في تدمير هذه القوات في قلب المدن، وإلحاق الضرر بالمدنيين، وبالخدمات العامة كالمستشفيات والمدارس ودور العبادة.
وبينما نجح «حميدتي» في استغلال هذه الميزات التي كانت تمنح لقواته، لم يكن في حسبانه أن عمليات التمرد لا يمكنها الصمود أمام جيش مدرب ومزود بأسلحة ثقيلة ومتنوعة وذخيرة تكفي لعملياته لمدد طويلة، وهو ما انعكس على أرض الواقع باسترداد سريع للقوات المسلحة السودانية لأكثر من 90 % من تلك المواقع في اليوم الأول للعمليات، مما حول مجموعات الدعم السريع إلى التمترس في بعض الشوارع والأزقة كمحاولة أخيرة للبقاء على قيد الحياة
وزعم فيديو منسوبًا لقوات الدعم السريع أسرها لعدد من الجنود المصريين في قاعدة مروي التي دخلتها هذه القوات السبت الماضي في الساعات الأولى لاندلاع الحرب، وقد حاولت قوات الدعم تسول مشاعر السودانيين ضد جنود مصريين كانوا يعملون بالقاعدة وفقًا لاتفاق مع الجيش السوداني للتدريب المتبادل، وهو ما يكشف إلى حد كبير قيام «حميدتي» بمحاولة ضرب العلاقة الاستراتيجية بين الشعبين والزعم بأن قواته ذهبت هناك لمطاردة المصريين.
ميزان القوة:
ووفقًا لتقديرات المراكز البحثية المتخصصة، فإن ميزان القوة العسكرية يميل بشكل حاد إلى صالح الجيش السوداني، في مواجهة قوات الدعم السريع، على الرغم من امتلاك الأخيرة ميزتي حرب الشوارع والمدن، والآليات الصغيرة مثل عربات الدفع الرباعي القادرة على التحرك في الشوارع الضيقة والوصول إلى المقار والمؤسسات الاستراتيجية في البلاد، وقد جاء في موقع«Global Fire Power» المتخصص بدراسة موازين القوى العسكرية بين جيوش العالم، أن عدد القوات المسلحة في السودان يبلغ حوالي 205 آلاف جندي، بينهم 100 ألف قوات عاملة، و50 ألفا قوات احتياطية، و55 ألفا قوات شبه عسكرية.
فيما تصنف القوات الجوية التابعة للجيش، في المرتبة رقم 47 بين أضخم القوات الجوية في العالم، وتمتلك 191 طائرة حربية تضم 45 مقاتلة، 37 طائرة هجومية، 25 طائرة شحن عسكري ثابتة الأجنحة، 12 طائرة تدريب، وقوات برية تشمل قوة تضم 170 دبابة، وتصنف في المرتبة رقم 69 عالميا، 6 آلاف و967 مركبة عسكرية تجعله في المرتبة رقم 77 عالميًا، قوة تضم 20 مدفعا ذاتي الحركة تجعله في المرتبة رقم 63 عالمًيا.
قوة مدافع مقطورة تضم 389 مدفعا تجعله في المرتبة رقم 29 عالميا، 40 راجمة صواريخ تجعله في المرتبة رقم 54 عالميا في هذا السلاح.
وفي المقابل، فإن قوات الدعم السريع يصل قوامها إلى 100 ألف فرد، ويتركز تواجدها في العاصمة الخرطوم وعدد من المدن الأخرى، كما استولت في وقت سابق على عدد من المقرات التابعة لجهاز الأمن الوطني، وخاصة مقار وأسلحة هيئة العمليات، ومقر حزب المؤتمر الوطني المنحل، وتتخذ من تلك المقار تمركزا لها، إضافة إلى انتشارها على الحدود مع دول الجوار الأفريقي. إضافة إلى توزع تلك القوات في معظم ولايات ومدن السودان وفقًا للتنسيق السابق مع القوات المسلحة، كما أن قوات الدعم السريع بدأت، منذ حوالي 3 أشهر، في نقل ما يُقدر عدده بحوالي 50 ألف فرد من دارفور إلى الخرطوم، مع تعزيز ذلك التمركز من خلال قطع حربية صغيرة ومدرعات، بالإضافة إلى الاحتفاظ بمواقعها على البحر الأحمر، وبالقُرب من منطقة حلايب.
ووفقًا للعرض السابق، فإن قوات الدعم السريع كانت تستمد قوتها من المساحات التي منحها لها الجيش السوداني، كما أن عملها منذ تأسيسها في العام 2013 كان يعتمد على تدخل الجيش السوداني لحمايتها وتقديم الدعم لها عند تعرضها لأزمات عسكرية في صراعها مع حركات التمرد في دارفور، كما أن جميع مفاصل الدعم السريع الفنية والتقنية تعتمد على ضباط متخصصين تم ندبهم من الجيش السوداني إلى هذه القوات التي يتشكل معظمها من جنود أميين لا يجيدون عادة القراءة والكتابة، والمعروف أن قائد الدعم السريع نفسه لم يتم دراسته الثانوية، وحصل على رتبة فريق أول في صفقة مقايضة مع الرئيس السابق عمر البشير الذي منحه عددًا من الرتب العسكرية مقابل عمل «حميدتي»، وقبيلة الرزيقات في دارفور إلى جانب الجيش السوداني في مكافحة التمرد الذي قامت به حركات العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان بقيادة محمد نور، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، والعشرات من الحركات المتمردة الأخرى.
إذا، قوات الدعم السريع كانت تعمل تحت مظلة وحماية الجيش السوداني، وهو ما يؤكد أنها لن تستطيع الصمود في مواجهته إلا بضعة أيام حتى تنفذ زخيرتها، وينفرط عقدها، وتتحول إلى مجموعات متفرقة في المدن والأقاليم. وكان رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان قد كشف السبت الماضي، أن الجيش السوداني لم يستدعي قواته العسكرية من الوحدات والمقار خارج الخرطوم للقضاء على ما تبقى من قوات الدعم السريع، متمنيًا تسليل هؤلاء الضباط والجنود أنفيهم للجيش قبل استدعاء كافة الأسلحة والجنود للعمليات، ووقوع مجزرة كبيرة بين أفرادهم، كما أن الجيش السوداني يمتلك طائرات مسيرة قام بتصنيعها واستعرضها البرهان وقادته قبل شهر من تمرد «حميدتي»، وكانت هذه رسالة لقوات الدعم السريع لابتكار الجيش طائرات صغيرة قادرة على اختراق المدن والشوارع لملاحقة قوات الدعم في تلك المناطق.
أسباب اندلاع الحرب:
توقعت مبكرًا معظم وسائل الإعلام السودانية والأجنبية، وقوع الصدام بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، وقد انتشرت هذه التوقعات بشكل علني في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي وفي بعض البرامج التلفزيونية، حيث بدأ الخلاف مبكرًا بين «حميدتي»، و«البرهان» منذ توقيع الاتفاق الإطاري في الخامس من ديسمبر 2022، وبينما انحاز قائد الدعم السريع بشكل تام لهذا الاتفاق تمسك الجيش وقائده بتحفظاته على البنود التي تحتكر بها قوى الحرية والتغييرـ المجلس المركزي السلطة، وترفض مشاركة القوى السياسية الأخرى معها في إدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية.
وفجرت ورشة إصلاح القوات المسلحة والأمن والمخابرات في السودان، والتي عقدت بداية هذا الشهر، الصراع بين الطرفين، ووضعت كل منهما في مواجهة الآخر بشكل علني وحاد، وذلك عندما انسحبت قيادات الجيش من الورشة احتجاجًا على ما مثلته من تدخل سافر في الشأن السيادي الذي يمس الأمن القومي السوداني، وقد كشفت الورشة عن خطط ممثلي الاستعمار الجديد في الداخل والخارج، عندما وضعوا خريطة تفصيلية لما يجب أن يكون عليه الجيش السوداني، بل وتحدث ممثلي الدول الأجنبية عن تشكيل جيش جديد بعناصر وعقيدة وتسليح مغاير لما عليه الوضع الآن، وهو ما يعني إنهاء كل وجود للجيش السوداني الحالي والمجيء بعناصر جديدة، وعقيدة جديدة تخدم أهدافهم وتعمل لصالحهم بدلًا من العمل لصالح الدولة السودانية.
وكان من أخطر ما طُرح في الورشة التي انسحبت منها قيادات الجيش، تلك الورقة التي اقترحها الدعم السريع لإصلاح القوات المسلحة، والتي تضمنت إعادة بناء الجيش السوداني وفقًا للتوزيع القَبَلي، بحيث يتم إحصاء كل قبيلة في السودان وتجميد العدد الذي يناسب ثقلها داخل الجيش، وهو ما يعني أن يتحول الجيش السوداني من جيش قومي إلى جيش قبلي مما يجعل تقسيم البلاد إلى دويلات قبلية صغيرة هو الهدف النهائي لهذا المقترح. وقد تمثلت مظاهر الخلاف في الآتي:
1ـ استبعاد حميدتي من التوقيع على مصفوفة سلام الجنوب في العاصمة جوبا، على الرغم من أن ملف سلام جوبا كان في يد حميدتي منذ العام 2020، رغم حضور البرهان وبقية أعضاء مجلس السيادة.
2ـ إعلان حميدتي ندمه على المشاركة فيما أسماه بانقلاب البرهان في 25 أكتوبر 2021.
3ـ تصريحات «حميدتي» الغاضبة، والتي أعلن فيها عدم اعترافه بمجلس سيادة أو غيره، ولكنه فقط يعترف بالتغيير والذي قصد به استبعاد البرهان وقادة الجيش من المشهد العسكري.
4- إصرار حميدتي على التصرف باعتباره جهة مستقلة، وجيش موازٍ، وتجلى ذلك في إرساله ألفين مخيم كمساعدات إغاثة إلى منكوبي الزلزال في تركيا باسم قوات الدعم السريع.
5 ـ اتخاذ ياسر عرمان مستشارًا لحميدتي رغم عدائه العلني للجيش، ومطالباته المتكررة بتفكيكه، واستبعاد قادته بزعم أنهم فلول النظام السابق.
6ـ إصرار حميدتي على لعب أدوارًا سياسية واجتماعية إلى جانب عمله العسكري، حيث تحوُّل منزله في الأشهر الماضية إلى مزار لزعماء القبائل وشيوخ الطرق الصوفية والنشطاء وقيادات الحرية والتغيير.
ويرجع المراقبون أسباب الصدام العسكري بين الطرفين إلى:
1 ـ نص الاتفاق الإطاري على دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وبينما يصر الجيش على أن تتم عملية الدمج خلال عامين فقط، يرى الدعم السريع ومن خلفه فولكر بريتس ممثل الأمم المتحدة، وجون جودفري السفير الأمريكي أن عملية الدعم تحتاج من خمس إلى عشر سنوات. وفي هذا الاتجاه يرى المراقبون أن التدخل الدولي في الأزمة السودانية يستهدف الإبقاء على استغلال الدعم السريع فزَّاعة ضد الجيش السوداني خلال السنوات الخمس المقبلة على الأقل لتحقيق جميع الأهداف الدولية الخاصة بالسيطرة على ثروات السودان، وتغيير التركيبة الاجتماعية والسياسية والثقافة والدينية في البلاد، وهي الطريقة نفسها التي يعمل بها الاستعمار الجديد، حيث يقوم أولاً بتقسيم المجتمع إلى فئات متصارعة، ومن ثم خلق ميليشيات تابعة له لتنفيذ أهدافه في البلاد.
2 ـ أصر قادة الجيش على إيقاف عمليات التجنيد التي كان يقوم بها الدعم السريع منذ التوقيع وحتى نهاية عملية الدمج بنهاية الفترة الانتقالية، إضافة إلى توحيد قيادة الدعم السريع ووضعها تحت رئاسة هيئة أركان الجيش السوداني، بينما أصر الدعم السريع وحلفاؤه على نقل تبعية الدعم في الفترة الانتقالية إلى رئيس الوزراء القادم، والذي كان من المقرر أن تختاره قوى الحرية والتغيير المدعومة دوليًا، وهو ما يعني إبقاء هذه القوات خارج سيطرة القوات المسلحة، وتتبع بشكل مباشر تعليمات رئيس الوزراء المختار من تحالف قوى الحرية والتغيير والسفراء الأجانب في البلاد.
3ـ محاولات حميدتي تشكيل تحالف إقليمي ودولي بمعزل عن الدولة السودانية للضغط على الجيش أحد الأسباب الرئيسية لنشوب الصراع بين الطرفين، حيث يتحرك حميدتي مع روسيا وإسرائيل والإمارات وأمريكا بشكل منفرد بعيدًا عن مجلس السيادة برئاسة البرهان. ونزع حميدتي مبطرًا إلى التصرف باعتباره حاكمًا منفردًا للسودان، عندما تحرك بمعزل عن مجلس السيادة في التعاون مع قوات فاجنر الروسية العاملة في دولة إفريقيا الوسطى، وتجاوز تقاليد السياسة السودانية بفتح علاقات سرية مع الكيان الإسرائيلية حيث كشفت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية عن إمداد قوات الدعم السريع بصفقة تقنيات إسرائيلية حديثة تُستخدم في التجسس على النشطاء، والتي نقلت من مطار الخرطوم، إلى مقر سري لقوات الدعم السريع في دارفور. وتوسع حميدتي في ادواره السياسة الموازية في التعاون مع أمريكا والاتحاد الأوروبي في مجالات مكافحة تهريب البشر والتصدي للإرهاب على المناطق الحدودية.
مستقبل الصراع:
ووفقًا لموازين القوى التي تميل بشكل مطلق لصالح الجيش السوداني، فإن النصر سيكون حتمًا لصالح القوات المسلحة السودانية، خاصة وإن قوات الدعم تشكيلها الأساسي يعتمد على أساس قبلي من ناحية، كما أن التيار السياسي الداعم لها، وهو قوى الحرية والتغييرـ المجلس المركزي، ليس له حضورًا شعبياً، أو اجتماعيًا أو قبليًا داخل البلاد، ويضاف إلى كل ذلك أن «حميدتي» الذي عمل بقواته طوال السنوات الماضية في الدفاع عن الدولة المركزية في الخرطوم، في مواجهة حركات التمرد في دارفور، انحاز بشكل مطلق لاختيارات السفراء الأجانب في العاصمة، وهو ما سحب منه التعاطف الشعبي الذي كان يحظى به عندما يقاتل التمرد في الغرب، ولا يستطيع حميدتي الحصول على إمدادات عسكرية من الخارج للاستمرار في الحرب لمدة طويلة، باعتباره مليشيا خارجة عن الدولة، وهو ما تيقن له مبكرًا عبدالفتاح البرهان عندما أعلن في ساعات السبت الأولى أن قوات الدعم السريع أصبحت قوات تمرد، وأصدر قرارًا بحلها واعتبار كل من يحمل السلاح خارج الجيش، هو متمرد يقع تحت طائلة القانون ويجب ملاحقته عسكريًا وشعبيًا، ولكن يبقى احتمال أخير أن حميدتي الذي ينتمي إلى قبيلة الرزيقات العربية والممتد وجودها على طول إقليم دارفور يمكن أن يقود هو أو بعض أقاربه عمليات تمرد جديدة ضد الدولة السودانية محتميًا بالحدود الطويلة وبالعلاقات مع القبائل الأخرى في دول مثل أفريقا الوسطى وتشاد وغيرها.