ماذا يحدث في السودان بعد ٥٦ يومًا من الاشتباكات؟
يبدو أن السودان قد بدأ المعركة الكبرى التي حاول الهروب منها منذ استقلاله في يناير 1956 وحتى الآن.
والسودان الذي حاول الهروب من أزماته الأهلية والقبلية المتعددة والممتدة على كافة أطرافه ومكوناته التي تزيد على 500 قبيلة يدخل اليوم حروبًا قبلية متعددة، كانت متوقعة منذ ما قبل الاستقلال، ولكنها عادت اليوم أمرًا واقعًا يهدد بتمزيق السودان وتشظيه إلى دويلات صغيرة ستكون حتمًا تابعة لدول إقليمية ودول كبرى تكون من مصلحتها إشعال حروب دائمة بين تلك الكيانات المصنوعة التي سيطلق عليها دولًا بمجرد أنها تنصب علمًا وتنصب زعيمًا.
ومع تعدد الجبهات الداخلية والإقليمية والدولية تصبح مهمة البرهان والدولة المركزية أمرًا بالغ الصعوبة لأن الاستعمار القديم كان دولة واحدة هو بريطانيا أو فرنسا ولكن استعمال اليوم تحشد له الولايات المتحدة الأمريكية تحالفًا دوليًا يضم جميع الدول الأوروبية، وأعضاء حلف الناتو، ودولًا إقليمية أخرى حتى أصبح على دولة مثل السودان أن تواجه هذا التحالف الذي يصل إلى أكثر من 40 دولة إضافة إلى الأمم المتحدة التي اختطفتها الدول الكبرى وتسخرها لمصالحها.
وفي التفاصيل، تكشف الحرب الدائرة الآن في الخرطوم وفي جنوب كردفان، وفي غرب دارفور، وفي أروقة الأمم المتحدة، وفي واشنطن، ولندن، وباريس، عن هول ما يواجهه السودان، وما ينتظر تلك البلاد من تدمير لبقايا الدولة، وتقسيم لبقايا المقسم.
الخرطوم:
في الخرطوم لا يواجه الجيش السوداني حركة التمرد بقيادة حميدتي فقط، ولكنه اكتشف حجم الأسلحة والتقنيات الحديثة التي زود بها الغرب تلك الحركة المتمرة بقيادة حميدتي وسلحه بها منذ اندلاع ما يسمى بثورة أبريل 2019، واكتشف أنه تعرض لأكبر عملية خداع في تاريخ المنطقة عندما اختطف الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية قوات الدعم السريع وهي الجيش الثاني في السودان، وقام بتوظيفها ضد الجيش والدولة السودانية، وتم خلال مرحلة الاختطاف رفع عدد القوات من 20 ألف إلى 120 ألف، وتدريب جنود الدعم على عمليات القنص، واستخدام التقنيات الحديثة بدلًا من تلك العربات التقليدية التي تحمل مدافع من أطرزة قديمة جدًا، ولا يمكنها مواجهة الطائرات المقاتلة أو المسيرة التي يتسلح بها الجيش.
وإمعانًا في تنفيذ خطة الخداع تم جلب هذه القوات إلى داخل الخرطوم وتسليمها المقرات العسكرية والقصور الرئاسية، ومقار القيادة، ومباني الإذاعة والتلفزيون، ومطار الخرطوم، وكل القواعد العسكرية داخل الخرطوم وفي محيطها، وكانت التبرير المعلن هو حماية تلك المؤسسات من أعمال الفوضى والشغب التي يقوم بها المتظاهرون والنشطاء التابعون لأمريكا وحلفاءها.
كما نجحت عملية الاختطاف في تأسيس جهاز استخباري مستقل تمامًا عن جميع الأجهزة الأمنية والعسكرية في البلاد، وهو يتشكل فقط من النشطاء وقيادات وأعضاء منظمات المجتمع المدني الذين تحولت منازلهم أيضًا إلى مخازن لتلك الأسلحة.
وعندما قرر الغرب ومعه الدعم السريع الانقلاب على الجيش السوداني اكتشف الجيش أنه يواجه كل هذه الخدع والشراك منفردًا ودون سند، ولكن أضيف إلى كل ذلك أيضًا دولًا إقليمية ظلت تخادع الجيش والدولة السودانية بمساندتها، ولكنها كانت تقوم بتمويل كل تلك التصرفات وأعلنت صراحة وقوفها مع التمرد، ومع تفتيت الدولة وتوزيعها على الكبار.
ولأن العاصمة السودانية الخرطوم ليست مثل عواصم الدول فهي مركز اتخاذ القرار الشكل الوحيد الذي كان يجسد فكرة الدولة في البلاد، كما أنها تجمع كل عقول وخبرات ومثقفي الدولة، ومؤسساتها العلمية والبحثية، وأكثر من 90 % من مصانعها المدنية والعسكرية والحرفية والمهنية، وهي أيضًا تضم قرابة 8 مليون سوداني وهو ما يقترب من خمس سكان السودان، فقد ركزت خطة الخداع الكبرى على الاستيلاء عليها باعتبار أن من يستولى على الخرطوم يبسط سيطرته على كل السودان، ومن هنا يمكن تفسير استمرار هذه المعارك الشرسة للسيطرة على العاصمة أو تدميرها بشكل كامل.
ووفقًا لكل التقارير الدولية والإقليمية والمحلية فقد أشرفت العاصمة المثلثة على أن تتحول إلى أكوام من الأتربة والحجارة بعد أن دمر وبشكل موثق ومنظم معظم مؤسساتها الصحية والتعليمية والصناعية، ومقارها السكنية ومؤسساتها.
دارفور ثغرة أخرى:
ومع محاولات الجيش السوداني المستميتة لاستعادة العاصمة والسيطرة عليها، وفي خطوة لم يكن يتوقعها أحد، قامت قوات التمرد بفتح جبهة ثانية في دارفور، وخاصة في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، حيث اشتد الصراع مما أدى إلى مقتل ما يقرب من ألف مواطن، وتجاوز عدد المصابين والجرحى الألفي حالة، حيث تقود حركة التمرد عمليات تطهير عرقي ضد القبائل ذات الأصول الإفريقية بالمدينة، وخاصة المنتمين لقبيلة النوبة.
وفي صورة مذهلة لبشاعة ما يحدث في الجنينة، أفادت تقارير صادرة عن حركة العدل والمساواة مدعومة بأخرى دولية وفاة جميع مرضى غسيل الكلى بعد خروج جميع المستشفيات والمراكز الصحية عن الخدمة، إضافة إلى عدم توافر أسطوانات الأوكسجين والدم والمحاليل الوريدية والمضادات الحيوية، ما يعرّض كذلك حياة جرحى الحرب للخطر.
وفي دارفور لم تقع الحرب الشاملة حتى الآن، حيث تسيطر حركة تحرير السودان بزعامة محمد عبدالواحد نور على جبال مرة وما حولها، كما تنتظر جيوش حركات التمرد السابقة في مناطق نفوذها خاصة حركتي العدل والمساواة بزعامة وزير المالية جبريل إبراهيم، وحركة جيش تحرير السودان بزعامة حاكم دارفور مني أركو مناوي، إضافة إلى أكثر من عشر فصائل مسلحة أخرى جميعها دخلت في صراعات عسكرية وثأرية مع قوات الدعم السريع منذ العام 2003 وحتى العام 2020، وإذا ما انطلقت شرارة الحري الأهلية في إقليم دارفور الذي يبلغ عدد سكانه خمس سكان السودان، فإن تقسيم هذه الولاية إلى دويلتين عربيتين إحداها بزعامة حميدتي قائد قوات الدعم السريع المتمردة، والأخرى بزعامة موسى هلال قائد قبيلة المحاميد العربية، ودويلات إفريقية إحداها بزعامة أركو مناوي الحاكم الحالي لإقليم دارفور ورئيس حركة جيش تحرير السودان، والثانية بزعامة جبريل إبراهيم وزير المالية الحالي ورئيس حركة العدل والمساواة، ودويلة ثالثة بزعامة محمد عبدالواحد نور رئيس حركة تحرير السودان الذي يسيطر الآن على مناطق جبال مرة وما حولها.
معركة الجنوب:
وفي أقصى جنوب السودان، حيث تنقسم الحركة الشعبية شمال إلى ثلاث حركات، الأولى بزعامة عبدالعزيز الحلو الذي يستطر على مساحات كبيرة من ولاية جنوب كردفان ورفض الدخول في حوار مع أي من الحكومات السودانية السابقة، والثانية بزعامة مالك عقار الذي وقع مع حكومة السودان اتفاق سلام ويتولى الآن موقع نائب رئيس مجلس السيادة، والثالثة بزعامة ياسر عرمان الموالي والمستشار لزعيم التمرد حميدتي، كل هذه الحركات المسلحة يتم تنشيطها لاقتسام ولايتي جنوب كردوفان والنيل الأزرق.
ووفقًا لمخطط التقسيم والتشظي تحركت نهاية الأسبوع الماضي قوات الحركة الشعبية شمال بزعامة عبدالعزيز الحلو لاحتلال سبعة مواقع عسكرية للجيش السوداني، وبسطت نفوذها عليها، حيث تحركت قواتها من منطقة البرام بولاية جنوب كردفان على نحو 40 كيلومترا من عاصمة الولاية كادوجلي، وهاجمت الجيش في 4 مناطق وهي دلوكا وكلولو والأحيمر وأم شعران، واستولت قوات الحركة الشعبية على معدات عسكرية وأسرت أفرادا من الجيش، وهي تهدد الآن بالاستيلاء على مدينة كادجولي عاصمة الإقليم، ويحدث ذلك على الرغم من توقيع اتفاق وقف إطلاق نار بين الجيش السوداني وتلك الحركة منذ العام 2019 بعد اندلاع الثورة على الرئيس البشير، وهو ما يشير إلى أن حركة عبدالعزيز الحلو تستغل انشغال الجيش بمعركته مع الدعم السريع لاحتلال الولاية وإعلان دويلتها عليها، وإن كانت مطامع عبدالعزيز الحلو تمتد إلى ولاية النيل الأزرق التي تسيطر عليها قوات مالك عقار، فإن حربًا منتظرة بين القوتين والزعامتين يمكن أن تؤدي إلى تقسيم الجنوب إلى دويلة باسم جبال النوبة يتزعمها عبدالعزيز الحلو، وأخرى بإسم مالك عقار برئاسة هذا الأخير.
الجبهة الدولية:
تحرك واشنطن وحلفاءها يبدو متسقًا تمامًا مع سيطرتها على منظمتها الدولية الأمم المتحدة التي باتت تلعب أدوارًا سياسيًا لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وكأنها منظمة أمريكية وليست منظمة تعمل لجميع دول العالم. وليس من المصادفة أن يصدر عن الأمم المتحدة تصريحًا يكشف عن تغولها على سيادة السودان يوزايه تصريح آخر يصدر في نفس اليوم تقريبًا عن وزير خارجية أمريكيا حول مراقبة السودان والاعتداء على سيادتها، حيث أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن عن إطلاق منصة مراقبة عن بعد تتبع مرصد نزاع السودان المدعوم أميركيا، وقال في تغريدة إن دور المرصد يتمثل بإصدار تقارير عن انتهاكات القانون الإنساني الدولي وغيرها، وأضاف أن الوقت قد حان لإنهاء “دوامة العنف” التي تدمر الشعب السوداني. ويكمل مرصد التجسس الجديد الدور الأمريكي على الأرض الداعم لقوات التمرد وخطة التقسيم.
وفي اتجاه مساند، رفضت الأمم المتحدة اعتبار مبعوثها فولكر بريتس شخص غير مرغوب فيه واستبداله بآخر بناء على طلب الحكومة السودانية، حيث ينسب لهذا المبعوث الدور الرئيسي في تخريب الحياة السياسية في البلاد والوقوف وراء عملية التمرد التي أدخلت السودان في حرب مدمرة منذ العاشر من أبريل الماضي، وزعم ستيفان دوجاريك المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة أن القاعدة الدبلوماسية التي تمنح الدول حق الاعتراض على الدبلوماسيين واعتبارهم أشخاصًا غير مرغوب فيهم لا تخص فولكر بريتس، وهو تفسير شديد المغالطة ويخالف كل اليوابق الدبلوماسية التي تمنح السيادة للدولة في اختيار عمل الدبلوماسيين الأجانب على أراضيها أو رفضهم.
وكانت الخارجية السودانية أعلنت في وقت سابق أن الحكومة أخطرت الأمين العام بإعلان بيرتس “شخصا غير مرغوب فيه”. وأتى ذلك بعد طلب قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان أواخر مايو الماضي من جوتيريش استبدال بيرتس على خلفية اتهام الأخير بتأجيج النزاع.
وجاء القرار السوداني بعد ساعات من عقد المبعوث الأممي اجتماعات في أديس أبابا مع مسؤولين في الاتحاد الأفريقي ومنظمة إيجاد، كما شارك في جلسة إحاطة دبلوماسية استضافتها بعثة المملكة المتحدة في اثيوبيا لمناقشة الأوضاع في السودان.، مما مثل تحديًا سافرًا لسيادة الدولة السودانية التي تريد الأمم المتحدة أن تدير مستقبلها السياسي من خلال دول الجوار، ومن خلال مبعوث غير مرغوب فيه.
وكان رئيس مجلس السيادة القائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان اتهم فولكر بيرتس بعدم الحياد وبعث خطابا الشهر الماضي لأمين عام الأمم المتحدة انطونيو جويتريش طالبه بتبديل مبعوثه “للحفاظ على العلاقة التي تربط المؤسسة الدولية بالسودان”. وقال البرهان ان فولكر “منح انطباعا سالبا عن حيادية الأمم المتحدة واحترامها لسيادة الدول، وكان سلوكه يتسم بنسج التعقيدات وإثارة الخلافات بين القوى السياسية”.
ويبقى أن السودان يواجه ألعابًا متعددة للسيطرة على مقدراته منها؛ لعبة الهدن القتالية بين الجيش وقوات التمرد، وهي تستهدف إطالة أمد الحرب من ناحية، وعدم منح القوات المسلحة فرصة الانتصار على التمرد، وإيجاد زمنًا كافيًا لإمداد هذه القوات بتقنيات ومعلومات استخبارية، وصورًا للأقمار الصناعية من ناحية ثانية.
ويرى المراقبون أن السودان دخل حرب التحرير الأولى والحقيقية ضد قوى الاستعمار الجديد، ولكنها حربًا شاملة ربما يدفع فيها الكثير من الدماء والمقدرات وإن كانت إرادة الشعوب لا تعرف المستحيل.