إلى أين تتجه عدوى الاحتجاجات في أوروبا؟

لم تقتصر تداعيات الحرب الأوكرانية على طرفي الحرب فقط، ولا على العلاقات السياسية الأوروبية بطرفي الحرب أيضا، بل انتقلت تأثيراتها السلبية إلى الداخل الأوروبي نفسه؛ حيث اجتاحت القارة الأوروبية العديد من الاحتجاجات الشعبية والإضرابات العمالية التي أثرت بشكل كبير على سير الحياة اليومية، وبالتالي على المؤشرات الاقتصادية في الداخل، وذلك نتيجة للأزمة الاقتصادية التي خلقتها الحرب بشكل عام.

وفي هذا الإطار، يناقش هذا التحليل الاضطرابات الداخلية التي واجهتها كبرى دول القارة الأوروبية، ومدى إمكانية تسربها إلى غيرها من الدول، وما الذي تعنيه تلك الأحداث، وتأثيرها في تلك الدول؟

اضطرابات داخلية:

احتجاجات أقصى اليمين في بريطانيا تجتذب أعدادا هي الأضخم منذ الثلاثينات | اندبندنت عربية

خلال الأشهر الأخيرة، اجتاحت القارة الأوروبية موجة من الاحتجاجات المتتالية في دول مختلفة.  ففي بريطانيا على سبيل المثال، تواترت الاحتجاجات  اعتراضا على نقص بعض السلع الغذائية وارتفاع أسعار الطاقة والكهرباء، كذلك ارتفاع مستويات التضخم، فضلا عن إضرابات العمال المتكررة ومطالبتهم للحكومة بزيادة الرواتب. فعلى سبيل المثال شهدت بريطانيا أكبر إضراب بالقطاع الصحي منذ تأسيسه قبل 75 عاما، مطالبين بزيادة الأجور لمواجهة أسوأ تضخم تشهده بريطانيا منذ 40 عام، وهو ما ترفضه الحكومة معتبرة إياها سيؤدي إلى موجات إضافية من ارتفاع الأسعار، إلى جانب العديد من الإضرابات في القطاعات الأخرى مثل السكك الحديدية والمدارس والبريد واتحاد الممرضات وعمال نظافة اعتراضا على سياسة الأجور. لدرجة أن رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك أعلن عزمه الاستعانة بالجيش أيضا ليحل محل العمال المضربين  بالقطاعات الحيوية.

وفي فرنسا، شهدت الفترة الأخيرة جملة من الاحتجاجات والاضرابات التي أثرت بشكل كبير على سير الحياة اليومية من ناحية، والتعاملات الخارجية من ناحية، فإضراب عمال النقل مثلا أثر على الرحلات والتبادل التجاري مع بريطانيا. وذلك للمطالبة برفع الحد الأدنى للأجور والعدول عن فكرة رفع سن التقاعد، وغيرها.

ولم تكن ألمانيا بمعزل عن الأحداث في جيرانها، فقد نظمت عدة قطاعات إضرابات احتجاجية أيضا ضد سياسة الأجور، كما حدث في شركات البريد. هذا إلى جانب الوقفات الاحتجاجية التي نظمها الألمان في عدة ولايات اعتراضا على غلاء المعيشة.

كما خرجت مظاهرات كبيرة في التشيك شارك فيها آلاف المواطنين، ووجهت خلالها التهم للحكومة بالتركيز على الشأن الأوكراني دون الالتفات للداخل. وغيرها من الدول الأوروبية مثل إيطاليا ورومانيا، اللاتي شهدت مظاهرات عدة تطلب بعودة استيراد الطاقة الروسية حتى تعود الحياة لما كانت عليه في السابق. كذلك إسبانيا احتجاجات للدفاع عن نظام الصحة العامة الذي يشهد نقص في العمالة والموارد.

محركات داخلية:

فرنسا.. اتساع الاحتجاجات ضد "التقاعد" يهدد بأزمات سياسية | القاهرة الاخبارية

ثمة مجموعة من العوامل التي أسهمت بشكل كبير في احتجاجات المواطنين الأوروبيين، ومن بينها:

محركات اقتصادية: فتردي الأوضاع الاقتصادية يعد أهم الضغوطات التي واجهها المواطن الأوروبي في الفترة الأخيرة، من ارتفاع في معدلات التضخم أو نقص السلع وارتفاع أسعار الطاقة، ناهيك عن عدم إقرار أي زيادات في الأجور مقنعة للمواطنين وتتناسب مع معدلات التضخم العالية.

والأخطر، أن كم الضغوطات الاقتصادية دفعت المواطنين الأوروبيين إلى المطالبة بأكثر من إجراء تحسينات اقتصادية في الداخل، بل وصلت إلى حد إعطاء توجيهات للقادة تخص السياسة الخارجية للدولة  _ وهي مطالبات نادرة إن لم تكن معدومة _ بإنهاء سياسة التبعية إلى واشنطن، معتبرين إياها السبب الرئيس في الأزمة الاقتصادية التي تعيشها القارة العجوز، وفي المقابل العودة استيراد الطاقة الروسية من أجل تخفيف الضغوط عن كاهل المواطن الأوروبي.

حتى أن الأزمة الاقتصادية دفعت مواطني دولة التشيك خلال الاحتجاجات إلى المطالبة بإسقاط الحكومة، باعتبارها فشلت في إدارة الأزمة، كما وجهت انتقادات إلى الاتلاف الحاكم بالتبعية إلى الغرب.

محركات سياسية: فإلى جانب الظروف الاقتصادية الصعبة والتي تعتبر المحرك الأول لهذه الاضطرابات، إلا أن هناك بعض الأحداث السياسية الداخلية والسقطات الحكومية والتي تغاضى عنها الرأي العام في ظل وجود أولويات اقتصادية، حتى طالتها الاحتجاجات في الأخير. ففي فرنسا مثلا، تعددت الاحتجاجات بسبب محاولة الحكومة إقرار قانون جديد لإصلاح نظام التقاعد، الأمر الذي يواجه بإضرابات واحتجاجات ضخمة في باريس.

وفي بريطانيا، هناك اعتراضات حول إدارة حزب المحافظين للأزمات الداخلية المتتالية في بريطانيا منذ الخروج من الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن الحكومات المتعاقبة منذ استقالة جونسون، حتى انتهي المطاف بتولي الحكومة الحالية برئاسة ريشي سوناك، الذي يعتبره أغلب البريطانيين فشل في أداء مهمته، خاصة بعدما رفض زيادة الأجور وأعلن عن نيته إجراء تعديلات على قانون النظام العام في بريطانيا الذي يعطي صلاحيات واسعة للشرطة في مقاومة الاحتجاجات. في حين وجه المحتجون في ألمانيا التهم للحكومة الألمانية بالتبعية إلى الولايات المتحدة، وطالبوا بإنهاء ما وصفوه ب ” الاحتلال الأمريكي ” للبلاد.

تصاعد اليمين المتطرف: فقد أسهم انتشار اليمين المتطرف في أوروبا في دعم الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها دول القارة العجوز احتجاجا على بعض السياسات الحكومية، من خلال تغذية مشاعر السخط لدى المواطنين تجاه الحكومة، خاصة بعدما زاد نفوذ اليمين المتطرف سواء بتوليه قيادة المعارضة في بعض العواصم الأوروبية، أو وصوله إلى سدة الحكم في البعض الآخر، وبالذات ممن يدعمون تحجيم الدعم إلى أوكرانيا واستعادة العلاقات مع روسيا كما كانت قبل الحرب، في ظل وجود أحزاب وشخصيات يمينية تربطها علاقات قوية بالكرملين. وقد اتضحت خطورة اليمين بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في ألمانيا.

تأثيرات محتملة:

كيف تغير السفر من بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي بعد بريكست؟ | اندبندنت عربية

قد تعكس الاحتجاجات الشعبية المتكررة مجموعة من النتائج على المستوى الأوروبي، أهمها:

عدوى الاضطرابات: فتكرار الاحتجاجات في دولة أوروبية قد يشجع على استنساخها في دول أخرى مجاورة؛ فمظاهرات السترات الصفراء في فرنسا شجعت على سبيل المثال المواطنين الفرنسيين على توظيف آلية التظاهر داخل الدولة في مناسبات أخرى، كما هو الوضع الآن في باريس تجاه قانوني التقاعد والهجرة. كما أن تكرار الاحتجاجات في عاصمة مثل باريس ساعد على انتشار الظاهرة في دول أخرى كألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وغيرها، حتى وإن اختلفت في الدوافع والظروف. ففي أسبانيا مثلا خرجت الاحتجاجات للدفاع عن النظام الصحي في مواجهة نقص العمالة والموارد، خاصة وأن أسبانيا دولة لم تنخرط كثيرا في الشأن الأوكراني.

معضلة الاستقرار الداخلي: ظاهرة الاحتجاجات بهذا الشكل، خاصة بعدما طالب بعضها باستقالة الحكومات الموجودة هي ظاهرة نادرة نوعا ما في الأوساط الأوروبية، وبالتالي فإن انتشار الظاهرة خلال الفترة الأخيرة قد ينذر بتكرارها مستقبلا، فإذا واجهت الشعوب أي ضائقة ستلجأ إلى وسيلة الاحتجاج والإضراب وبشكل يعطل سير الحياة اليومية. وبالتالي قد تصبح أزمة الاستقرار على المستوى الداخلي ( سياسيا واقتصاديا ) هي الملمح الرئيس للفترة المقبلة في ظل الصحوة الراهنة للرأي العام الأوروبي.

مضاعفة الاهتمام بالداخل: قد تعيد هذه الأحداث تشكيل أولويات القادة الأوروبيين لكي يضاعفوا الاهتمام بأصوات الجماهير، بل وأكثر من ذي قبل، خاصة بعدما طغى عليهم الاهتمام بملف السياسة الخارجية خلال الأشهر الأخيرة، بل ومنذ بداية الحرب الأوكرانية، سواء فيما يخص العلاقات مع موسكو أو واشنطن، والموقف من الحرب ذاتها، والتنافس على إيجاد بدائل خارجية للطاقة الروسية، بل وسياسة التنافس على زعامة القارة العجوز التي طفت إلى السطح مرة أخرى، في الوقت الذي تهدد وجود القائد نفسه بسبب الاضطرابات والمظاهرات الداخلية المتكررة. ولهذا تحاول ألمانيا إجراء تعديلات في سياسة الأجور، ويحاول ماكرون تقديم تنازلات تخص قانون التقاعد الجديد بعد معارضة الشارع والبرلمان.

تغييرات في النخبة الحاكمة: قد تشهد الفترة المقبلة تغير على مستوى الحكومات الحالية، سواء في صورة استقالات أو إقالات، أو في فرص احتفاظ بعض الحكومات بمناصبها، مثل فرنسا. وبريطانيا بالتحديد، فحزب المحافظين مهدد بشكل كبير في الانتخابات المقبلة، نتيجة لتراكم الغضب السياسي تجاهه من قبل الرأي العام والساسة، منذ فضائح جونسون وأزمة اختيار رئيس الحكومة من بعده حتى رئيس الوزراء الحالي ريشي سوناك الذي لم ينجح في إقناع الجماهير به كرئيس للحكومة.

تأثيرات خارجية: كما وقد تقيد احتجاجات الجماهير التعاملات الأوروبية مع الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة المقبلة، ففي بعض العواصم الأوروبية نددت الاحتجاجات بالتبعية إلى واشنطن، وهو ما حدث في فرنسا وألمانيا، وبالتالي فإن هذه الجزئية قد تأخذها الحكومات الأوروبية على محمل الجد في المستقبل، خاصة وأن الأخيرة قد يكون لديها دوافع سياسية أخرى لذلك.

أضف إلى ذلك، إنه رغم الموقف المناهض لروسيا من قبل الحكومات الأوروبية، ورغم أن المشهد قد يوحي بابتعاد أوروبي نهائي عن روسيا، خاصة بعدما ابتزت الأخيرة الدول الأوروبية بورقة الغاز، إلا أن الاحتجاجات في الشوارع الأوروبية شهدت تعاطفا ملموسا مع روسيا، حيث دعت بعضها لاستعادة التعاملات مع روسيا في مجال الطاقة، للخروج من الضائقة الاقتصادية الراهنة، وبالتالي قد تشجع مثل هذه الاحتجاجات على استعادة العلاقات الأوروبية مع روسيا، خاصة بعد نهاية الحرب الأوكرانية، وليس العكس.

وختاما، فالاحتجاجات قد تستمر لحين وضع نهاية للوضع الاقتصادي المترهل حاليا في غالبية الدول الأوروبية، الذي قد يظل بدوره متضررا حتى تضع الحرب الأوكرانية أوزارها، وبالتالي قد نكون على موعد مع احتجاجات وإضرابات إضافية، بل وأكثر قوة وشراسة.

وردة عبد الرازق

باحثة في الشئون الأوروبية و الأمريكية، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى