كيف تؤثر الحرب الأوكرانية على العلاقات الأوروبية الأمريكية؟
لم تتضح حتى الآن تداعيات الحرب الأوكرانية على تحالف جناحي الأطلنطي ( الولايات المتحدة وأوروبا ) التاريخي، وما إذا كانت ستقود الأزمة في المستقبل _ كما رجح غالبية الساسة والمحللين _ إلى اتجاه دول القارة العجوز نحو الاستقلالية الأوروبية على كافة المستويات عن واشنطن، وذلك بعدما بدا على الإدارة الأمريكية أنها لا تعبأ بمصالح الدول الأوروبية، خاصة فيما يتعلق بملف الغاز. كما لم يتضح بعد ما إذا كانت ستتجه أوروبا نحو تنسيق أكثر مع موسكو.
وتأسيسا على ما تقدم، يحاول هذا التحليل توضيح ما إذا كانت ستقود الأزمة الأوكرانية إلى ابتعاد الدول الأوروبية عن واشنطن، أم أنها ستقود إلى التقارب معها أكثر، ومبررات كلا الاحتمالين، وأيضا تحديد فرص الخيار الروسي في هذا الشأن.
تمرد أوروبي:
قد تكون الدول الأوروبية راغبة بشكل كبير في تحقيق نوع من الاستقلالية عن الولايات المتحدة، سواء على المستوى الاقتصادي والعسكري، وحتى على مستوى المواقف السياسية. خاصة بعدما بدى للقادة الأوروبيين أن واشنطن لم ولن تعمل على دعم أوروبا إلا فيما يعظم من مصالحها هي شخصيا. ففرنسا على سبيل المثال، دعت مرارا إلى ضرورة سعي بروكسل إلى فك الارتباط بواشنطن، خاصة بعد أزمة الغواصات. وألمانيا التي قررت زيادة انفاقها العسكري بعد نشوب الحرب الأوكرانية، في تجاوز صريح لاتفاقيات الحرب العالمية الثانية. وإيطاليا المتوقع منها نفس السياسة خاصة بعد عودة اليمين المتطرف لحكم ألمانيا، وعلاقاته بروسيا التي قد تدفع في ذات المسار أيضا. ناهيك عن المجر المغردة غالبا خلافا للسرب الأوروبي نظرا لارتباطها الوثيق بروسيا، بالذات في ظل حكم أوربان.
وأتت الحرب الأوكرانية ومن المفترض أن تؤجج هذه النزعة لدى القادة الأوروبيين، بعد جهودهم المتواصلة قبل وبعد نشوب الحرب لإيقافها، خلافا لواشنطن التي استمرت في دعم أوكرانيا وحثها على خوض الحرب حتى الآن ولأقصى فترة ممكنة، رغم ما تكبدته الخزينة الأوروبية من خسائر اقتصادية وعسكرية. إلى جانب استمرار الضغط الأمريكي على الدول الأوروبية للاستمرار في إرسال الإمدادات إلى كييف، في ظل الأزمات الاقتصادية التي تعانيها أوروبا.
ناهيك عن الاحتجاجات الشعبية المستمرة في بعض الدول الأوروبية، خاصة فرنسا وألمانيا، احتجاجا على سوء الأوضاع الاقتصادية، والتي تؤرق بدورها القادة الأوروبيين، بالذات وأنها من المرجح لها أن تتجدد مرة أخرى طالما استمرت الأزمة الأوكرانية وبالتالي تداعياتها الاقتصادية. خاصة وأن بعض الاحتجاجات نادت بإنهاء الارتباط مع الولايات المتحدة، بل ووصفته ب ” الاحتلال الأمريكي “، تماما كما حدث في ألمانيا.
وقد تكون زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز إلى باريس في ٢٢ يناير الماضي ما هي إلا حلقة ضمن سلسلة محاولات لتجاوز الخلافات بين برلين وباريس في المجال الاقتصادي والعسكري، ناهيك عن التنافس على زعامة الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا منه، وفي الوقت نفسه محاولة دفع أوروبا لتعلب دورا أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة.
أولويات أوروبية:
رغم تعدد الدوافع التي قد تشجع الدول الأوروبية على السعي لتحقيق نوع من الاستقلالية عن الإرادة الأمريكية، إلا أن هناك مجموعة الأسباب التي قد ترجح عكس ذلك، بل ومن شأنها أن تقوي من العلاقات الأوروبية الأمريكية، حتى وإن كان ذلك على عكس ما يرغب به القادة الأوروبيين أنفسهم. ومن أهمها:
- قد يشير إلى ذلك موافقة ألمانيا على إرسال دبابات ليوبارد ٢ إلى أوكرانيا بعد مماطلة طويلة من قبل برلين، ولكنها رضخت في الأخير نتيجة لضغوط أمريكية، خاصة بعدما أثيرت الشبهات مؤخرا أيضا حول واشنطن في التدبير لمحاولة الانقلاب في ألمانيا. وبناءا على هذا الموقف فإن برلين قد لا تفكر في الوقت الحالي في الابتعاد عن واشنطن كثيرا في ظل الوضع الداخلي المضطرب على مستويات عدة.
- والاستمرار في إرسال الدعم إلى أوكرانيا، خاصة من قبل ألمانيا وفرنسا رغم تذبذب الأوضاع الاقتصادية في الداخل، ورغم أن الدول الأوروبية من أوائل الخاسرين من الحرب واستمرارها، الذي إن وجد مستفيد منه فهو واشنطن، لا يؤشر بأي شكل كان عن نية آنية للدول الأوروبية للسعي نحو فك الارتباط بواشنطن من الناحية العملية.
- حتى أن دوافع القادة الأوروبيين المذكورة للابتعاد عن واشنطن، من شأنها ان تمثل ضغوطا على القادة أنفسهم للاستمرار في علاقات التحالف والوفاق مع الولايات المتحدة، بل وأكثر من ذي قبل، لأن القادة الاوروبيين قد لا يفضلوا المخاطرة في ظل تلك الاضطرابات داخليا وخارجيا بتغيير دفة تحالفاتهم بالابتعاد عن الولايات المتحدة، خاصة وأن ذلك من شأنه أن يكثف من الضغوط الداخلية، لأن واشنطن قد تعمل على تصدير الضغوط وإثارة القلاقل في الدول التي تحاول التحليق خارج السرب الأمريكي.
- ناهيك عن سياسة التنافس على زعامة القارة بين فرنسا وألمانيا، خاصة بعدما بدأت الأخيرة تزيد من انفاقها العسكري وأصبحت ترسل أسلحة لمناطق النزاعات، مما يؤشر إلى أن برلين قد لا تقتصر خلال الفترة المقبلة على تركيز جهودها على الجانب الاقتصادي فقط، بل وقد تطور من قدراتها العسكرية و علاقاتها السياسية داخل وخارج القارة، بما قد يقلص من النفوذ التاريخي الفرنسي داخل القارة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولهذا قد تتطلب سياسة التنافس بين باريس وبرلين تنسيق الجهود أكثر مع واشنطن لقيادة الجهود الأوروبية.
خاصة وأن الحرب الأوكرانية أسهمت بشكل كبير في إظهار الخلافات بين برلين وباريس إلى العلن، حيث يختلف البلدان بشأن استراتيجية وآليات مواجهة التضخم وضبط أسعار الطاقة، وكذلك السياسة الأمنية ومشاريع التسلح والطاقة النووية، وكذلك العقوبات الأوروبية على موسكو. وفقا لصحيفة “تاغسشبيغل” البرلينية.
- كما أن دائرة التنافس على قيادة القطيع تتسع لتشمل بريطانيا أيضا، والتي تسير وفقا للنهج الأمريكي منذ بداية الحرب، رغم تعدد من تولوا منصب رئيس الوزراء البريطاني في الفترة القصيرة الماضية. بداية من جونسون، مرورا بليز تراس، وانتهاء برئيس الوزراء الحالي ريشي سوناك. وهذا أيضا قد يحتم على بقية الدول الأوروبية إرجاء فكرة الاستقلالية عن الولايات المتحدة في الفترة المقبلة.
كما أن التقارب مع روسيا لن يجدي نفعا، فهي من ناحية لن تضاهي الدعم ولا القوة الأمريكية، كما إن ردود أفعالها أصبحت غير متوقعة من ناحية أخرى؛ فموسكو منذ بداية الحرب الأوكرانية وهي تستغل سلاح الغاز لمساومة الدول الأوروبية، حتى وصل الأمر إلى وقف تصديره إلى بعض الدول، مما تسبب في ارتفاع أسعار الطاقة على مستوى العالم، وأوروبا بالتحديد، مما أسهم بدوره في غلاء المعيشة والمزيد من الاضطرابات الاقتصادية والسياسية الداخلية. والأخطر أنه وجهت لروسيا اتهامات بالعبث في الشأن الداخلي لأوروبا، من خلال دعمها لليمين المتطرف في فرنسا وإيطاليا، ناهيك عن اتهامها بالضلوع في محاولة الانقلاب الأخيرة في ألمانيا. ولهذا لا يتوقع أن تتجاوز التعاملات الأوروبية الروسية بوجه عام العلاقات المصلحية القائمة على الحذر أيضا فيما بعد.
وفي الختام، قد يدعم مضاعفة التقارب الأوروبي الأمريكي، هو احتمالية أن تكون هناك رغبة مشتركة بين الجانبين فيما بعد لإنهاء الحرب الأوكرانية. أينعم واشنطن من مصلحتها إطالة أمد الحرب واستنزاف القدرات الروسية، ولكنها قد لا تكون أخذت في حساباتها أن تطول مدة الحرب لعام أو أكثر، أخذنا في الاعتبار تصريحات بوتين الواثقة حول أن مجريات الحرب تسير ” كما هو مخطط لها “.
فرغم استفادتها _ واشنطن _ من استمرار الحرب، ولكن لا شك أن الدعم الأمريكي لأوكرانيا كلف الخزينة الأمريكية كثيرا، سواء على المستوى المالي أو العسكري او حتى قطاع الطاقة. كما أسهم في رفع حجم الدين المحلي، بعدما وصلت الحكومة الأمريكية إلى الحد الأقصى لسقف الاقتراض عند 31.4 تريليون دولار، مما يعكس حجم الأموال التي أنفقتها الحكومة بالفعل، وفقا لتصريحات وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين. بالإضافة إلى الضغوط التي يصدرها الجمهوريون لإدارة بايدن لوقف الدعم لأوكرانيا.
وعليه، لا يسعنا سوى القول أن الأزمة الأوكرانية وسعت الفجوة أكثر بين ما يرغب به كيان الاتحاد الأوروبي وبين ما يحقق مصالح الدول الأوروبية، كل منها على حدى. خاصة وأن أوروبا عمليا ليست جاهزة بعد لأن تكون قوة مستقلة تنافس الولايات المتحدة، بالذات في ظل وجود أولويات داخلية. ومن ناحية أخرى، فإن واشنطن نفسها لن تفرط في الحليف الأوروبي في ظل مواجهتها لروسيا والصين.