أولويات محيرة.. كيف تصارع الصين الموجة الثالثة من متحور «أوميكرون»؟
أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية «هوا تشونينغ» أن الصين تعمل على تحسين سياستها بشأن الوباء؛ لتنسيق بشكل أفضل مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مما يمهد الطريق للانتعاش الاقتصادي. جاء هذا التصريح بعد إعلان الصين فتح جميع حدودها وتخفيف الإجراءات وإلغاء الحجر الصحي والاقتصار على اختبار الحمض النووي السلبي الذي يتم إجراؤه في غضون ٤٨ ساعة قبل المغادرة. كما تم إزالة حدود سعة الركاب على الرحلات الدولية من خلال الزيادات التدريجية في عدد الرحلات والتوزيع المحسن لمسارات الرحلات الجوية.
في الوقت الذي تتربع فيه أخبار الصين الصحف الغربية والعربية وسط وجود تناقضات وعدم فهم للوضع الحالي في الصين الذي يتعلق بالمتغير Omicron BA.5 (ميكرون للفيروس التاجي). فماذا يحدث في الصين؟ وهل هناك تأثير على سلاسل التوريد الطبية؟ وهل أسباب فتح الصين حدودها المفاجئ بالرغم من تزايد أعداد الإصابات والوفيات اليومية، يتعلق بالركود الاقتصادي؟ أم استجابات للإصلاحات السياسية بعد المظاهرات في عدة مدن صينية لم تحدث منذ أحداث تيانمين ١٩٨٩؟.
أولويات محيرة:
تكافح الصين مع أسوأ انتشار لفيروس كورونا بعد أن تخلت فجأة عن استراتيجيتها المتمثلة في عمليات الإغلاق القاسية والحجر الصحي والاختبارات الجماعية. قدر المسؤولون الصينيون أن 250 مليون شخص أصيبوا في غضون 20 يومًا مع انتشار الفيروس في أكبر المناطق السكانية، مثل بكين وشانغهاي ومقاطعة قوانغدونغ الجنوبية وبكين وتشاتيانغ وغيرها من المدن الرئيسية التي شهدت تزايد الاعداد الإصابات والوفيات. تشير التقديرات أيضا ان ما يقرب من ١٩٪ من الشعب الصيني مصاب بالمتغير الجديد.
وفي سياق المتغير Omicron BA.5، أكدت الأبحاث الغربية ولا سيما الأسترالية بان (BA.5) المتغير الجديد او ميكرون للفيروس التاج يمكن أن يغير طريقة مهاجمته لجسم الإنسان – التحول من إصابة أنظمة التنفس إلى استهداف الدماغ بشكل متزايد. حيث اجرت تجارب على الفئران وتباين بانه تسبب في أضرار أكثر خطورة على أدمغة الفئران.
ولكن، خبراء صينيون أطلقوا ملاحظات تحذيرية، مشيرين إلى أن أحد القيود الرئيسية للدراسة كان نموذج الفأر، وربما لا ينطبق على البشر، وهذا ما أكده ايضا خبراء الفيروسات في الولايات المتحدة، بان الكثير من متغيرات اوميكرون لا تزال على الأرجح أقل حدة بشكل عام من الإصدارات السابقة للفيروس. كما دعوا الي ضرورة التعاون مع الصين لمتابعة مستجدات المتغير الجديد لتفادي كوارث الشتاء السابق في الولايات المتحدة. ولا سيما بعض تصريحات رئيس قسم العيون بمستشفى بكين لكبار السن، الثي أكد على انه اعراض الإصابة بالمتغير الجديد مرض التهابُ الملتحمة التحسُّسي لدي كبار السن. وأيضا بعض التصريحات الأخرى التي تتعلق بالطفح الجلدي الذي يسببه المتغير الجديد في الصين.
اعتبرت بكين أن التصريحات الغربية تهدف إلى تهديد الوضع الداخلي في الصين وأيضا التنمية الاقتصادية بعد تغيير الصين سياسة “صفر كوفيد” وأيضا فتح الحدود دون قيود صحية.
أطلقت الصين الحملة الوطنية لتعزيز التطعيم في نوفمبر، حيث أدركت بان “سياسة صفر كوفيد” أدت الي امتناع الكثير وخاصة كبار الصين عن التطعيم او التطعيم مرة، حيث ان معظم سكان الصين حصلوا على جرعة لقاح واحدة على الأقل، لكن 66 ٪ فقط من الأشخاص الذين يبلغون من العمر 80 عامًا أو أكثر تلقوا تطعيمًا كاملاً وما يزيد قليلاً عن 40 ٪ تلقوا حقنة معززة. وتهدف هذه الحملة الي تطعيم ما لا يقل عن 90٪ من الأشخاص الذين يبلغون من العمر 80 عامًا أو أكبر على الأقل بحلول نهاية يناير٢٠٢٣. وفي ديسمبر أيضا أطلقت حملة ” مواجهة الخطر” والتي وضعت الإجراءات الصارمة لتعزيز حملة التطعيم وخاصة لكبار الصين.
سياسات صارمة:
دعى الرئيس الصيني «شي» إلى “صين صحية” من خلال تحسين أنظمة التثقيف الصحي، وتحقيق التحول من التركيز على علاج الأمراض إلى التركيز على الصحة، وممارسة أسلوب حياة متحضر وصحي، وأطلق حملة “العمل الصيني الصحي”. كما دعى خلال المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الصيني بتسريع بناء نظام صحي في الصين، وأكد أن الصين لن نحقق حلم المئوية الثانية بدون “صين صحية”.
وفي ديسمبر أكد أن القيادة ستتخذ إجراءات صارمة لتطبيق عادات النظافة الشخصية الجيدة، وممارسة أسلوب حياة متحضر وصحي، واستخدام الآلاف من البيئات الصغيرة المتحضرة والصحية لبناء خط دفاع اجتماعي قوي للوقاية من الأوبئة ومكافحتها، وهذا يعكس بان المستقبل القريب سيشهد تطويرا في النظام الصحي للصين على كافة المستويات وتعزيز الطرق الصحية في الطعام بعد ان تم التشهير بالنظام الاكل في الصين دوليا مما قوض من القوة الناعمة للصين.
تهديدات حالية:
تحتل الصين الصدارة العالمية في سلاسل التوريد الكيميائية وأجهزة الكمبيوتر والمعدات الكهربائية والصحية. ويختبر الوضع الحالي وإن كان حتى الآن غير مقلق، قدرة البلاد على تلبية الطلبات الخارجية وتهدد مكانتها كمركز التصنيع الأبرز في العالم، الأمر الذي أثار المخاوف من تأثير الوضع الحالي على سلاسل التوريد الطبيه، مع إضعاف القدرة التنافسية للبلاد وتسريع خطط التنويع بين الشركات متعددة الجنسيات.
كان لسياسة “صفر كوفيد” التي أدت إلى اغلاق البلاد ثلاثة أعوام إضرار على الشركات العالمية في الصين، مثل أبل وتسلا وشركات تصنيع السيارات الألمانية وغيرها. كما جعل الدول الأوروبية تعلن بدأ الالتزام باتخاذ إجراءات ملموسة من الحكومة للوفاء بالتزامات الإصلاح والانفتاح للحد من الاعتماد على الصين مع تواتر العلاقات بسبب موقف الصين تجاه الحرب الأوكرانية. وانتقدت المفوضية الأوروبية سياسات الصين غير المستدامة والافتتاح الفوضوي للبلاد وسط تزايد اعداد الإصابات وتراجع الطلبات الخارجية وتوقعات حدوث ركود عالمي العام المقبل، مع بدأ الكثيرون في استكشاف الخيارات في جنوب شرق آسيا أو الهند، حيث تكاليف العمالة الأقل وقيود كوفيد الأقل اضطرابًا.
كما اعتبر الغرب سياسات الصين غير الواضحة والتي لا تليق مع مكانتها في سلاسل التوريد العالمية وخاصة بعد توقفت السلطات الصينية عن نشر التقديرات الرسمية للإصابات والوفيات. بالرغم من تفاؤل الكثير من الشركات العالمية في الصين بعودة الوضع إلى طبيعته في فبراير أو مارس. على الرغم من أبلغ العديد من الصناعات عن انخفاض الإنتاج، جزئيًا بسبب العدوى ولكن أيضًا بسبب موسم الشتاء البطيء. على سبيل المثال، قالت شركة BYD لإنتاج سيارات الطاقة الجديدة الأسبوع الماضي إن إنتاجها في ديسمبر سيكون أقل بنحو 8 ٪ لأن ربع قوتها العاملة مصابة واضطرت إلى البقاء في المنزل. في حين، يواصل صانعو السياسة الصينية التأكيد على حجم السوق الضخم للبلاد وقدرات التصنيع الراسخة لإبقاء المستثمرين الأجانب على المشاركة. وقد بدأت مقاطعة قوانغدونغ الموجهة للتصدير وغيرها حملات لمدة 100 يوم لجذب العمال من المقاطعات الأخرى، وتم تمديد الإعانات لتشجيع العمال على البقاء في مصانعهم خلال عطلة رأس السنة القمرية التي استمرت لمدة أسبوع.
تجسد روح الواقعية والبراغماتية:
رفضت القيادة الصينية استجابة لاقتراح وزير الخارجية الأمريكي بلينكين والمتحدث باسم البيت الأبيض لتزويد الصين بلقاحين من شركة فايرز ومودينا الأمريكية ومودينا التي لها آثار وقائية أفضل من اللقاحات المحلية، على الرغم من إدخال واستخدام عقار باكسلوفيد باهظ الثمن، وهو دواء مضاد للفيروسات Covid-19 من شركة Pfizer.
في الواقع، إدارة استيراد الأدوية المضادة للوباء في الصين مدفوعة بالأيديولوجية السياسية والاقتصادية والامنية، والتي تمثل في إنشاء مساحة سوقية للأدوية المصنوعة محليًا، بالإضافة الي تكلفة المنتج فيماي تعلق بظروف التخزين، إمدادات مستقرة لا تتماشي مع طبيعة العلاقات الصينية الامريكية، والاحتياجات الاجتماعية للصين والتي تتعلق بالقضايا الجغرافيا السياسية والكرامة الوطنية، كقوة عالمية وثاني أكبر اقتصاد، فمن المستحيل على الصين تسليم هيمنة صحة 1.4 مليار شخص وسوق محلي ضخم إلى الولايات المتحدة. بالإضافة الي سبب اخري وهو استراتيجية “التحديث” المتعلقة بالمئوية الثانية للصين التي تتجه نحو التحديث ونجاح التجربة الصينية ذات الخصائص الاشتراكية الصينية مهمة للغاية، فبكين تقلق بشأن عدم المساواة، وإذا دخل اللقاح الأمريكي، الذي يعتبر أكثر فاعلية إلى السوق الصينية فلن يضر فقط بهوية الدولة الكبرى والقومية الصينية ولكن أيضا يتسبب في التدافع والفوضى المتعلقة بالاستراتيجيات الوطنية للصين، وسيصبح الأداة التي تثير الاضطرابات الاجتماعية. أما السبب الذي جعل الصين استيراد كميات من عقار باكسلوفيد للوقاية من الأمراض الشديدة على نطاق واسع، فهو تخفيف ضغط المرض الشديد وذروة الوفيات التي تواجهها بكين وغيرها من الأماكن حاليًا. فبعد تعديل سياسة “صفر كوفيد”، تأمل بكين في السيطرة على الوباء من خلال تشجيع استخدام الأدوية الصينية التقليدية مثل ليانهوا تشينغ وين التي روجت له في الأشهر الاخيرة، وهو علاج عشبي تقليدي مضاد فعال للفيروسات على الرغم من نقص البيانات السريرية. ولكن فشله في السيطرة على حالات الإصابات والوفيات جعل بكين تطلب كميات من عقار باكسلوفيد والتي تم تخصصيه فقط للحالات الحرجة مثل المرضى المصابين بالسرطان في مراحله النهائية والفشل الكلوي وغيرهم وفي المستشفيات الكبرى بينما المناطق الريفية لم يصل اليها نظرًا لانخفاض حجم الواردات، حيث يصل سعر العقار الي 8300 رنمينبي (1200 دولار). لذا تحول الصين التوزان بين عقاراتها المحلية والعقار الأمريكي خوفا من استخدامه كأداة سياسية لقمع الصين او تهديدها داخليا. وهذا يعكس أسباب استيراد باكسلوفيد وعدم استيراد لقاحات فايزر والتي تتعلق بالتقاليد البراغماتية للصينو وهو خيار يقوم على المصالح الوطنية الأساسية والحيوية وشواغل العلاقات الصينية الأمريكية.
باختصار، تقترب الصين من السنة القمرية الجديدة بنهاية شهر يناير مع تسريع انتشار العدوى وارتفاع حالات الإصابات والوفيات بشكل معقول إلى حد ما وليس بمبالغات الغرب والولايات المتحدة، مع التحولات في سياسة “صفر كوفيد” والتي عكست تأكيد القيادة الصينية مرة أخرى على أن النمو الاقتصادي أولوية قصوى في اجتماع اقتصادي رئيسي الأسبوع الماضي، وقالت إن الأمة تدخل مرحلة جديدة من التعايش مع الفيروس مع التركيز على علاج الأمراض الشديدة والوقاية منها.
أكدت بكين أنها ستعطي الأولوية لتحفيز الاستهلاك العام المقبل، مع الحفاظ على بيئة تصدير قوية وحماية وجذب الاستثمارات الأجنبية مع الدعم المالي القوي لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد والتوظيف. سيحدد مجلس الدولة أهداف السياسة الرئيسية في مارس، مع احتمال زيادة عجز الميزانية المالية والمزيد من التحويلات المالية لدعم انتعاش نمو الناتج المحلي الإجمالي. من المتوقع أن تحدد بكين هدفها للنمو الاقتصادي للعام المقبل عند ٧٪.
يحتاج الاقتصاد الصيني إلى اتخاذ إجراءات ملموسة للحفاظ على جاذبية السوق الصينية وتنشيط القطاع الخاص المتضرر الذي تضرر بشدة من جراء القمع على قطاع العقارات وشركات التكنولوجيا الكبرى. ومن المتوقع أن تغرر بكين الفترة القادمة إرسال وفود أعمال إلى الخارج لدعم طلبات التصدير وإعادة بناء سلاسل التوريد بعد ثلاث سنوات من العزلة التي فرضتها سياسة صفر كوفيد.