تعزيز القدرات.. حدود فاعلية تحديث البحرية الصينية

تعمل الصين باستراتيجيات حثيثة لتحويل جيشها إلى جيش بحري يمتلك حاملات طائرات وقوات أشبه بـ”المارينز” الأمريكية، وفرقاطات شبحية، ومدمرات، بعدما ظلت طوال تاريخها أمة تعتمد على القوات البرية. في نفس الوقت، تحاول الصين التعامل مع التحديات المفروضة عليها في بحري الصين الشرقي والجنوبي، خاصة وأن بكين محاطة بحلفاء أمريكيا أو قوى لها مصالح مختلفة مع الولايات المتحدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين, وتايلاند وماليزيا، ولنقاط أبعد إندونيسيا وأستراليا.

تعزيز القدرات
قامت الصين بتدشين طريق بحري، يمر من شنجهاي، عبر الشمال نحو القطب الشمالي، والتي استغلت اتفاقية مع فرنسا منذ العشرينات، للدخول ببعثة عملية وبناء تواجد فعلي للصين. وقامت بشراء حقوق موانئ واستثمارات كبيرة في الدول والمناطق المطلة على القطب المتجمد الشمالي، منها أيسلندا وجرينلاند والسويد وروسيا والدانمارك والنرويج. كما تأهلت كعضو مراقب في دول القطب الشمالي.

وتسير القوات البحرية الصينية جنبًا إلى جنب مع الاستثمارات والناقلات التجارية الصينية، لتغيير قواعد اللعب عالميًا، ولتتحول الصين إلى أمة بحر، تغزو العالم من الشواطئ عبر تطويق البحار من الشمال والجنوب وحتى المتوسط والبحر الأحمر. وهي لحظة لا يمكن أن تحدث إلا عبر السيطرة على تايوان.
إن التغلب على التحديات في كل من بحر الصين الجنوبي والشرقي لابد وأن يمر عبر جزيرة تايوان، حيث تعد السيطرة عليها طريقًا نحو المحيط، ويجعل البحرية الأمريكية في مواجهة مباشرة مع جيش التحرير الشعبي الصيني وأسطوله القوي، علمًا بأن الصين تعتقد أنه يمكن في أي نزاع إغلاق المجال البحري أمامها، وتعطيل حركة التجارة العالمية والتي بدورها تعني كارثة على الإنتاج الصيني، لذلك فإن ضم تايوان، يعني تأمين قاعدة متقدمة عسكريًا للصين لفرض السيطرة على الممرات المائية، بجانب توسيع مياه بعض الجزر الأخرى وتحويلها إلى قواعد عسكرية عبر ردم البحر، مما يغير المعادلة في بحر الصين الجنوبي، وخاصة مع الفلبين التي أرسلت بكين قوات خاصة بها للسيطرة على جزر تابعة لمانيلا وفق القانون الدولي للبحار.

على صعيد آخر، لم تعزز الصين الحجم الذي يستوعب استقبال الحمولة الخام فحسب، بل زادت أيضًا بشكل كبير من عدد خلايا نظام الإطلاق الرأسي التي يمكنها نشرها، وهي وسيلة لإطلاق صواريخ مختلفة: مضادة للسفن، مضادة للجو، وهجوم بري. وتجدر الإشارة إلى أنه كلما زاد عدد خلايا النظام الرأسي التي يمتلكها الأسطول، زادت قوة النيران التي يمارسها. وتحقيقًا لهذه الغاية، قامت الصين بنشر مجموعة من الطرادات والمدمرات والفرقاطات في وقت أصبحت فيه قدرة البحرية الأمريكية على إعادة رسملة هذه الأصول نفسها موضع شك. كما زودتها الصين بصاروخ كروز مضاد للسفن عالي القدرة، والذي يتفوق بشكل كبير على نظيره الأمريكي الرئيسي.

إن امتلاك الصين لحاملات طائرات أصبح علامة على صعودها إلى مكانة القوة العظمى. ومع ذلك، ما تزال لا تعادل نظيراتها الأمريكية، لأن حاملتي الطائرات الصينية -لياونينج وشاندونج- هي مشتقات من تصميم سوفيتي عمره 40 عامًا. على عكس شركات الأمريكية، فهي تعمل بالطاقة التقليدية (وليس النووية) ولا تمتلك تقنية الضغط البخاري المتقدمة. كما أن حاملات الطائرات الصينية أصغر حجمًا ووضعت في البحر بجناح جوي أكثر تواضعًا من نظيراتها الأمريكية – من 30 إلى 40 طائرة (ذات أجنحة ثابتة ومروحيات) مقابل أكثر من 60 طائرة في الولايات المتحدة.
ولحماية حقوق ومصالح الصين البحرية، حظيت الإدارة البحرية وإنفاذ القانون باهتمام خاص في تطوير القوة البحرية في الصين. ويعتقد العلماء الصينيون أن الدولة يجب أن تنشئ ولاية قانونية وشرعية على المساحات أو الأراضي البحرية المطالب بها لممارسة حقوقها البحرية والانخراط في الأنشطة الاقتصادية في البحر. وكما يؤكد مدير إدارة المحيطات السابق للدولة، ليو سيجوي، فإن “الإدارة الشاملة والسيطرة على المحيط تشكل دعمًا مهمًا لبناء القوة البحرية”.

وتركز استراتيجية بكين على الجوانب الإدارية والقانونية للدفاع عن مطالباتها البحرية كقوة بحرية. وعلى مدى العقد الماضي، خضع مجلس الدولة لإعادة هيكلة تنظيمية للوكالات البحرية الوطنية، في عامي 2013 و2018. والجدير بالذكر أن خفر السواحل الصيني أعيد تنظيمه ووضعه تحت قيادة الشرطة المسلحة الشعبية، تحت إشراف اللجنة العسكرية المركزية.

بالإضافة إلى ذلك، نقحت التشريعات واللوائح الإدارية المحلية المتعلقة بالبحرية لزيادة شرعية ولايتها القضائية البحرية. وقد تم تشجيع الأكاديميين والمحامين والبيروقراطيين على دراسة وتطوير تفسير الصين للقانون البحري والدولي بما يخدم المصالح الوطنية للبلاد. ففي الفترة ما بين عامي 1984 و2021، نشرت المجلات القانونية والسياسية الصينية حوالي 3863 مقالاً تناقش الحاجة إلى “حماية الحقوق والمصالح البحرية”. وعلى المستوى الوطني، قدم مجلس الدولة أو عدل ما لا يقل عن 10 قوانين أو لوائح متعلقة بالبحرية، مثل قانون خفر السواحل وقانون سلامة المرور البحري، بين عامي 2013 و2021. ومن الواضح أن بعض القوانين خضعت لتعديلات متعددة في فترة زمنية قصيرة، مما يشير إلى النهج الاستباقي للحكومة في تحسين إطارها القانوني البحري. كما كانت هناك دعوة لقانون أساسي بحري، وهو الهدف المذكور في كل من الخطة الخمسية الثالثة عشر والرابعة عشر، على الرغم من أن التشريع الفعلي لم يتم الانتهاء منه بعد.

وعلاوة على ذلك، نمت وكالات إنفاذ القانون البحري في القدرة والمسؤولية. ارتفع عدد مقاتلي الدوريات الساحلية من وكالات خفر السواحل الصيني من حوالي 156 إلى 524 بين عامي 2012 _2020. إن الزيادة في القدرات ليست كمية فحسب بل نوعية؛ حيث تدير خفر السواحل الصيني الآن سفن إزاحة كبيرة يصل وزنها إلى 12000 طن، بما في ذلك الفرقاطات البحرية المجددة. وقد مكنت هذه السفن خفر السواحل الصيني والوكالات الأخرى من إجراء مهام “إنفاذ قانون حماية الحقوق” في بحر الصين الجنوبي. كما أصبح خفر السواحل الصيني أحد أكبر خفر السواحل وأفضلها تجهيزًا في العالم وأحد القلائل جدًا الذين يتمتعون بقدرات شبه عسكرية يمكنها التنافس مع القوات البحرية الأصغر في جنوب شرق آسيا. وقد توسع نطاق عملياته للدفاع عن الحقوق البحرية التي تطالب بها الصين.

قامت مراقبة البحرية الصينية وخفر السواحل الصيني من عام 2013 إلى عام 2020، بدوريات في بحر الصين الشرقي بالقرب من جزر سينكاكو/دياويو بمعدل 29 مرة في السنة. ومنذ عام 2019، زاد خفر السواحل الصيني أيضًا من مهام إنفاذ القانون حول الأراضي البحرية المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، مثل جزر سكاربورو وجزر توماس الثانية. بالإضافة إلى ذلك، وباعتبارها “القوة البحرية الثالثة” للصين، تلعب الميليشيات البحرية دورًا مهمًا في تطوير قدرة الصين على إنفاذ القانون البحري. وتضم ميليشيا البحرية التابعة للقوات المسلحة الشعبية (PAFMM) عمال الصناعة البحرية والمدنيين، وخاصة أولئك الذين يشاركون في صيد الأسماك في عرض البحر، ويتم تنظيمها وتدريبها من قبل البحرية التابعة لجيش التحرير الشعبي (PLAN). وكجزء من تأكيد الصين على السيادة البحرية، تقوم سفن الميليشيات الصينية في بحر الصين الجنوبي بمضايقة قوارب الصيد الأجنبية وسفن استغلال الموارد. ومن الواضح أن الإدارة البحرية وإنفاذ القانون تلعبان تدريجياً دوراً أكثر أهمية في بناء القوة البحرية للصين.

في المقابل ورغم هذه الاختلافات، تعاني الولايات المتحدة اليوم من عجز حاد في التفكير الاستراتيجي حول التحدي الأكثر أهمية في العصر الحالي: صعود الصين والتهديد الذي تشكله على المصالح الأمريكية في غرب المحيط الهادئ وخارجه. وبشكل عام تهدف الاستراتيجية الأمريكية إلى التأثير على حسابات صنع القرار لدى الخصم. وتسعى الاستراتيجية البحرية تجاه الصين إلى معالجة العناصر الأربعة للسلوك الصيني التي تشكل مصدر قلق كبير للولايات المتحدة وحلفائها؛ على النحو التالي:
الأول، ينطوي على مواجهة نهج الحزب الشيوعي الصيني في الشؤون الخارجية، والذي غالبًا ما يكون مدمرًا للمصالح الأمريكية. ومن البديهي أن يولي القادة السياسيين في أي بلد اهتمامًا أكبر للمسائل الداخلية من الاهتمام بالشؤون الدولية. ومع ذلك، أصبحت الصين في السنوات الأخيرة نشطة بشكل متزايد على الساحة الدولية. لقد مارست ثقلها ليس فقط في جوارها، ولكن أيضًا في المناطق البعيدة عن القارة الآسيوية، بما في ذلك الخليج العربي وإفريقيا.
الثاني، مواجهة العامل الجيوسياسي للصين. في حين أن جيش التحرير الشعبي الصيني ركز لفترة طويلة على القارة الآسيوية، فقد تبنى في العقود الأخيرة بشكل متزايد توجهًا بحريًا، بهدف إلغاء القوة الأمريكية التقليدية المتمثلة في إبراز القوة العسكرية من بعيد. وبالتالي فإن تراكم قوات بحرية جيش التحرير الشعبي الصيني والقوات الجوية يمثل تحديًا كبيرًا لأي استراتيجية امريكية.

الثالث، كيفية مواجهة الإجراءات التي استطاعت من خلالها الحكومة الصينية أن تشن هجمات إلكترونية ضد البنية التحتية المدنية الحيوية، والضغط على الشركات الأجنبية لتجاهل القمع السياسي، وسرقة الملكية الفكرية، واستخدام شبكات الفساد لتقويض الحكومات.
الرابع، كيفية تعامل الاستراتيجية الأمريكية مع حكومة الصين المختلفة معها في القيم السياسية (وفق الرؤية الامريكية).

وختامًا، تعمل الحكومة الصينية على توسيع أسطولها البحري بسرعة لتحقيق هدف التحول إلى “دولة بحرية قوية”. ويؤكد قادة الحكومة الصينية أن الدولة البحرية الصينية القوية لا تشبه القوى البحرية التاريخية، وأن التوسع البحري يهدف إلى “الدعم الاستراتيجي” لبناء القوة البحرية. ولقد مرت الاستراتيجية الامريكية لإدارة المواجهة مع الصين بثلاث مراحل رئيسية، لعل أهمها مرحلة الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، والتصور الامريكي باحتواء الصين على نحو يغير من قيمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلى نحو يتماهى مع القيم الغربية الأمريكية. إلا أن هذه الاستراتيجيات جميعها قد منيت بالفشل ولم تستطع أي منها أن توقف التمدد والنمو الصيني. وعلى الرغم من أن الصين لم تعد تلك التي تمتلك نهجًا أيديولوجيًا تحاول فرضه على حلفائها أو التمدد عبر تلك الأيديولوجية. وعلى الرغم من نهجها لبعض قيم الرأسمالية وآليات السوق الحر. وعلى الرغم من استضافتها لعدد كبير من شركات التكنولوجيا الامريكية، إلا أن كل هذا لم يشفع لها تجاه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين، حيث يرون الصين تحديًا كبيرًا قائمًا، وربما تهديد محتمل. لذلك فإن المواجهة التي قامت مع روسيا الاتحادية ليست مستبعدة مع الصين والتي يتم استفزازها عبر تايوان والتي تصر بكين على ضمها إن آجلًا أو عاجلًا.
ومع استفادة الصين القصوى من التكنولوجيا والتي قامت بعملية حرق مراحل، واختزال فترات زمنية كبيرة بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن أي تحرك صيني تجاه تايوان لتأمين ممراتها البحرية سيعتمد على نتائج حرب روسيا الاتحادية على أوكرانيا، وتحركات الغرب والولايات المتحدة الأمريكية تجاه تلك النتائج، والآثار المحتملة على الاقتصاديات الغربية وعلى الولايات المتحدة نتيجة هذه الحرب واستمرارها، ودرجة الاستفزاز السياسي والعسكري من جانب الولايات المتحدة تجاه الصين بخصوص تايوان، والهوامش التي يمكن أن تقبلها الصين، إضافة الى مدى تطور الأسطول البحري الصيني كمًا ونوعًا.

د. مصطفى عيد إبراهيم

خبير العلاقات الدولية والمستشار السابق في وزارة الدفاع الإماراتية، وعمل كمستشار سياسي واقتصادي في سفارة دولة الإمارات بكانبرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى