دلالات هامة.. إلى متى تستمر الحرب الأوكرانية؟
منذ قرابة تسعة أشهر على بدء الحرب الأوكرانية، اجتهدت أقلام الساسة والمتخصصين في تخمين موعد لنهاية هذه الحرب التي سأهمها العالم، وعاني من تداعياتها الاقتصادية والمخاوف من تطوراتها العسكرية، رغم عدم وجود مؤشرات كافية للحديث عن نهاية لهذه الحرب طيلة المدة الفائتة.
ولكن في الأيام الأخيرة ظهرت مستجدات هامة، لا نستطيع الجزم بأنها مؤشرات حاسمة على اقتراب نهاية الحرب، إلا أنها تكفي في الوقت الراهن للحديث عن مدى وجود فرص للتسوية بين الجانب الروسي والأوكراني، أو على الأقل وقف لإطلاق النار.
واستنادا لما تقدم؛ يناقش هذا التحليل أهم المستجدات المتعلقة بالحرب الأوكرانية، ومدى إمكانية التوصل إلى تسوية أو اتفاق لوقف إطلاق النار وفقا للتطورات على أرض الميدان في هذا التوقيت، وفي المحادثات أيضا بين الأطراف المعنية.
مؤشرات للتفاهم:
في الفترة الأخيرة ثمة مجموعة من المؤشرات التي قد تنم عن عزم الجانب الروسي والغربي إبداء نوع من المرونة السياسية فيما يخص الأزمة الأوكرانية، لعل أبرزها:
- حيث بدأت موسكو مؤخرا تعرب عن رغبتها في التفاوض مع الجانب الأوكراني على لسان عدد من المسؤولين الروس، وعلى رأسهم بوتين نفسه، مثل قوله مؤخرا إنه على الجميع أن يعي أننا ” لم نبدأ أي شئ بالفعل، وفي الوقت نفسه لا نرفض مفاوضات السلام “، في تحول واضح في الموقف الروسي عن السابق، بعدما كانت كييف هي من تطلب التفاوض وموسكو تماطل.
ولهذا يمكن القول إن روسيا مستعدة للتفاوض في الوقت الراهن، بالذات بعدما خففت من حدة لهجتها تجاه أوكرانيا بشكل كبير، كما بدأت الاتصالات الرسمية والمعلنة بين المسؤولين الروس والأمريكان فيما يخص الملف الأوكراني، كما حدث والتقى رئيسا جهازي الاستخبارات الروسي والأمريكي في تركيا الأسبوع الماضي.
- كما تظهر التطورات الميدانية حاليا تراجع روسي على الأرض، خاصة بعدما استعادت القوات الأوكرانية السيطرة على مدينة خيرسون بشكل كامل،التي ضمتها روسيا حديثا وفقا لاستفتاء نظمته بنفسها. كما أسهم تراجع القوات الروسية في أوكرانيا بعد أشهر من عملية كان من المتوقع لها تحقيق نصر خاطف، وبعد ما تكبدته الخزينة الروسية من تكلفة وخسائر في الجنود والمعدات في ظهور الأبواق الناقدة بقوة لسياسات بوتين، ولهذا دعا مسؤولون بمدينة سان بطرسبرج في مجلس الدوما إلى اتخاذ إجراءات صارمة تجاه القادة المعنيين بملف الحرب الأوكرانية.
- ويبدو أن الاتفاق الذي جري أيا كان بين الرئيس الأمريكي ونظيره الصيني خلال قمة العشرين الأخيرة وضع بعض الضغوط على بوتين، الأمر الذي قد يسهم في دفعه إلى تعجيل المفاوضات مع الجانب الأوكراني،خاصة وأن الصين انضمت إلى البيان الختامي للقمة، والذي أدان الغزو الروسي لأوكرانيا، وأكدت بكين في إطاره على ضرورة احترام سيادة الدول. كما اتخذت الهند أيضا نفس الموقف.
أضف إلى ذلك، أن الرئيس الأمريكي أعلن في المؤتمر الصحفي الذي أعقب اللقاء ” لا أعتقد أن هناك أي محاولة وشيكة من جانب الصين لغزو تايوان “، وذلك بعد ساعات من قمة بايدن وشي، الأمر الذي يشير إلى احتمالية وجود توافق بين الطرفين حول أبرز الملفات الخلافية بينهما، وقد يكون من ضمنها الموقف الصيني من الحرب. وعقب ذلك أعلن البيت الأبيض عن زيارة مرتقبة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن للصين مطلع العام المقبل، في زيارة هي الأولى من نوعها على هذا المستوى منذ العام 2018، قد تنم عن انفراجة دبلوماسية بين القوتين المتنافستين عالميا.
- ومؤخرا بدأت تظهر دعوات أمريكية تؤيد التفاوض بين موسكو وكييف كان أبرزها الأسبوع الماضي، عندما استبعد رئيس أركان الجيش الأمريكي الجنرال مارك ميلي قدرة أوكرانيا على دفع القوات الروسية خارج أراضيها بالقوة، كما نصح باستثمار انتصارات كييف الحالية والإنهاك الروسي لفتح نافذة للمفاوضات تنهي النزاع. وذلك خلال مؤتمر صحفي حضره وزير الدفاع الأمريكي أيضا.
وعليه، رغم أن تعاقب انتصارات أوكرانيا على أرض الميدان رفع لديها منسوب الثقة في استكمال تحرير أراضيها وحسم الحرب عسكريا، ولكنها قد تواجه في ذلك ليس فقط القوة العسكرية الروسية،بل وأيضا دعوات حلفائها الغربيين مطالبين إياها بالتفاوض مع الروس والبحث عن تسوية سياسية. وفي هذا السياق، يقول ميخايلو بودولياك كبير مستشاري زيلينسكي ” عندما تكون لديك المبادرة في ساحة المعركة يكون من الغريب تلقي مقترحات بأنك لن تتمكن من القيام بشئ بالوسائل العسكرية على أيه حال، فأنت بحاجة إلى التفاوض، وذلك يعني أن الدولة التي تستعيد أراضيها يجب أن تستسلم للدولة التي تخسر “، وهو رفض واضح من قبل كييف، على الأقل حتى الآن.
كما اعتبر البعض أن حادثة إلقاء صواريخ روسية على بولندا أنها محاولة من جانب أوكرانيا لتوريط روسيا واستمرار الحرب، وبالتالي استمرار الدعم الغربي،رغم أن التحقيقات لم تصل إلى نتيجة نهائية في هذا الخصوص، لكن لم يواجه الموقف برد أمريكي كما كان متوقعا، الأمر الذي يقوى من الرواية القائلة بوجود تفاهمات في الفترة الحالية بين واشنطن وموسكو.
حلول مرضية:
ومن المستبعد أن تتم تسوية الأزمة بشكل نهائي على المدى القصير، ولكن يمكن التوصل إلى هدنة أو وقف لإطلاق النار كمقدمة لعقد مباحثات أخرى حول حل طويل الأمد، لأن اتفاقا من هذا القبيل سيتطلب هزيمة لروسيا في الميدان، وهو أمر مستبعد إلى حد كبير إذا ما قارنا قدرات الطرفين المتحاربين، وإذا أخذنا في الاعتبار المحادثات المستمرة في الفترة الأخيرة بين واشنطن وموسكو.
فإما أن تتنازل أوكرانيا عن جزء من أراضيها، سواء كانت المناطق الأربعة التي ضمتها روسيا، أو على الأقل إقليم دونباس فقط باعتباره هدف العملية العسكرية الروسية من الأساس. وعليه، قد يتم التوصل إلى حل وسط، كأن تسترد أوكرانيا خيرسون وزابوريجيا من القوات الروسية، مقابل أن تتنازل عن إقليم دونباس. ورغم أن الموقف الأوكراني جاء رافضا لأي تنازلات عن الأرض، ولكن لا يتوقع أن يظل الموقف كما هو حال استمرار الضغط الغربي أو تقلص الدعم لأوكرانيا.
كما وقد يتم تنظيم استفتاء في المناطق الأربعة أو إقليم دونباس فقط تحت إشراف دولي على سبيل المثال، وبذلك يكون قرار الضم إلى روسيا _ إذا كانت نتيجة الاستفتاء لصالحها _ جاء بناءا على رغبة شعبية وليس بتهديد السلاح الروسي، وهناك تجارب مماثلة حصلت سابقا في كوسوفو وتيمور الشرقية وجنوب السودان، وذلك لضمان عدم تكرار ما فعلته روسيا في شبه جزيرة القرم في ٢٠١٤.
وهناك خيار أخر، حيث يمكن أن تحصل التهدئة، بينما يظل الوضع المتوتر على حاله، أي أن تظل روسيا مسيطرة على أراض أوكرانية، بينما تواصل كييف مطالبتها بتلك المناطق، في انتظار بدء مفاوضات من شأنها أن ترسم الحل مستقبلا.
حيرة غربية:
يبدو أن الموقف الأوروبي هو الأكثر ارتباكا في المشهد الراهن، فهو من جانب يسعى إلى الحفاظ على الهيبة السياسية الأوروبية التي اهتزت بسبب الأزمة الأوكرانية، والتعاملات مع روسيا على إثرها، وعليه يرغب الأوروبيون في إلحاق الهزيمة بالقوات الروسية في أوكرانيا. إلا أنهم من جانب آخر، يريدون نهاية لأزمة الطاقة في أسرع وقت، والمتوقع لها أن تتضاعف خلال فصل الشتاء.
لذا، ورغم نفي واشنطن مرارا ممارسة أي ضغوط على كييف؛ فإن محاولات ترويض كييف ترتبط في الكواليس بمساعي أمريكية للحفاظ على تماسك الدعم الغربي لأوكرانيا، بعد تنامي المخاوف الأوروبية خاصة من إطالة أمد الحرب وتفاقم تأثيراتها الاقتصادية والسياسية.
فأوروبا في حاجة لإنهاء الحرب بأقل الخسائر بالنسبة للجميع،كأن تخرج روسيا ومعها المناطق الأربعة التي ضمتها حديثا، أو إقليم دونباس فقط على أقل تقدير، وقد يكون هذا هو الحل الأنسب بالنسبة إلى أوروبا في الوقت الراهن؛ فمن ناحية استفادت روسيا وتجنبت إحراجها أمام الرأي العام الداخلي والعالمي، بالذات أنها أعلنت منذ بداية الحرب أنها عملية خاصة لتحرير إقليم دونباس وليس السيطرة على كامل أوكرانيا. وإذا ما تم ذلك، قد يكون الموقف الأوروبي الذي يليه طبيعيا، بأن تشتري الغاز الروسي من تركيا _ بعدما وقعت الأخيرة اتفاقا مع روسيا لجعلها مركزا لتوريد الطاقة الروسية _ وبذلك يكون الحرج السياسي قد انجلى عن أوروبا لأنها لم تتخل عن أوكرانيا، وتكون روسيا قد ضمنت تصريف منتجاتها من الغاز إلى السوق الأكبر والأهم، وهو السوق الأوروبي.
ولهذا لا يمكن تأكيد الرؤية القائلة بأن التفجير الأخير في منطقة تقسيم التركية كان بتشجيع غربي، أو أوروبي بالتحديد، خوفا من تمدد النفوذ التركي، لأن أوروبا بالتحديد ليس من مصلحتها حدوث أزمة جديدة في قطاع الطاقة، خاصة بعدما أصبحت تركيا مركزا لنقل الغاز، بل على العكس، فإنه أصبح الحل الأنسب والأقل خسائر بالنسبة للأوروبيين حاليا، في ظل تصاعد الغضب الشعبي في الدول الأوروبية، وارتفاع تكلفة استيراد الغاز من الولايات المتحدة أو من النرويج أو حتى قطر في ظل الوضع الاقتصادي المتأزم، ناهيك عن أن أوروبا لا تملك خيار إنتاجه محليا، بسبب مخاوف بيئية يضاعفها تصاعد قوة أحزاب الخضر في المشهد السياسي الأوروبي.
ورغم أن واشنطن على المدى البعيد من مصلحتها إطالة أمد الحرب أكثر وأكثر لإضعاف أوروبا وتعطيل تصاعدها السياسي والاقتصادي الملحوظ وإبقاء تحركاتها في إطار الحظيرة الأمريكية. وفي نفس الوقت، لإنهاك القدرات الروسية عسكريا واقتصاديا، وتحقيق نصرا سياسيا يضمن لواشنطن الانفراد بقيادة العالم شيئا فشيئا، خاصة وأن إدارة بايدن حاليا في حاجة لمثل هذا النصر، ولهذا قد تبدو مماطلة الجانب الأمريكي في إنهاء الحرب في الوقت الذي رغبت فيه روسيا بدء المفاوضات، مقنعة وواقعية بعض الشئ.
ومن جانبنا نري، أن واشنطن لا تبدو مستعدة لخسارة أو عداوة موسكو في الوقت الراهن، إذا أخذنا في الاعتبار المعطيات الداخلية والخارجية بالنسبة إلى واشنطن، فهي تفضل إضعاف روسيا وليس معاداتها لأنها قوة نووية كبري، خاصة مع عودة الجمهوريين للمشهد السياسي الداخلي في واشنطن، بعد فوزهم بأغلبية مجلس النواب، مما قد يشكل ضغطا على الإدارة الأمريكية لإبداء نوع من المرونة في التعامل مع روسيا في الفترة القادمة، وتقليص الدعم الموجه إلى أوكرانيا، كما أن التنسيق الأمريكي مع الصين قد يتطلب أيضا تفاهما مع روسيا.
وبالتالي قد يسهم ذلك في مجمله في زيادة الضغط الغربي على أوكرانيا لعقد هدنة أو توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار ولو بشكل مبدئي كبداية لتسوية الأزمة بشكل كامل في وقت لاحق.
ولكن الموقف الأوكراني حتى الآن مثير للتساؤلات بشكل كبير، فعلي أي أساس تستند أوكرانيا في رفضها للمفاوضات في ظل التقاعس الغربي الواضح عن دعمها كما كان في السابق ؟، خاصة وأن كييف ذاتها هي من أعربت في أكثر من مناسبة منذ اندلاع الحرب عن شعورها ب ” الإحباط ” تجاه الموقف الغربي من الحرب، ولهذا لا يرجح أن يكون الرفض الأوكراني للمفاوضات نهائيا.
وختاما، وفي مجمل الأحوال يكاد يجزم الخبراء أن لحظة الاحتكام للمفاوضات والوسائل الدبلوماسية قطعا ستأتيلكن ليس قبل أوانها، وحتى ذلك الحين بتعين على الجميع السماح لديناميكية الميدان تشكل شروط التفاوض.