انعكاسات اتفاقية “أنقرة” و”الدبيبة” حول النفط والغاز

في الفترة الأخيرة تحولت ليبيا مرة أخرى إلى بؤرة ساخنة، تؤرق الأطراف الدولية والإقليمية المعنية، بعد أن قامت حكومة عبد الحميد الدبيبة المنتهية ولايتها بتوقيع مذكرة تفاهم جديدة مع تركيا في الثالث من أكتوبر الجاري، خاصة بالتنقيب عن الغاز والنفط الليبيين برا وبحرا كما أفاد وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو.

واستنادا لما تقدم، يلقي هذا التحليل الضوء على أبعاد الموقف التركي الأخير من حكومة الدبيبة، ودوافع أنقرة وحكومة الوحدة من توقيع هذا الاتفاق، وأيضا ردود الفعل الداخلية والخارجية.

رفض متوقع:

لا شك أن الاتفاق الأخير بين تركيا وحكومة الوحدة أعاد طرح الأزمة الليبية مرة أخرى كمنغص ليس فقط من الناحية السياسية والأمنية، بل والاقتصادية أيضا، حيث بدأت مجموعة من القوى الإقليمية في إجراء مباحثات مشتركة، واتخاذ الإجراءات اللازمة لحفظ حقوقها التي تتعدى عليها _ وفقا لرؤيتها _ الاتفاقية بين طرابلس وأنقرة، في مقدمتها مصر واليونان.

فقد أعقب توقيع الاتفاق زيارة وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس إلى القاهرة، من أجل التأكيد على موقف القاهرة وأثينا المشترك في هذا الشأن، حيث رفضا وزيرا خارجية مصر واليونان الاتفاق، كما أكدا أن الحكومة الدبيبة المنتهية ولايتها في طرابلس لا تملك صلاحية إبرام اتفاقيات أو مذكرات تفاهم، وأنه على الأمم المتحدة تحديد موقفها من شرعية أو عدم شرعية تلك الحكومة.

في تلك الأثناء أيضا، بدأت دول أوروبية بارزة تعلن رفضها لتلك الخطوة، لأن ليبيا لم تعد تؤرق محيطها الإقليمي فحسب؛ بل امتد الأمر إلى أكثر من ذلك؛ إذ استفزت مذكرة التفاهم فرنسا أيضاً، التي أعلنت رفضها لها رسمياً؛ نظرا لأن باريس تملك نفوذاً اقتصادياً لا بأس به في الأراضي الليبية، وبالتأكيد لن تريد التفريط أو الانتقاص منه. كما اعترضت أيضا إيطاليا ومالطة، وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي بوجه عام.

خلاف ليبي-ليبي:

فقد اعترضت عدة أطراف سياسية في الداخل الليبي على الاتفاق بين تركيا والدبيبة، معتبرة إياها غير قانونية وغير ملزمة للدولة، نظرا لكونها موقعة مع حكومة منتهية ولايتها قانونيا. ومن بينها البرلمان الليبي، الذي أعلن عدم اعترافه بالاتفاقية، لأنها موقعة مع حكومة منتهية ولايتها منذ أشهر.

وفي السياق نفسه، رفض المجلس الأعلى للدولة الاتفاق، وذلك في بيان رسمي أفاد بأن ” توقيع مثل هذه المذكرات الغامضة البنود والأهداف في مثل هذا التوقيت والظرف السياسي المنقسم يمثل محاولة لفرض سياسة الأمر الواقع “. كما وصف الموقف التركي ” الانتهازية السياسية “.

ولكن في المقابل؛ دافع الدبيبة عن الاتفاقية، وعن سلامة موقف حكومته كطرف أساسي بها، واعتبر أن المواقف الرافضة للاتفاقية، أو المتحفظة على وضع حكومته القانوني بشكل عام ما هي إلا عرقلة لقرار الأمم المتحدة، الذي يقضي بضرورة إجراء انتخابات وطنية، وتسليم السلطة لحكومة منتخبة، وعدم اللجوء إلى أية ” حلول تلفيقية أخرى “، كما وصفها محمد حمودة المتحدث باسم حكومة الدبيبة. كما رفضت حكومة الدبيبة الموقف الأوروبي، واعتبرته تدخلا صارخا في الشأن الداخلي الليبي، ومهددا لاستقراره.

ويعتبر موقف الأطراف الليبية الأخرى متوقعا، لأنه قد لا يكون في صالحها وقوف أنقرة إلى جانب حكومة الدبيبة مرة أخرى، بعدما نجحت تلك الأطراف في تهميش حكومة الوحدة بعض الشئ بعد تشكيل حكومة باشاغا طيلة الفترة الماضية، وبذلك قد يعود الدبيبة إلى ساحة النزاع الداخلي في ليبيا كلاعب جديد، وبقوة، بعد حصوله على دعم تركي متوقع خلال الفترة المقبلة، كمقابل لتوقيع الاتفاقية، في ظل وجود دعوات داخلية وخارجية لإجراء انتخابات، أو تشكيل حكومة جديدة متفق عليها بديلة لحكومتي الدبيبة وباشاغا. وبالتالي قد يأتي ذلك على حساب الأطراف السياسية الأخرى في الشرق الليبي، خاصة بعدما بدا مؤخرا أن أنقرة تعيد هيكلة علاقاتها في الشرق.

ولكن من ناحية أخرى، قد يكون دافع أنقرة نحو توقيع تلك الاتفاقية ليس دعم طرف بعينه، بل من أجل إضفاء نوع من التوازن في موقفها تجاه الأطراف الليبية جميعها، بعدما استضافت المشري وعقيلة صالح في أنقرة في وقت سابق، مما قد يؤشر إلى أن الحكومة التركية قد تعيد النظر في سياسة تحالفاتها الخاصة بالملف الليبي، بما يضمن لأنقرة مقعدا على أية طاولة مفاوضات تتعلق بالشأن الليبي، لأنها في هذه الحالة ستكون حلقة وصل بين جميع الأطراف.

حسابات تركية:

هناك حسابات تركية قد تكون سياسية أو اقتصادية وراء توقيعها على مذكرة تفاهم جديدة مع الدبيبة، هي كالتالي:

(*) من الناحية السياسية؛ تركيا تحاول استغلال الهزة السياسية التي تعرض لها الدبيبة بعد اختيار البرلمان لحكومة جديدة، وقد يكون ذلك من ضمن أسباب تقارب أنقرة مع أطراف الشرق الليبي مؤخرا، كوسيلة للضغط على الدبيبة من أجل توقيع مثل هذا الاتفاق، مقابل استمرار دعمها له في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية على حكومته، خاصة وأن أنقرة اتبعت سياسة مشابهة بعض الشئ مع حكومة فايز السراج قبل ثلاث سنوات، ووقعت اتفاقية ترسيم الحدود.

واعتبر دبلوماسيون هذه الخطوة بمثابة الرسالة التي تحاول من خلالها تركيا جس نبض القوى المعنية بتمددها في ليبيا، ونواياها في توسيع نفوذها في شرق المتوسط.  ولا يُستبعد بعد ذلك سعي تركيا للحصول على حصة في إعادة إعمار ليبيا، وربما فرض سياسة الأمر الواقع فيها.

وجدير بالذكر، أن الاتفاقية التركية الأخيرة مع حكومة الدبيبة تزامنت مع التوترات بين أنقرة وأثينا التي عادت مجددا في الآونة الأخيرة، بسبب الخلاف حول وضع جزر بحر إيجة، واللاتي من المفترض أن تكونا منزوعتي السلاح وفقا لاتفاقيتي لوزان ١٩٢٣ وباريس للسلام ١٩٤٧، ولكن اليونان أرسلت مدرعات إلى تلك الجزر في سبتمبر الماضي، الأمر الذي أثار غضب أنقرة، حتى وصل الأمر إلى تهديد الأخيرة لأثينا بالرد العسكري. ولهذا قد يكون التنافس اليوناني التركي بالذات دافعا ملحا بالنسبة إلى أنقرة لتوقيع الاتفاقية، خاصة وأن الخارجية التركية حرصت على عدم التطرق إلى اسم مصر أو العلاقات معها حينما ردت على الدول التي انتقدت مذكرة التفاهم، واقتصر انتقادها علي الاتحاد الأوروبي واليونان، حرصا على علاقاتها بالقاهرة التي تحاول استعادتها _ تركيا _ باستماتة.

وفي نفس الوقت الرد على المحاولات الإقليمية والدولية لعزلها عما يخص منطقة شرق المتوسط، ومنعها من الاستفادة من ثروات تلك المنطقة، والضغط على مصر واليونان وإسرائيل. خاصة وأن الاتفاق أعقب توقيع اتفاقية لترسيم الحدود بين إسرائيل ولبنان. بالإضافة إلى استمرار التأكيد على الطرح التركي الذي يفيد بأن الرد على اتفاقيات ترسيم الحدود بين مصر واليونان وقبرص يستوجب اتخاذ خطوة مماثلة.

كما أن هناك تصور تركي بأن القوى الأوروبية والدولية يمكن أن تمرر مذكرة التفاهم في ظل الحاجة إلي أنقرة بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية. وبصيغة أخرى، تسعى تركيا إلى انتهاز فرصة احتياجات سوق الطاقة الأوروبي لتمرير مثل تلك الخطوة، وبالتالي تتمكن بالأساس من تمرير اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا بفعل الأمر الواقع.

(*) أما من الناحية الاقتصادية؛ فأردوغان رغم قربه من روسيا، إلا أنه سيعمل على ضمان أكبر قدر ممكن من النفط والغاز تحسبا لأي تطورات لاحقة، لأن أغلب القراءات تشير إلى أن تركيا تعاني نقصا في الطاقة، وتستورد ما يقارب ٩٠٪ من احتياجاتها من الخارج، وليبيا دولة غنية، وبالتالي ستحاول أنقرة الحصول على حصة في حقول النفط والغاز الليبية، مستغلة تواجدها السياسي والعسكري على الأراضي الليبية.

ووفقا لبلومبرغ، تركيا تسعى للاستفادة من نفوذها على حكومة طرابلس لتأمين موارد طاقة جديدة، كما تعمل على زيادة قدرة خط أنابيب الغاز الطبيعي العابر للأناضول( تاناب )، والذي ينقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا عبر تركيا إلى 32 مليار متر مكعب سنويا. وفي وقت لاحق، أكد أردوغان بالفعل أن بلاده تسعى لمضاعفة قدرة خط تاناب، وإنشاء منطقة جديدة للتعاون في استخراج النفط ومشتقاته من الجرف القاري الليبي.

وقد يكون تحرك أنقرة المباغت من أجل ضمان حصتها في سوق الطاقة الليبية، بعدما نجحت شركات النفط الأوروبية ( إيني الإيطالية، وتوتال الفرنسية ) في إبرام اتفاقات شبيهة. في هذه الحالة قد تكون أنقرة ارتابت من احتمالية وجود اتفاق بين تلك الشركات وحكوماتها، من الممكن أن ينال من نفوذها في ليبيا.

كما يبدو أن أنقرة لا تسعي فقط إلي حل مشكلة الطاقة التي تعاني منها عبر استيراد الغاز الليبي، ولكنها تسعي أيضًا إلي أن تكون جزء من مشاريع نقل الغاز الأفريقي إلي أوروبا. فهناك مشروع لنقل الغاز النيجيري إلى أوروبا، الذي تم الإعلان عنه في يونيو الماضي من خلال المتحدث باسم حكومة الوحدة الليبية، بأن الحكومة ” منحت الإذن لوزارة النفط والغاز، لإجراء الدراسات الفنية والاقتصادية لجدوى إنشاء مشروع أنبوب غاز من نيجيريا عبر النيجر أو تشاد إلى أوروبا عبر ليبيا “. ومجمل تلك الدوافع قد تصب في الأخير في صالح أردوغان في الانتخابات المقبلة.

توتر محتمل:

من المحتمل أن يزداد التوتر بين تركيا واليونان من ناحية، خاصة بعد أزمة جزر بحر إيجة. وبين تركيا ومصر من ناحية أخرى، في ظل اعتراف القاهرة بعدم شرعية حكومة الوحدة الليبية بعد انتهاء ولايتها. وفي حالة حدوث ذلك؛ سينتقل التوتر بالتبعية إلى منطقة المتوسط، وفي هذه الحالة قد يكون لإسرائيل التي تربطها بالدول الثلاث علاقات جيدة دور في تهدئة الأوضاع في شرق المتوسط، تجنبا لأية مفاجآت قد تهدد مشروعها في المنطقة. كما وقد يكون للتطورات الدولية والإقليمية المتعلقة بالأزمة الأوكرانية والاتفاق النووي وارتفاع أسعار الطاقة، بل والخوف على الإمدادات، دور آخر تحجيم أي توتر جديد بوجه عام.

ولكن فيما يخص العلاقات التركية المصرية بالتحديد، فلا يرجح أن تؤثر الخطوة التركية في مسار المباحثات بين البلدين لاستعادة العلاقات، ولا أن يؤدي إلى العودة خطوة إلى الوراء أو الانجرار إلى صدام جديد، في ظل التحديات الإقليمية والدولية التي تحتم على الجميع عدم خسارة أى حليف إلا إذا اقتضت الضرورة.

وختاما، فمذكرة التفاهم جاءت في سياق تطورات هامة؛ منها استمرار حالة الانقسام في المشهد الليبي، وتقلص فرص بناء استحقاق انتخابي جديد، وعدم وجود نقطة تفاوضية مشتركة يمكن أن تُبنى عليها أي تسوية واتفاق جديد في ظل استمرار حالة الصراع العلني والخفي بين الأطراف الدولية والإقليمية، والتحذيرات من احتمالات تصاعد العنف المسلح، وهذا كله مع استمرار تكريس الحضور التركي يوما بعد يوم في المشهد الليبي، والذي بدأ يأخذ مسارا منفتحا على الجميع في الآونة الأخيرة، إلا أن تجاهل تركيا للبرلمان والمجلس الرئاسي عند توقيع المذكرة الأخيرة من الممكن أن يؤجج الخلافات ويعيد ترتيب الأوراق في المشهد الليبي تارة أخرى.

وردة عبد الرازق

باحثة في الشئون الأوروبية و الأمريكية، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى