لماذا حدث التحول في الموقف الفرنسي تجاه أحداث غزة؟
لم يكتفِ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة إسرائيل في 24 أكتوبر2023، بعد ثمانية عشر يوماً من أحداث السابع من أكتوبر، لإعلان تضامن باريس مع تل أبيب, بل دعا إلي تشكيل تحالف دولي ضد حماس، علي غِرار التحالف الدولي ضد داعش في العراق وسوريا، وقبل الزيارة علق دبلوماسي فرنسي سابق لصحيفة لوفيجارو، قائلا “يبدوا أن ماكرون قد فاته القطار، سيذهب إلي إسرائيل بشكل متأخر”.
وقد سبقت الزيارة الرئاسية بيومين زيارة رئيسة الجمعية الوطنية الفرنسية يائير برون بيفيه، الذي رافقها فيها رئيس حزب الجمهوريين اليميني إريك سيوتي، والنائب عن الفرنسيين بالخارج مائير حبيب وماتيو لوفيفر من حزب النهضة الحاكم، وقد عبّرت فيها عن الدعم والتأيد المطلق لإسرائيل، وتأكيدها أن لا شئ يمْنّع إسرائيل من الدفاع عن نفسها، وأعلنت أن هناك مُهاجِماً، وهناك من تمت مهاجمتهم، مضيفةً أن فرنسا تدعم بشكل كامل إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمت مهاجمتها بشكل فظيع، ذلك الموقف الذي أعتبره الكثير من المراقبين ابتعاداً عن الموقف التاريخي الفرنسي الذي يدعو إسرائيل إلي الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، والامتناع عن استهداف المدنيين.
موقف رئيسة الجمعية الوطنية الفرنسية، أثار جدلاً سياسيا حاداً داخل فرنسا، حيث أتْهّمها جان لوك ميلانشون زعيم حزب فرنسا الأبيّة أنها تدعم المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة، وأن هذه الزيارة لا تمثل الشعب الفرنسي، معلقاً علي المظاهرات التي شاهدتها باريس دعماً للشعب الفلسطيني، أن هذه هي فرنسا، في الوقت الذي توجد فيه برون بيفيه في تل أبيب لتشجيع المجزرة، وفي قمة السلام في القاهرة أعلنت وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا أن لإسرائيل حق الدفاع عن النفس بموجب القانون الدولي.
وفي ظل عودة ماكرون، وانتقاده قصف إسرائيل للمدنيين في غزة لأول مرة منذ بدء الحرب، مضيفاً أنه لا يوجد مبرر لقصف إسرائيل للأطفال والسيدات والمسنيْن، ولا يوجد سبب ولا شرعية ،داعياً لوقف إطلاق النار في غزة، معرباً عن أمله أن ينضم إليه زُعماءُ غربيون آخرون، هذا بالإضافة إلى رفض ماكرون ضرب إسرائيل لرفح الفلسطينية، وإعلان استضافته للعاهل الأردني الملك عبدالله في الـ 15 من فبراير الجاري لبحث توقف القتال في غزة- يطرح السؤال التالي، هو: ما هي أسباب تغّير الموقف الفرنسي من الحرب في غزة؟
انعكاسات تطور الحرب:
قال المحلل الفرنسي فرانسواز جيري، إن الموقف الفرنسي لم يتغير بل تطَور مع تطور مُجْرَيات الحرب التي طال أمدُها بينما يسقط آلاف الأبرياء، مضيفاً أن باريس مازالت تشد علي أيدي الإسرائيليين الذين فقدوا أحبائهم في هجوم السابع من أكتوبر، لكنها لا توافق علي الطريقة التي ترد بها الحكومة الإسرائيلية علي ذلك، وأنه لو سألت أي فرنسي عن هجوم السابع من أكتوبر سيجيبك أنه اعتداء إرهابي وأنه يقف بجانب عائلات الضحايا، لكنه لن يعطي صكا أبيض لما يفعله الجيش الإسرائيلي، وأنه ليس موقف فرنسا فقط الذي تغير ولكن موقف الكثير من الدول أصبحت تشير إلي ضرورة إنهاء معاناة الفلسطينيين في غزة، وأن الحكومة الفرنسية ستواجه خلال الفترة القادمة انتقادات من أغلب دول العالم بما فيها الولايات المتحدة نفسها الداعم الرئيسي لإسرائيل.
ومن جانبه أشار المحلل الإسرائيلي عكيفا دار، أن القصف الذي راح ضحيته مدنيون كُثّر في غزة ، وأن صور الضحايا خاصة الأطفال والمدنيين الذين لا علاقة لهم بالحرب، غَيّر موقف باريس من أحداث المنطقة، وأن توقف المستشفيات عن الخدمة جراء القصف وصور اللاجئين وهم يغَادرون شمال القطاع إلي جنوبه بطلب من الجيش الإسرائيلي ساهم أيضاً في ذلك، وأضاف عكيفا دار أن نتنياهو كان لديه شهراً للرد علي هجوم حماس، وأنه كان هناك شبه اتفاق علي نطاق زمني محدد لكن نتنياهو لم يأخذ ذلك بعين الاعتبار، لا مواقف الدول ولا الرأي العام العالمي ولا حتى المحلي.
تمرد السفراء:
من الخارجية الأمريكية والبريطانية، وصلت عدوي التمرد إلي الخارجية الفرنسية، وفي سابقة في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، لأنها شكّلت اعتراضاً علنياً من رؤساء البعثات الدبلوماسية علي سياسته بلادهم الخارجية، ففي العادة تعتبر الرسائل بين وزارة الخارجية ومُمَثليها من السفراء ورؤساء العمل الدبلوماسي من روتينيات العمل الدبلوماسي وإدارة السياسة الخارجية لكل دولة، إذا حافظت علي سرّيتها ولم تخرج للعلن، لكن انحياز فرنسا لإسرائيل في الأزمة الحالية دفع العديد من الدبلوماسيين الفرنسيين إلي التذكير بضرورة احترام القوانين والمواثيق الدولية والإنسانية، وعبّروا عن قلقهم من موقف الإدارة الفرنسية تجاه العالم العربي، وهذا وضعهم أمام حالة عدم ثقة، مما يلحق الضرر بموقع فرنسا ودورها في الشرق الأوسط.
فقد وصلت إلي الرئيس الفرنسي ماكرون عبّر وزارة الخارجية رسالة وقعها عدد من سفراء فرنسا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تتضمن انشقاقاً واضح عن انحياز فرنسا لإسرائيل، في موقف مناهض للموقف التاريخي لفرنسا من الصراع العربي الإسرائيلي، وأن محاوريهم في الشرق الأوسط يرون أنهم- أي الفرنسيين يخون أنفسهم، وأن هناك تناقض بين خطابهم المبني علي القيم الإنسانية وموقف الإدارة الفرنسية من الصراع الدائر في غزة، وهو ما أعطي صورة سيئة لفرنسا في العالم العربي، حيث تُتَهم بالاشتراك في عملية الإبادة التي تقوم بها إسرائيل، لذلك يحذر دبلوماسي لصحيفة الفيجارو من أزمة ثقة مع فرنسا قد تستمر طويلاً.
وتضمن خطاب السفراء الفرنسيين، اعتراضاً علي سيطرة فريق من السفراء النافذين في وزارة الخارجية الفرنسية داعمين لإسرائيل، وتزامن ذلك مع سيطرة فريق الإليزيه المعاون للرئيس ماكرون علي السياسة الخارجية، وانتزاعه القرار في العديد من الملفات والقضايا مما خلق حالة من التنافس تسببت في بطء الحركة علي المستوي الدولي، كذلك التراجع عن الكثير من التصريحات. لقد نتج عن هذه الرسالة تحول واضح في تغيّر اللغة الخارجية من دعم مطلق لإسرائيل وحقها في الدفاع عن النفس إلي الدعوة إلي حماية المدنيين واحترام القانون الدولي، والتشديد علي مبدأ حل الدولتين والمبادرة التي أقرها العرب في قمتهم في بيروت 2002, وإقامة الدولة الفلسطينية ضمن حدود الرابع من يونيو 1967، كذلك الضغط من أجل وقف فوري لإطلاق النار بدلا من المطالبة بهُدنْ إنسانية من قبل.
تأثيرات القضاء الفرنسي:
في سابقة أصدر القضاء الفرنسي مذكرة اعتقال وتوقيف دولية بحق الرئيس السوري بشار الأسد وشقيقه ماهر، بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية بهجمات كيماوية وفي جرائم حرب، تعد المرة الأولي في تاريخ فرنسا التي يتعرض فيها رئيس دولة في منصبه لمذكرة اعتقال في دولة أخري أثناء توليه السلطة، جاء ذلك عقب تحقيق أجرته الوحدة المتخصصة في الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التابعة للمحكمة القضائية في باريس بناءاً علي شكوى جنائية ذات طابع مدني من حيث الشكل، وهي لحظة تاريخية فرنسياً ودولياً فهناك فرصة لتثبيت مبدأ عدم وجود حصانة للجرائم الدولية الأكثر خطورة حتى علي أعلي المستويات، وأنه يحق لفرنسا استخدام مبدأ الولاية القضائية خارج الحدود الإقليمية، مما جعل الإدارة الفرنسية تشعر بالقلق حيث وصلت تداعيات الحرب علي غزة إلي الداخل الفرنسي ربما بما هو أكثر من الحرب في أوكرانيا.
لقد استنتج الكثير من صنَاع السياسة والقرار في فرنسا الفجوة الكبيرة بين موقف الإدارة والمجتمع داخل مؤسسات الحكم الدستورية، ولاحظوا التبايّن بين الغرب والشرق من خلال قمتي القاهرة للسلام والقمة العربية الإسلامية المشتركة بالرياض. فهل من المنتظر أن يصدر القضاء الفرنسي الذي أصدر مذكرة توقيف بحق رئيس مازال بالسلطة مذكرات اعتقال وتوقيف بحق المسئولين الإسرائيليين علي خلفية ارتكابهم جرائم حرب ومجازر إبادة في قطاع غزة .
تخوفات انقسامات المجتمع:
شهد المجتمع الفرنسي العديد من مظاهر الانقسام والتشرذم، مما دعا الرئيس الفرنسي في الثاني عشر من نوفمبر أن يتحدث من قصر الإليزيه داعياً إلي وحدة المجتمع الفرنسي تجاه ما يحدث في غزة، فالمجتمع الفرنسي يضم أكبر الجاليات اليهودية في أوروبا والتي تضم حوالي 450ألفاً، وتضم أيضاً جالية عربيّة مسّلمة هي الكبرى في أوروبا، تضم 5.4 مليون، وكانت فرنسا قد شهدت قبل شهور قليلة من أحداث غزة، تظاهرات تخللها عنف شديد علي خلفية مقتّل نائل الشاب الجزائري الأصل علي أيدي وبسلاح رجل شرطة فرنسي، مما زاد الحديث عن العنصرية والإسلاموفوبيا في فرنسا، كما تخلل المظاهرات المعترضة علي قانون التقاعد اعتداء علي أملاك عامة وخاصة.
وعقب السابع من أكتوبر، تزايدت مظاهر ما يسمي بمعاداة السامية في فرنسا فحسب بيان الداخلية الفرنسية تخطي عددها1500 وهو رقم كبير، تنوعت بين رسم نجمة داود علي الجدران للتدليل علي منازل اليهود، وتهديدات لفظية وُجّهت ليهود، في حين لم يُسَجل سوي حادثة عنف واحدة، تمثلت في قيام شاب بطعن امرأة يهودية بالسكين.
في المقابل أطلق اليهود المؤيّدون للسياسة الإسرائيلية، حملة “أنا يهودي” علي غرار “أنا شارلي” التي أطلقت ردا علي اغتيال صحفيين من جريدة شارلي أيبدو التي نشرت رسوم مسيئة للنبي محمد، كذلك انطلاق المظاهرات المؤيّدة للفلسطينيين مخترقة قرار وزير الداخلية الفرنسي بمنع التظاهرات، بدعوة من نقابات وبعض أحزاب اليسار، ورداً علي تلك المظاهرات دعت رئيسة الجمعية الوطنية الفرنسية يائل برون إلي مظاهرة شارك فيها رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي جيرار لارشيه، وكذلك العديد من السياسيين علي رأسهم رئيسة الوزراء إليزابيث بورن والرئيسان السابقان نيكولاي ساركوزي وفرانسوا هولا ند، وشهدت المشاركة الأولي لزعيمة اليمن المتطرف ماري لوبان، كما وجهت انتقادات للرئيس الفرنسي لعدم المشاركة فيها.
كما انحازت شركات استطلاع الرأي، التي أجرت بعض استطلاعات الرأي بشكل أسبوعي أو يومي أثناء الأزمات السياسية أو الاجتماعية، إلي الجانب الإسرائيلي، حيث أظهرت تلك الاستطلاعات تبّدل شديد في اتجاهات الرأي العام الفرنسي تجاه العدوان علي فلسطين، بعد صور المجازر التي راح ضحيتها الأطفال والمسنين والنساء في قطاع غزة، وكذلك منع دخول المساعدات الإنسانية إلي القطاع، وترك الفلسطينيين المحاصرين في القطاع يموتون جوعاً وعطشاً بلا دواء أو كهرباء،فقد اظهر استطلاع أجْرته شركة IFOP تراجع عدد المتعاطفين مع إسرائيل 12 نقطة خلال 15 يوماً فقط،مع زيادة نسبة غير المتعاطفين معها نقطتين،والمفاجأة تراجع نسبة غير المتعاطفين مع حماس بستة نقاط،وأظهر الاستطلاع أن غالبية الفرنسيين(%82) قلقون من تداعيات الحرب علي فرنسا.
ختاما، يمكن القول إن التغير الذي طرأ علي الموقف الفرنسي ربما يرجع لاعتبارات داخلية تتعلق بالمخاوف من اندلاع مظاهرات وأعمال شغب في فرنسا، ومع ذلك فقط رأت ضرورة عدم تجاوز تصريحات ماكرون حتى لا تمثل نموذجاً لغيرها من الدول، كذلك ربما جاء تغير موقف الرئيس ماكرون بسبب الضغوط الهائلة التي تمارسها منظمات وأعضاء برلمانين أو أنه تلقي معلومات من المؤسسات الفرنسية بأن التوتر والانقسام اللذان يسودان المجتمع الفرنسي ربما ينفجران في المجتمع الفرنسي عامة وأحياء المهاجرين علي وجه الخصوص، ورأي بعض السياسيين الإسرائيليين أن عدم وجود سفير لإسرائيل في باريس منذ ما يقرب من تسعة أشهر كان من أسباب تغير الرأي العام الفرنسي تجاه إسرائيل وأنه يجب إرسال سفير ذو خبرة ويجيد الفرنسية بشكل مميز يتحدث بصورة متواصلة مع طبقات وفئات المجتمع الفرنسي، إذ يجب في كل الأحوال، وأي كان سبب التغير أن لا تتنازل إسرائيل عن دولة مثل فرنسا.