لماذا تتنامى أساطيل الظل؟

تنامت ظاهرة “أساطيل الظل” في السنوات الأخيرة خاصة مع تزايد التوترات الدولية، حيث تلجأ إليها حكومات الدول كإجراء لتجاوز العقوبات الدولية أو القيود التجارية المفروضة عليها، وبالفعل لجأت إليها بعض الدول مثل (إيران، فنزويلا، كوريا الشمالية، وروسيا) في الإفلات من العقوبات المفروضة عليها وذلك من خلال “طرق ملتوية” تشمل تشغيل سفن غير شرعية والتلاعب بأوراقها الرسمية وكذلك تشغيلها من خلال شبكات معقدة من الشركات الخاصة والأفراد وأيضاُ تسجيل السفن باسم شركات وهمية أو في دول ذات قوانين بحرية متساهلة، وقد تضم هذه الشبكات العديد من البلدان ما يمكّن الدولة من الوصول إلى موارد خارج جوارها المباشر ومن ثم زيادة قدرتها على الإفلات من العقوبات المفروضة عليها.

وتأسيسًا على ما سبق يسلط هذا التحليل الضوء على الأبعاد المختلفة لظاهرة “أساطيل الظل” وتداعياتها المختلفة وطبيعة التحديات التي تشكلها للنظام الدولي خاصة بعد التوترات الدولية في الآونة الأخيرة؟

ظاهرة متنامية

يتكون” أسطول الظل” من مجموعة من السفن القديمة والتي غالبًا ما تكون سيئة الصيانة مع سجلات ملكية غير واضحة ونقص في التأمين، ولقد كان هذا المفهوم موجودًا منذ فترة طويلة في مفردات الأعمال، فكانت المحاكم الدولية تعرف هذا المصطلح حسب مستوى شرعية الأسطول بأنها “السفن المتورطة في أنشطة غير قانونية أو الخاضعة للعقوبات”، لكنه اكتسب نطاقًا واسعًا في العامين الماضيين، حيث تغير الوضع منذ الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022 بعدما تم فرض عقوبات على الغاز والمنتجات النفطية الروسية التي تُشكل حجمًا كبيرًا من الصادرات العالمية، فعلى رغم كل الجهود التي بذلتها أجهزة الاستخبارات لم تحقق المحاولات الغربية نجاحًا في تقييد تجارة النفط الروسي بسبب توسع وتنوع أساطيل الظل الخاصة بها، كما جاء على لسان بعض الخبراء والمسئولين الأمنيين الغربيون أن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا على واردات الطاقة الروسية ربما تُحفز موسكو على مزيد من الإخفاء لتجارتها والتستر على بيانات الشحنات وكذلك إنشاء شبكة من الاقتصاد السري التي تسمح بهيمنة الخداع والتهريب البحري بشكل غير مسبوق، وهو ما حدث بالفعل حيث سعت روسيا إلى توسيع أسطولها الظلي من ناقلات النفط واستطاعت التحايل على العقوبات الغربية التي فرضت عليها في أعقاب حربها في أوكرانيا، حتى تمكنت من الإفلات من تداعياتها على الاقتصاد الروسي وأصبح “أسطول الظل الروسي” ظاهرة جديدة غامضة في السوق العالمية.

وهكذا بالنسبة لإيران فمنذ انسحاب الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” من الاتفاق النووي عام 2018 وإعادة فرض العقوبات على إيران أصبحت عمليات تهريب النفط الإيراني للخارج رغم العقوبات الدولية عبر أسطول الظل تجارة دولية رائجة لإيران بغض النظر عن مخاطرها، بعدما كانت “أساطيل الظل” الخاصة بإيران وكذلك فنزويلا صغيرة نسبيًا ولم يكن لها تأثير كبير في التجارة الدولية. وقد شاركت فيها أطراف عدة غير إيرانية كالصين، حيث أكد مسئولون أمريكيون أن الصين برزت أيضًا في السنوات الأخيرة بين الدول التي تستخدم أكثر الوسائل تعقيدًا للتلاعب بالأنظمة الآلية لتحديد الهوية وهي تستعين بها لإخفاء الأعمال المخالفة للقانون في مشروعات الصيد العملاقة لديها.

وقد ساهم مركز نفطي رئيسي في جنوب شرق آسيا في تسهيل نقل النفط الإيراني إلى الصين، حيث توسع تهريب النفط من إيران إلى الصين بشكل كبير منذ عام 2020 وحتى أكتوبر 2024، وبحسب تقرير لـ”بلومبرج” هناك أسطول من ناقلات النفط القديمة قبالة سواحل ماليزيا ينقل كميات هائلة من النفط تُقدر بمليارات الدولارات معظمها قادم من إيران، فعلى بُعد أربعين ميلاً شرق شبه الجزيرة الماليزية تقع أكبر نقطة تجمع في العالم لناقلات “الأسطول المظلم” وهو المصطلح الذي يُستخدم للإشارة إلى “السفن التي تحمل النفط الإيراني المحظور”، كما أن بحر الصين الجنوبي أصبح يضم أكبر تجمع للأساطيل “المظلمة” في العالم التي يتجه معظمها إلى الصين، ففي ضوء الصراع الجيوسياسي بين الصين والولايات المتحدة ترفض بكين الإعتراف بالعقوبات الأمريكية على إيران وتواصل استيراد النفط الإيراني، الأمر الذي يأتي في إطار تحقيق المزيد من المصالح الجيوسياسية للصين وكذلك زيادة حدة تنافسها مع الجانب الأمريكي، وبالتبعية تسعى دول جنوب شرق آسيا إلى تحقيق توازن دقيق بين المصالح الصينية والغربية، الأمر الذي يدفعها إلى تجنب تطبيق العقوبات الأمريكية بشكل صريح.

تداعيات خطرة

يُبرز الوضع الخاص بـ”أساطيل الظل”  مدى صعوبة فرض العقوبات الدولية عليها، فاعتماد هذه الشبكة على كيانات صغيرة وشركات وهمية مؤقتة، وكذلك إمكانية إخفاء مسارات الشحن المُعقدة تجعل من الصعب تتبع الوجهة النهائية لبضائع معينة. كما يمكن استخدام المستندات المزيفة لإخفاء الانتهاكات الظاهرة للقانون الدولي، إضافة لإمكانية إنشاء شبكة اتصالات بحرية لتسهيل نقل البضائع باستخدام أوراق مزورة وشحن متعدد المسارات، كل هذا يجعل تعقُبها وفرض العقوبات عليها أمرًا بالغ الصعوبة، فهذا النهج اللامركزي مكّن الشبكة من الصمود ومواصلة نشاطها رغم التدقيق الدولي المتزايد، ما يُعقد التزام الدول والقوى المحلية بتطبيق تلك العقوبات بشكل فعال وتحقيق الجدوى منها.

وهناك العديد من التداعيات لانتشار هذه الظاهرة يمكن إجمالها في الآتي:

  • يشكل “أسطول الظل” تهديدًا بيئيًا كبيرًا، فالمخاطر البيئية التي تشكلها هذه السفن القديمة ورديئة الصيانة مثيرة للقلق، حيث تزيد السفن القديمة وغير المؤمنة بشكل كافٍ من خطر الانسكابات النفطية الناتجة عن حدوث تصادمات بالسفن أو عُطلها أو حتى الغرق مما يشكل تهديدًا للسفن الأخرى والمياه والحياة البحرية.
  • وقوع حوادث مرتبطة بالسفن غير المؤمّنة، ما أثار مخاوف بين مالكي السفن الشرعيين بشأن المخاطر التي تشكلها هذه الناقلات والتي غالبًا ما تُبحر بأجهزة إرسال واستقبال معطلة.
  • تساهم أنشطة أساطيل الظل بشكل كبير في نمو واستمرار أعمال القرصنة، كما تخلق أيضًا بيئة مواتية للنشاط الإجرامي، فقد تسمح السرية التي يعملون بها غالبًا بالعمل بكفاءة أكبر وتسمح لهم بتجنب اكتشافهم، وغالبًا ما يشاركون في أنشطة غير مشروعة مثل الاتجار بالبشر والمخدرات والأسلحة، ومن ثم يشكلون خطرًا على الصحة العامة والأمن القومي للدول.
  • كذلك فإن التحول في أنماط تجارة النفط يُعقد المشهد الجيوسياسي فمعالجة هذه القضية المعقدة تتطلب جهودًا دولية متضافرة وتوازنًا دقيقًا بين الحفاظ على العقوبات الدولية وضمان استقرار أسواق الطاقة العالمية.

مواجهة وتحديات

في ظل تنامي هذه الظاهرة وتمكن كل من روسيا وإيران من التحايل على العقوبات المفروضة عليهما من قبل الغرب والولايات المتحدة تسعى بعض الدول الأوروبية وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية لرفع مستوى العقوبات ومحاولة إيجاد عدة حلول يمكن من خلالها وضع حد لتنامي هذا الظاهرة، إذ أعلنت الدنمارك في يونيو الماضي أنها تدرس سبل منع ما يسمى بأسطول الظل من نقل نفط روسي عبر بحر البلطيق، في قرار أثار ردود فعل حادة من دبلوماسيين روس قالوا إن أي خطوة مثل تلك ستكون غير مقبولة، حيث تشعر كوبنهاجن بالقلق من أن الناقلات القديمة التي تنقل النفط تمثل خطورة محتملة على البيئة في هذه المنطقة. كذلك صرح وزير الخارجية البريطاني” ديفيد لامي”في نوفمبر الماضي أن “بريطانيا تفرض أكبر حزمة عقوبات على ما يطلق عليه “أسطول الظل” الروسي وذلك باستهداف 30 سفينة”، كما أكد “لامي” أن الجولة الأحدث من الإجراءات البريطانية ضد موسكو تمثل “أكبر” حزمة من العقوبات على أسطول الظل الروسي في إشارة منه إلى سفن تقول بريطانيا إنها تحاول الالتفاف على القيود الغربية على النفط الروسي.

كذلك ستواجه جهود الرئيس الأمريكي المنتخب “دونالد ترامب” لتشديد العقوبات على إيران والحد من إيراداتها النفطية عقبات كبيرة، في ظل قدرة إيران في التحايل على العقوبات المفروضة عليها والإفلات من تبعاتها باستخدامها لـ”أسطول الظل” الخاص بها، فضلًا عن المساعدة الصينية لها في هذا الإطار. ففي ظل العوامل الاقتصادية والجيوسياسية الراهنة وفي محاولة لمعالجة هذا الوضع قد تلجأ الإدارة الأميركية الجديدة إلى تعزيز جهودها الدبلوماسية مع الدول الساحلية وزيادة الضغط على الصين للحد من التجارة بالنفط الإيراني وأيضًا تكثيفها لعمليات المراقبة والتفتيش على الصعيد الدولي.

وختامًا فقد أصبح التحايل على العقوبات والقيود الغربية أو الدولية والإفلات منها أمرًا ممكنًا من قبل الدول المفروض عليها ما يؤكد قلة فاعلية هذه السياسة في ردع أي سلوك عدواني أو انتهاك للقانون الدولي تقوم به إحدى الدول، ومن ثم إيجاد صعوبة لتحقيق الردع لها. وعليه نجد أنه كلما زاد استخدام ما يعرف بـ”أساطيل الظل” سيزداد المشهد الجيوسياسي تعقيدًا خاصة في ظل التوترات الدولية في الآونة الأخيرة.

د. جهاد نصر

رئيس برنامج دراسات الجيوبوليتيك بالمركز- مدرس مساعد بقسم العلوم السياسية جامعة ٦ أكتوبر، متخصصة في مجال الجيوبوليتيكس، وشئون الأمن الإقليمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى