خيارات متباينة.. إلى أين يتجه المشهد في الداخل السوري؟
في 27 نوفمبر 2024، شن تحالف من مقاتلي المعارضة هجومًا كبيرًا ضد الجيش السوري والقوات الموالية للحكومة، حيث جاء الهجوم الأول على خط المواجهة بين إدلب التي تسيطر علي أغلبها المعارضة ومحافظة حلب المجاورة، وبعد ثلاثة أيام استولى مقاتلو المعارضة على ثاني أكبر مدينة في سوريا. ثم تلا ذلك سقوط المدن الأخرى وصولًا إلى دمشق. ولقد أطلق على هذا الهجوم إسم عملية “ردع العدوان”، وخاضته عدة مجموعات سورية مسلحة معارضة بقيادة “هيئة تحرير الشام (HTS)” وبدعم من الفصائل الأخرى. وتعد “هيئة تحرير الشام” – بقيادة أبو محمد الجولاني – الأكبر والأكثر تنظيمًا، حيث حكمت محافظة إدلب من خلال “حكومة إنقاذ” لسنوات قبل هذا الهجوم. ومن بين المجموعات الأخرى التي شاركت في العملية “الجبهة الوطنية للتحرير” و”أحرار الشام” و”جيش العزة” و”حركة نور الدين الزنكي”، فضلًا عن الفصائل المدعومة من تركيا والتي تندرج تحت مظلة “الجيش الوطني السوري”، وتجدر الإشارة إلى أن هناك خطابات على لسان “الجولاني” منذ أكثر من عام وقبل “طوفان الأقصى” لرفاقه يؤكد فيها على جاهزيتهم لدخول دمشق والاستيلاء على الحكم والإطاحة بنظام بشار الأسد الذي أنهكته طول المواجهة والظروف الاقتصادية التي حالت وقدرته على دفع الرواتب النظامية لقواته المسلحة.
عانت سوريا من تحديات إعادة تأسيس الدولة بعد الحصول على الاستقلال في عام 1946، وعانت أيضًا من موجات متلاحقة من الانقلابات العسكرية التي أدت في النهاية إلى مرحلة “آل الأسد” التي استمرت لأكثر من 53 عامًا في حكم سوريا، وفشلت معها جهود إعادة تأسيس الدولة من خلال إصلاح مؤسسات العدالة، ومعالجة الفساد، والحوكمة وتنمية الموارد البشرية وتمكين المرأة ومواجهة تحديات الصحة والتعليم. إن أزمة مشروع الدولة الوطنية متعددة الأوجه وتتخذ أشكالًا مختلفة تبعًا للموقع الجغرافي والتاريخ. ومع ذلك، عبر السياقات الإقليمية والتاريخية، فإنها تقدم نفسها في أشكال مختلفة من التفتت السياسي والعنف والتفكك الاجتماعي والثقافي، ويمكن تحديد أصول الأزمات المختلفة في الحداثة الاستعمارية وفي العنف الشديد الذي يميز هذه الحداثة ما بعد الاستعمارية ووجود أوصياء من الداخل لم يتمكنوا من إنجاح نموذج الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال.
وبمرور الوقت ازدادت وتيرة التفتت والانقسام والتقسيم في سوريا وصولًا لأحداث 2011 وما نجم عنها من التدخل الروسي والإيراني بالتنسيق مع السلطة السورية، فضلًا عن التدخل التركي والأمريكي والإسرائيلي والأوروبي عنوة ومن غير تنسيق مع السلطة السورية، إضافة إلى الاتفاق غير المقبول (ولكن يمكن فهمه في إطار رغبة بشار الأسد في الاستمرار في الحكم) ما بين السلطة السورية والمعارضة المسلحة على أن تُبعد المعارضة عن محافظات مثل دمشق وريفها والتي اكتفى بها بشار الأسد لعدة سنوات إلى أن اجتاحت المعارضة المسلحة بقيادة “هيئة تحرير الشام” وزعيمها أحمد الشرع “الجولاني” سوريا وأسقطت في الثامن شهر ديسمبر لعام 2024 حكم بشار الأسد الذي وصل إلى مقاليد السلطة في عام 2000، وفي حالة من الاستسلام التام للجيش السوري وبما يثير التساؤولات التي يمكن أن تظل الإجابات عليها مبهمة للأبد.
دلالات لغة الخطاب للجولاني
لقد حرص الجولاني على تقديم نفسه للمجتمع السوري والإقليمي والعالمي على نحو مغاير بداية من المظهر الخارجي “الشكل”، حيث حرص على تهذيب لحيته وإظهارها على نحو عصري وليس على النمط الجهادي المعروف لدى العامة، كما حرص على تغيير لغة خطابه واختيار كلماته بعناية وعقل كما حدث في لقائه مع “سي إن إن”. وفي دلالات ذات مغزى متعدد الأبعاد حرص أن يكون حديثه الأول للمجتمع السوري من داخل المسجد الأموي. وهنا نجد تفسيرات وفق الأيديولوجيا التي يتبناها، ويعرفها المتابع للأمر والتي ينبغي علينا أن نتعرض لها.
ووفق الرؤية الأولى، هناك من يرى استمرارية النهج الجهادي والإقصائي للآخر وحرصه على التحدث من المسجد وإرجاع النصر للجهاديين والأمة الإسلامية مما يعني عدم اكتراثه بمفهوم الدولة الوطنية. في حين يرى آخرون أن الحديث من المسجد الأموي رسالة إلى إيران بأن الدولة الاموية وحضارة الشام مستمرة وهي التي سيطرت وطردت إيران الشيعية من الأراضي السورية. كما يرى بعض المختصين في شأن الحركات الإسلامية أن ثمة تغيرًا ملحوظًا في لغة النهج الجهادي في خطاب الجولاني وميله إلى استخدام لغة معتدلة في الحديث. أما الرأي الأرجح فإنه يميل إلى الحذر في التفسير والتأويل وعدم استباق الحكم قياسًا بلغة خطاب الخميني في إيران و”الإخوان المسلمين” في مصر في بداية الحكم وهو الأمر الذي ما لبث أن شهد تغيرات جذرية على الأرض.
ماذا بعد؟
إن التساؤل الرئيس والذي يفرض نفسه الآن هو ما شكل النظام السياسي القادم في سوريا؟ وهل سيكون نظامًا إسلاميًا أم علمانيًا أم ديمقراطيًا يقبل التنوع داخله؟، خاصة في ظل حالة التباين والتناقض الشديد بين فصائل الجيش الحر سابقًا الأقرب للعلمانية، و”هيئة تحرير الشام” ذات المرجعية الإسلامية والتي تمتد جذورها إلى تنظيمي “داعش” و”القاعدة” الإرهابيين، و”قسد” ذات النزعة الانفصالية الكردية. والخطورة أن هذه التنظيمات هي تنظيمات عسكرية مما يفتح المجال أمام تطور الخلاف السياسي بينها إلى نزاع سياسي ثم إلى صراع عسكري. إلى جانب انعكاسات تغير النظام السياسي السوري على علاقات سوريا الإقليمية والدولية، وما هي حدود “الشام” وفق إسم الهيئة وما المناطق التي سيتم “تحريرها” أم سيتم تغيير إسم الهيئة؟، وما هو الموقف من التواجد الروسي والإيراني العسكري بوجود قوات غربية والانضمام إلى تنسيق صامت مع الناتو بخاصة بعد نقل إسرائيل إلى القيادة المركزية للقوات الامريكية في المنطقة؟، وهل سينعكس ذلك على مصادر تسليح الجيش السوري الذي يقتصر تسلحه على المصدر الروسي؟ وكيف سيتغلب النظام الجديد في سوريا على التحديات الاقتصادية بعد حالة الانكماش والتصدع التي شهدها الاقتصاد السوري في العقد الأخير وموقف دول الخليج العربي من مساعدة الاقتصاد السوري والموقف من التجمعات الاقتصادية التي تتزعمها الصين وروسيا الاتحادية، وهو الامر الذي يشير إلى الاحتمالات والسيناريوهات التالية في الساحة السورية:
سيناريو السعي نحو بناء الدولة: وفي هذا السيناريو يستفيد قائد قوات المعارضة أحمد الشرع “الجولاني” من تجارب الفشل والصراع في النماذج العربية السابقة في ليبيا واليمن والسودان وقبلها في الصومال ويعمل على تجنب الوقوع في هذا الفشل، وعليه يتجنب عملية الانتقام والثأر وانهيار مؤسسات الدولة خاصة المؤسسات الأمنية والخدمية، وأن يعلن خطة انتقال سريعة وتشكيل جمعية تأسيسية من التيارات الوطنية المختلفة وتمثيل الأقليات وإعداد دستور للبلاد أو العمل بالدستور الحالي مع إدخال بعض التعديلات عليه وتحديد صلاحيات الرئيس ورئيس الوزراء والاتفاق على النظام الرئاسي في موعد لا يتعدى العام الميلادي، حتى لا تدخل البلاد في نفق المزايدات والمشاحنات والاستقطاب والتدخلات الإقليمية والدولية، ثم الإعلان عن موعد الانتخابات الرئاسية.
ولا شك أن هذا السيناريو يحتاج إلى إرادة حقيقية من جانب المعارضة المسلحة في النجاة بالدولة الوطنية السورية وعدم جرها إلى مربع الانهيار والفشل، والاتفاق على مفهوم الجيش الوطني ومن له حق حمل السلاح وتسليم الفصائل لسلاحها إلى الدولة التي يتم الاتفاق على شكلها. كما يتوقف على المساندة الدولية والإقليمية وقد تكون هناك نوايا من جانب الولايات المتحدة الأمريكية لإنجاح مثل هذا النموذج ليعد نموذجًا يمكن طرحه في المنطقة فيما بعد ومن هنا قد تكمن الخطورة في المستقبل، وقد يكون الاتفاق مع إسرائيل هو كارت المرور للمعارضة على الصعيد الدولي.
سيناريو الانتقال لمرحلة جديدة من الصراع: حيث تتقاتل الفصائل المسلحة بعد انتهاء نشوة الانتصار بسقوط نظام الأسد، ويتم الاقتتال على تقسيم مناطق النفوذ فيما بينهم، ويحدث صراع بين أطراف المعارضة خاصة، وأيضًا الاقتتال والتناحر مع فصائل أخرى على الأراضي السورية ولجوء كل طرف للاستقواء بالخارج. ووفق هذا السيناريو قد تدخل سوريا في دوامة الاقتتال الداخلي وحرب أهلية تستمر لسنوات طويلة وتحول الأراضي السورية إلى ملجأ آمن لإرهابيين جدد، مما يجد مبررات لتدخلات إقليمية ودولية أكبر حيث ستدخل إسرائيل وتضم أراضي سورية جديدة لها وكذلك تركيا وإيران مع تحديد مناطق للولايات المتحدة وروسيا وبعض الدول الأوروبية الأخرى التي كانت تسعى لتأمين إمدادات الغاز والطاقة لها عبر الأراضي السورية. وتبدأ مرحلة جديدة لسوريا على غرار النموذج الأفغاني يستمر لعقد من الزمان على الأقل وقد يتبعه هذا السيناريو تقسيم الدولة أو توحيدها بناء على الدرس الذي سيتعلمه المتقاتلون.
سيناريو التقسيم: يعتمد هذا السيناريو على نتائج السيناريو الثاني، وهنا يبدأ الصراع من نهايته، حيث يبدأ التقسيم حسب القوى العسكرية الموجودة على الأرض أو وفق الاستقواء بالخارج على أساس عرقي أو على أساس ديني. ويبدأ صراع واقتتال بعد التقسيم وبما يسمح أيضًا بتحول سوريا إلى ملاذ للإرهابيين والجهاديين. والواقع يقول إن الفاعلين من الدول على الصعيدين الإقليمي والدولي، ينبغي أن يعملوا على الحيلولة دون الانجرار لهذا السيناريو وأن التعامل مع دولة موحدة في سوريا يضمن أمن دول الجوار أكثر من التقسيم الذي قد يشجع الأقليات الإثنية والدينية على نهج نفس السيناريو في تركيا وإيران وربما في دول أوروبية مثل إسبانيا وغيرها أيضًا.
سيناريو الدولة الدينية: وهنا يستطيع “الشرع” وهو الشخصية الأقوى ميدانيًا أن يتفرد بحكم سوريا ويبدأ الوجه القبيح في الظهور وإعلان قيام دولة دينية في المنطقة وتتخذ من سوريا قلب لها لتكون جناح آخر موازٍ للدولة الإيرانية ولتعطي أملًا في انتشار مثل هذا النموذج للتيارات الدينية في المنطقة، خاصة بعد استيلاء طالبان على الحكم في أفغانستان وسيطرة الحوثيين على صنعاء ووجود إيران منذ 1979، وبما يحمله من مخاطر جمة على المنطقة بأسرها، وهنا أيضًا قد يكون الاعتراف والسلام مع إسرائيل كارت مرور المعارضة في ثوبها الديني للعالم لكي تنال الاعتراف، أو الاكتفاء بالتعامل بطريقة غير مباشرة حيث أن الصدام بإسرائيل لن يجعلها تدوم طويلًا.
وأخيرًا، إن الوضع الجيوبوليتيكي المعقد لسوريا، وتاريخها السياسي الحديث الملئ بالتناحر والاختلافات والانقلابات، والتداخلات الإقليمية والدولية لا ينبئ بعملية انتقال سلس داخل سوريا، ومن المرجح ظهور الاختلافات بعد أن تذهب السكرة وتأتي الفكرة وأن الاختلاف سيبدأ حتى ولو توافرت نوايا حسنة من جانب المعارضة المسلحة. أما إذا ارتأت المعارضة بأنها لابد وأن تجني ثمار ما فعلت وأن تحتكر المشهد السياسي في سوريا، فإن سوريا حينئذ ستنضم إلى قائمة الدول الفاشلة وعلى نحو قد لا يعيدها لقائمة الدول الوطنية المركزية مرة أخرى خاصة في ظل غياب إرادة النظام العربي تمامًا وعدم وجود استراتيجية واضحة المعالم للتعامل مع سوريا منذ 2011 وحتى الآن، وتضارب الرؤية وتناقضها وتغيرها من لحظة لأخرى وغيابها عن التطورات الميدانية الحقيقية على الأرض، حتى أنه تمت دعوة بشار لحضور القمة العربية حتى تم الإطاحة به بعدها بأسابيع قليلة مما يشير إلى وجود خطأ استراتيجي في التقديرات، فضلًا عن غياب أي جهوزية جمعية للتعامل المستقبلي مع السيناريوهات المحتملة للمشهد الداخلي لسوريا، واقتصار التعامل المحتمل مع المشهد السوري على التجارب التاريخية كما حدث في المشهد الليبي أو السوداني أو على الأكثر اليمني.