تأثير الفاعلين: ماذا يحدث في سوريا؟
في يوم 27 نوفمبر الماضي، اشتعلت الساحة السورية بشكل مفاجئ وذلك بدخول الفصائل المسلحة والتي شكلت تحالف مكون من ضم “هيئة تحرير الشام” (المعروفة بـ”جبهة النصرة” سابقاً) وفصائل من “الجيش الوطني” المدعوم من تركيا، إلى عدة مدن وبلدات شمالي سوريا، واستيلائهم على مقار عسكرية وأمنية ومطارات منها مطار حلب ومطار أبو الظهور بإدلب، وسط انسحاب تام لقوات الجيش السوري. يُذكر أن هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولاني تتزعم بعض هذه التنظيمات الإرهابية.
لقد طرح الهجوم المفاجئ، العديد من التساؤلات حول الانسحاب السريع للجيش النظامي، وتأخر ردة الفعل من حلفاءه في إيران وروسيا، وسهولة سيطرة عناصر تلك الجماعات في الأيام الأولي للهجوم.هذا التطور السريع في المشهد جاء مباشرة عقب إعلان وقف إطلاق النار في لبنان جراء العدوان الإسرائيلي الغاشم علي الأراضي اللبنانية، بالتزامن مع عدوانه أيضا علي قطاع غزة منذ أكثر من عام.
تجدر الإشارة أن هناك أطماع العديد من الأطراف الدولية والإقليمية في المنطقة العربية، التي باتت لا تخفى علي أحد، وظهر ذلك جلياً في سوريا ومن قبلها العراق وليبيا واليمن. وتلك الجماعات المتطرفة سالفة الذكر، تخًدم بشكل كبير ومنظم علي مصالح هؤلاء الأطراف في الأراضي السورية وهم (الولايات المتحدة، إسرائيل، وتركيا، بالإضافة إلى فاعل دولي جديد يتمثل في أوكرانيا) ولكل منهم أهدافه وأطماعه الخاصة، هذا فضلا عن التواجد الروسي الإيراني في سوريا، دعماً لنظام الأسد وحفظاً لمصالحهم أيضاً، ما جعلها ساحة حرب واقتتال لأكثر من فصيل علي الأرض، كما أنها أصبحت تربة خصبة للإرهاب بشكل عام.
وعليه، سنحاول من خلال هذا التحليل الإجابة علي بعض التساؤلات فيما يتعلق بما هو الوضع الراهن في سوريا؟، وما السبب وراء انتعاش تلك الجماعات المسلحة في هذا التوقيت؟ وما هي علاقة الأطراف الإقليمية والدولية بهذا المشهد؟ ومآلاته المحتملة علي سوريا وعلي المنطقة بشكل عام؟
الوضع الراهن:
إن الحديث عن الجماعات المتطرفة في الأراضي السورية والتي تسعي لخراب سوريا الآن وتفكيكها خدمة لأطراف إقليمية ودولية، ولأسباب عدة سنتطرق إليها بالتفصيل لاحقاً، لا ينفي علي الإطلاق حقيقة الثورة السورية في عام 2011 ضد نظام الأسد، والتي قُوبلت بالقمع، والأصل هنا أن هذا النظام هو ما استجلب في بداية الأمر غزاة الأرض ومتطرفيها إلي الأراضي السورية، ثم ظهرت تلك الجماعات المسلحة، المدعومة خارجياً، لتجد من ذلك الاستجلاب فرصة لخلق بيئة مؤامة لها، كما أن هذه التنظيمات حاولت أن تستتر مراراً وتكراراً خلف رداء المعارضة، وتصعد علي أرواح المدنيين الذين ثاروا سليماً آنذاك ضد النظام الحاكم، وبالفعل نجحت في ذلك إلي حد كبير، ما يجعل البعض يوجد تبرايرات للمشهد السوري بأنه حرب أهلية سورية داخلية أو ثورة شعب ضد نظام دكتاتوري فقط. وصحيح أن ذلك كان سبباً في بادئ الأمر، إلا أن الأطماع الإقليمية والدولية جعلت من الأراضي السورية مسرحاً لكافة الأطراف، التي تدعم التطرف والإرهاب لخدمة مصالحها ومخططاتها.
وفي ظل المفاضلة بين السيئ والأسوأ، فلا عجب أن بقاء النظام أخف ضرراً من انهياره وسقوط سوريا بالكامل، حيث أن اشتعال الجبهة السورية في هذا التوقيت الحرج الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط، ما هو إلا لتحقيق مكاسب جيوسياسية لفواعل خارجية، من خلال تغيير شكل المنطقة وتوسيع دائرة الصراعات والفوضى بها، من خلال إضعاف الخصوم وزيادة النفوذ، واختفاء أنظمة وصعود أخري. لأن سقوط سوريا الآن كدولة ذات سيادة ونظام اختلفنا أو اتفقنا معه، يعني تقسيم سوريا لدويلات تسيطر عليها جماعات متطرفة، وجعلها بؤرة لنشر الإرهاب في المنطقة. وبعدها لن تتوحد سوريا مرة أخرى وسيصير حالها كما حال العراق واليمن وليبيا والسودان.
الأطراف المنوطة بالأزمة:
ثمة أطراف إقليمية ودولية تلعب دور واضح فيما يحدث في سوريا، وهم كالتالي:
أولا : الأطراف الإقليمية
(*) إيران: كما هو معلوم أن إيران سعت كثيراً لتعزيز وجودها العسكري والسياسي في سوريا كجزء من مشروعها الإقليمي، ناهيك عن البعد المذهبي ودعمها المفتوح للعلويين، خاصة بعدما استعان بها نظام الأسد للقتال بجانبه في سوريا، فقد كانت طهران تطمح أيضاً إلي ترسيخ نفوذها خاصة قرب الحدود مع الاحتلال الإسرائيلي،عبر أذرعها الممتدة، وقد شارك العديد من كتائب الحرس الثوري الإيراني وقيادات ومقاتلي حزب الله في الأزمة المندلعة في سوريا، ولعل هذه المشاركة هي ما جعلت الحزب مكشوفاً ومخترقاً من قبل الكيان الصهيوني، حتى تم تصفية كافة قياداته البارزة في العدوان الإسرائيلي الأخير علي لبنان.
وبالنظر إلي التطور المفاجئ من قبل الجماعات المسلحة في سوريا وسيطرتها السريعة علي حلب وغيرها من المدن دون مقاومة، والتساؤل عن أين الوجود والدعم الإيراني المعتاد بقوة لنظام الأسد وجيشه، نجد أن الأسباب قد تنحصر بوضوح فيما يلي:
- انخراط حزب الله في جبهة الإسناد المفتوحة في لبنان لدعم غزة، وسحب عدد كبير من مقاتليه في سوريا، لمواجهة العدوان الإسرائيلي علي الأراضي اللبنانية.
- تصفية القيادات في محور المقاومة الإيراني بشكل عام وحزب الله بشكل خاص، والذي قد يمثل مؤشراً خطيراً بالنسبة لطهران علي قرب انتهاء هذا المشروع في المنطقة، ما يجعل هناك مخاوف من أن تغامر طهران بما تبقي لها من نفوذ ضمن هذا المحور.
- التخوف الإيراني من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وسياساته المتشددة تجاه البرنامج النووي، واحتمالية فرض عقوبات كبيرة علي طهران بمجرد تنصيه في يناير المقبل، ولعل هذا ما جعل طهران تنشغل وتبادر بالتحرك الدبلوماسي نحو الحكومات الأوروبية في مباحثات جينيف الأخيرة في نهاية نوفمبر الماضي، في محاولة للوصول إلي اتفاق بشأن ملفها النووي، من خلال قبولها ببعض الشروط المتعلقة بالرقابة الدولية والتفتيش، وهذا الملف علي وجه التحديد سبب كاف لإيران بأن تغض الطرف ولو قليلاً عن الانخرام التام في الجبهة السورية.
- تطور المشهد في سوريا جاء في ظل تهديد النظام الصهيوني للعراق بأنه إذا استمر هجوم المقاومة العراقية المدعومة إيرانياً على تل أبيب، فإن سلاح الجو الإسرائيلي سيحدد هوية مسئولي الحشد الشعبي وقادة مقاومة العراق بنفس الطريقة التي قتل بها قادة حزب الله في لبنان وسوف يتم اغتيالهم، وهذا التهديد دفع المقاومة العراقية إلى وقف عملياتها تحت ضغط من الحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السوداني.
- التصعيد الإسرائيلي ضد طهران، والذي ظهر بوضوح يعد التصريح الذي ادلي به نتننياهو، معلناً موافقة حكومته علي اتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله في لبنان، قائلا “بعد أن حاربت إسرائيل علي سبع جبهات في آن واحد، وحققت انتصارات عسكرية فيها كلها، فإن المعركة الرئيسية القادمة سوف تكون مع إيران لتصميم إسرائيل علي عدم تمكينها من امتلاك سلاح نووي” وهو ما يعني أن الحرب مع إيران قادمة بشكل أو بآخر، وأن تدمير مفاعلات إيران النووية يظل هدفه الاستراتيجي الأهم، مهما كان حجم التكلفة التي سوف تدفعها إسرائيل فيه.
- تحركات إيران العسكرية في سوريا من خلال حرسها الثوري بقواعده وقواته ومراكز عملياته، باتت مقيدة ومعرقلة إلي أقصي حد، بملاحقة إسرائيل ومهاجمتها المستمرة لها لإزالة كل أثر للتواجد العسكري الإيراني من الأراضي السورية، وهي تجد في ذلك تعزيزاً لأمن قواتها وقواعدها العسكرية في الجولان المحتل، وكذلك قطع للشريان الحيوي الذي يربط بين إيران وحزب الله في لبنان، وأن ذلك لا يتحقق إلا بتدمير المعابر السورية اللبنانية، وبإزالة كافة أشكال التهديدات الإيرانية من علي حدودها الشمالية للحفاظ علي أمن مستوطنيها في المناطق الحدودية.
(*) الاحتلال الإسرائيلي: منذ بداية الأزمة السورية كان للاحتلال الإسرائيلي دوراً فيها علي الرغم من أنه ليس طرفاً من أطرافها، وظهر ذلك من خلال الضربات التي استهدف بها إيران ووكلائها داخل سوريا، ولمنع النظام السوري وحليفه الإيراني من السيطرة الكاملة على البلاد، وقد أشارت بعض التقارير إلى وجود اتصالات محدودة وغير مباشرة مع فصائل في جنوب سوريا خاصة بالقرب من الجولان لتأمين الحدود وخلق منطقة عازلة.
وعلي صعيد الأحداث الطارئة الآن، فيعتبر الاحتلال الإسرائيلي من أكثر الأطراف المستفيدة من اشتعال جبهة سوريا، بل ولا يمكن تبرأته علي الإطلاق من كونه سبباً وراء إشعالها، نظراً لما يلي:
- سيحد نشاط تلك الجماعات المسلحة في هذا التوقيت من الوجود الإيراني في سوريا لا محالة، بل ومن المرجح طبقاً للعديد من الخبراء والباحثين أن يمنع ذلك طهران وحزب الله من تأسيس وجود عسكري دائم قرب الحدود مع الاحتلال الإسرائيلي خاصة في الجولان، ومنع توحيد سوريا تحت سلطة مركزية قوية.
- تفاقم نشاط تلك التنظيمات المسلحة في سوريا، قد يُتخذ ذريعة أمام الرأي العام العالمي، من قبل حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية للتدخل في سوريا بحجة مواجهة الإرهاب الحدودي، والذي هو بالأساس صناعة صهيوأمريكية بجدارة لخدمة مخطط التقسيم وإعادة تشكيل شرق أوسط جديد بما يضمن أمن إسرائيل.
- محاولة قطع الطريق أمام المساعدات التي تصل إلي حزب الله اللبناني عبر الأراضي السورية، وكما نري هذه الحكومة الإسرائيلية المتطرفة تنتقل من جبهة لأخرى وتعتدي علي أكثر من مدينة عربية في وقت احد دون رادع.
- توجيه أنظار العالم بعيداً عن الإجرام الإسرائيلي في قطاع غزة وفي الضفة الغربية المحتلة، في ظل ما يمارسه هذا الاحتلال الدموي البربري من إبادة جماعية وجرائم حرب موثقة ضد الشعب الفلسطيني، ما دفع المحكمة الجنائية الدولية بأن تصدر مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير دفاعه المُقال جالانت.
- الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل ومناصرتها لها في كافة الجبهات، وخاصة الدعم العسكري، من أجل ترسيخ القدم الصهيونية في الشرق الأوسط وإعادة رسم ملامح المنطقة بما يخدم مصالح واشنطن وتل أبيب، ففي مقابل موافقة حكومة نتنياهو علي اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، زودتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، بصفقة أسلحة أمريكية محظور بيعها لأية طرف خارجي، والتي قد تُستخدم في التصعيد المباشر ضد إيران لاحقاً.
ومن الجديد بالذكر، أن قرار تزويد إسرائيل بهذه الأسلحة الهجومية التي كانت محظورة عليها في السابق، كان قراراً مشتركاً بين إدارتي بايدن وترامب. ومن وجهة نظر الخبراء في هذا الشأن فإنه لاشك أن هناك تصعيدا خطيراً في الشرق الأوسط تم الإعداد له مسبقاً، ولم تكن إدارة جو بايدن لتعطي موافقتها علي هذه الصفقة وتسمح بها وهي توشك علي الرحيل، إلا إذا كانت الإدارة القادمة شريكاً متضامناً معها في هذا القرار الاستراتيجي الخطير ومخطط التصعيد المرتقب.
(*) تركيا: تُعد شريكاً في اشتعال الأزمة السورية، كونها تمثل الدور الرئيسي والمباشر في الخدمات اللوجستية للفصائل المسلحة داخل سوريا، وأبرزها فصائل (الجيش الوطني الحر، والسلطان مراد، وسليمان شاه، وأحرار الشرقية)، ولا شك أن الدعم التركي غير المنقطع لتلك الفصائل، هو أحد أهم الأسباب التي تقف خلف انتعاشها مرة أخري وهجماتها الأخيرة المفاجئة شمالي سوريا، ويبدو أن هذه التنظيمات المدعومة تركياً تهدف نحو المسير شرقاً لمباغتة القوات الكردية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية والمعروفة بقوات (قسد) المتواجدة في “تل رفعت وعفرين”. وكذلك مهاجمة عدة قري أخري ذات أغلبية كردية ك “الشهباء” للسيطرة عليها وطرد قوات (قسد) منها، نتيجة مخاوف أنقرة من التوسع الكردي علي الحدود.
ولطالما كانت التنظيمات المدعومة من تركيا في شمال سوريا على خلاف مع الجماعات الكردية، وخاصة حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره أنقرة منظمة إرهابية. وقد قالت الإدارة الذاتية الكردية إن هذا “العدوان الأخير من التنظيمات المسلحة يستهدف احتلال وتقسيم سوريا وتحويلها إلى مركز للإرهاب الدولي، وأن الهجمات التي بدأت في حلب وحماة لا تقتصر على منطقة معينة، لكنها تشكل تهديداً لسوريا برمتها”.
كما تشير العديد من التقارير إلى أن الأسلحة الجديدة التي تستخدمها التنظيمات المسلحة في سوريا، من مدفعية وطائرات مسيرة أوكرانية جديدة، قد تم تسليمها إلى هيئة تحرير الشام عن طريق تركيا، وبخلاف ذلك فإنهم لا يملكون أي أسلحة أخرى في إدلب سوى الأسلحة الفردية. وسابقا، ذُكر أن أردوغان قد طلب الاجتماع والتفاوض مع بشار الأسد، لكن الأخير أكد باستمرار أنه ليس على استعداد للقاءه طالما أن الجيش التركي يحتل جزءاً من سوريا.
ومن الجديد بالذكر، أيضاً أن تصرفات تركيا الحالية تتعارض مع اتفاقيات “أستانا” التي تعتبر هذه المنطقة في سوريا منطقة خفض تصعيد، كما رفض أردوغان في مفاوضات سابقة، أية مقترحات تتعلق بإنهاء وجود المتطرفين في إدلب.
وتزداد المخاوف مع هذا التصعيد الأخير من سيطرة تلك التنظيمات المسلحة داخل سوريا والمدعومة من أنقرة، بأن ينتقل نشاطها إلى العراق والأردن وغيرهم من دول المنطقة. وهناك سوابق تدين تركيا، حيث أرسلت أنقرة نحو ما يقرب من خمسة آلاف من هؤلاء المرتزقة سوريين وغيرهم إلى ليبيا والنيجر وأذربيجان لتعزيز نفوذها هناك.
ثانياً: الأطراف الدولية:
(&) الولايات المتحدة: تسعي واشنطن من خلال اشتعال الأوضاع في سوريا، لتقليص النفوذ الروسي الإيراني بها، وضمان الاستقرار الأمني لإسرائيل، كما أن تفاقم المشهد في الأراضي السورية يمنحها أيضاً ذريعة للوجود العسكري في سوريا بحُجة القضاء علي الإرهاب، ما قد يجعلها تتحكم في ملفات إقليمية عديدة، إلي جانب تواجدها الفعلي في الخليج والبحر الأحمر. أي أن أمريكا مستفيدة من اشتعال الساحة السورية لإحكام هيمنتها علي المنطقة.
ويبدو أن مخطط التصعيد يُجري تنفيذه علي قدم وساق، ودعمه أمريكياً،وأن ما لم يتحقق في ظل إدارة بايدن، سوف يتحقق مع إدارة ترامب وربما بوتيرة أسرع، ويتضح هذا من تركيبة حكومته المرتقبة، باختياره مجموعة من غلاة المتشددين ممن يشغل الشرق الأوسط حيزاً كبيراً من اهتماماتهم وأولوياتهم.
(&) روسيا: لديها تاريخ طويل من دعم نظام الأسد منذ اندلاع الأزمة في عام 2011، وقد تدخلت بشكل مباشر منذ عام 2015، واستخدمت قواتها الجوية لدعم الجيش السوري ضد فصائل المعارضة، كما أنها تُزوّده بأسلحة متطورة بما في ذلك الدفاعات الجوية مثل إس-300، والمدرعات والطائرات، كما تدرب الجيش السوري على استخدامها.
ولقد لوحظ مع اشتعال المشهد في سوريا في الأيام القليلة الماضية تراجع بل وقد يكون غياب الدور الروسي ولم يظهر إلا حينما طلب منه نظام الأسد التدخل لإسناد قوات الجيش السوري ومهاجمة الفصائل المسلحة. فروسيا غارقة في حربها مع أوكرانيا مما انعكس سلباً علي فاعلية دورها الأمني في سوريا، وهو ما شكَل فرصة أمام الفصائل والتنظيمات المسلحة في الداخل السوري، للتخطيط للهجمات الأخيرة والاستيلاء علي مدن الشمال بهذه السرعة.
من الواضح أنه ليس بمقدور موسكو أن تحارب علي جبهتين كبيرتين في وقت واحد وأن الأولوية بالنسبة لها تذهب الآن لأوكرانيا، خاصة مع التصعيد الأخير بالسماح للرئيس الأوكراني زيلينسكي باستخدام صواريخ طويلة المدى داخل العمق الروسي، لذا من المحتمل أن روسيا قد تستعد لحرب مع الناتو إذا لزم الأمر. ولا يجب أن نغفل أيضاً عن أنه هناك تمدد روسي كبير بدأ يحل محل الوجود الفرنسي في إفريقيا ومن المؤكد أن اهتمام الكرملين سينصب علي هذه الزاوية في الفترة المقبلة.
وقد يستمر الدعم الروسي لسوريا ولكن بشكل مختلف مع الوقت،كالاعتماد على دعم النظام السوري بالسلاح والمستشارين العسكريين بدلاً من التدخل المباشر علي الأرض، مع استمرار أيضاً الدعم الدبلوماسي في المحافل الدولية مثل مجلس الأمن، لمنع أي تدخل دولي ضد نظام الأسد.
(&) أوكرانيا: الجديد في اشتعال المشهد في سوريا مؤخراً، هو وجود مشاركة أوكرانية مع “هيئة تحرير الشام” المسلحة في معاركها ضد الجيش السوري في جبهات حلب وحماة وإدلب، بل أشارت المعلومات الأولية المتداولة إلي وجود مقاتلين أوكرانيين في تلك الجبهات، وهذه المجموعات الأوكرانية الموجودة في سوريا تابعة لوحدة “الذئب الأبيض”، التابعة لجهاز الأمن الأوكراني، وهي وحدة متخصصة بتطوير الطائرات من دون طيار، كما أنها تؤدي دوراً بارزاً في ضرب الجيش الروسي عبر المسيَرات في الجبهة الأوكرانية، إذ أنها تمتلك نظام سلاح الطائرات من دون طيار بالكامل.
فضلاً عن تداول معلومات بشأن صفقة تم تنفيذها قبل بدء الهجوم علي حلب بين “هيئة تحرير الشام” والاستخبارات الأوكرانية، تضمنت الإفراج عن مقاتلين أجانب من جنسيات جورجية وشيشانية وألبانية من سجون الجولاني، وضمهم إلي الوحدة الأوكرانية شمالي غرب سوريا.
هذا التطور الخطير في المشهد سيزيد الأوضاع سوءاً في سوريا خاصة إذا فُتحت جبهة للاقتتال الروسي الأوكراني علي الأراضي السورية. ويبدو أن هذا ما تريده أوكرانيا، لنقل الحرب خارج أراضيها.
مآلات المشهد:
لا شك أن إسقاط سوريا وتفكيكها يخدم مخطط تفكيك المنطقة وتغيير معالمها وإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وهذا بطبيعة الحال يصب في الصالح الأمريكي والإسرائيلي في المقام الأول. فالإرهاب تحديداً في منطقتنا العربية هو صناعة أمريكية بامتياز، يستخدمها البيت الأبيض وقتما وكيفما شاء، وعلي سبيل المثال لا الحصر، في أغسطس 2016 يُذكر أن دونالد ترامب اتهم أوباما وكلينتون علناً بأنهم وراء تأسيس تنظيم الدولة (داعش). وفي أبريل 2023 اعترف روبرت كندي المرشح للرئاسة الأمريكية قائلاً “نحن من صنعنا داعش”. وثمة غيرهم من المسئولين السياسيين ورجال الاستخبارات الذين اعترفوا أن داعش والجماعات المتطرفة في منطقة الشرق الأوسط هي صناعة أمريكية بحتة.
لذا لا يمكن تبرأة واشنطن وتل أبيب مما يحدث الآن في الأراضي السورية، بل لهم اليد الطولي فيه بهدف تحويلها إلي بؤرة إرهابية تهدد المنطقة بأكملها لإتمام المخطط الصهيوأمريكي لتغيير معالم المنطقة، والتحول بها نحو شرق أوسط جديد، يصبح للاحتلال الإسرائيلي فيه الحيز الأكبر، من حيث المساحة والنفوذ، كما صرح نتنياهو من قبل في خطابه أمام الجمعية العامة قبيل السابع من أكتوبر 2023، بإعلانه خريطة إسرائيل الكبري علي الملأ. كما أن خراب سورياسوف يذهب إلي ما بعدها، فها هو الاحتلال الإسرائيلي يقضي علي حركات المقاومة وقياداتها في المنطقة، ويسعي الآن لإسقاط وتفكيك الدول (أنظمة وسيادة ومفهوماً) والقضاء علي جيوشها. وها هي البداية في سوريا، وطبقاً للخبراء، فبمنطق نظرية “الدومينو”، فإن الآخرين سوف يسقطون وراءها تباعاً، سيما وأن المنطقة تعيش واحدة من أسوأ لحظات تاريخها علي الإطلاق.
والخوف الأكبر الآن هو أن تنهار القوات السورية وتستسلم لتلك الفصائل المسلحة علي غرار ما حدث للقوات العراقية في عام ٢٠١٤ في مدينة الموصل بعد مذبحة “سبايكر” التي نفذها تنظيم داعش الإرهابي، وأعقبها دخوله إلي المدينة بزعم إقامة دولة الخلافة بزعامة أبو بكر البغدادي، وهي الفترة التي عاشت فيها الموصل علي يد هؤلاء التتار الجدد أكثر فصول تاريخها سواداً وترويعاً.
ختاماً، لاتزال الأزمة السورية واحدة من أشد الأزمات الإنسانية حدة في العالم، وهناك ما يزيد عن من 16.7 مليون شخص في حاجة إلى المساعدة الإنسانية جراء الأزمة السورية منذ بدايتها عام 2011، فضلاً عن تدفق أكثر من نصف مليون عائد ولاجئ من لبنان منذ عدوان إسرائيل الأخير عليها في سبتمبر الماضي. وهذه التطورات الأخيرة في سوريا، من سيطرة المعارضة المسلحة بهذا الشكل السريع والمخطط له جيداً، تعني أن هذه المنطقة أصبحت خارج سيطرة الحكومة السورية، وأنها أصبحت تُدار بشكل فعلي من جانبها حيث ستتولى الوضع الأمني والعسكري وتفرض قوانينها وتتحكم في الموارد والبنية التحتية وتحوّل هذه المنطقة إلى معاقل للفصائل المسلحة والمتطرفة بما يشكل تحدياً كبيراً ومخاطر شديدة على المدنيين في بلد مزقته ما يقرب من أربعة عشر سنة من الحرب والصراع، كما أن لها عواقب وخيمة على السلام والأمن في الإقليم بأكمله.