ماذا بعد فوز أردوغان بولاية جديدة؟
حسم الناخبون الأتراك خياراتهم خلال الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وانتهي السباق الانتخابي الماراثوني والمصيري بفوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بولاية جديدة، يدخل من خلالها العدالة والتنمية عقده الثالث في حكم تركيا برلمانا ورئيسا.
وكان رئيس الهيئة العليا للانتخابات أحمد ينار قد أعلن عن تقدم أردوغان بنسبة ٥٢,١ ٪، مقابل ٤٧,٨ ٪ لصالح منافسة كمال كليتشدار أوغلو، لتنتهي بذلك فترة حبست فيها الأنفاس كثيرا لمدة أشهر، على المستوى الخارجي والداخلي، بالذات من قبل مناصري أردوغان.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن طرح التساؤلات الآتية، هي: ما الذي تعكسه نتيجة الانتخابات التركية وسلوك الناخبين بوجه عام ؟ وما الذي ينتظر تركيا خلال ولاية جديدة لأردوغان على المستوى الداخلي والخارجي؟.
مؤشرات واضحة:
عكست نتيجة الانتخابات التركية مجموعة من المؤشرات، كان أهمها:
- ظهور الطابع القومي بشكل قوى وحاسم لنتيجة الانتخابات التركية بشقيها البرلماني والرئاسي، بعدما حققت الأحزاب القومية نسبا تصويتية مرتفعة في الانتخابات البرلمانية في ١٤ مايو مقارنة بالاستحقاقات السابقة، الأمر الذي شكل مفاجأة لكثيرين. فقد حصل حزب الحركة القومية حليف العدالة والتنمية ١٠ ٪ من الأصوات، كما حقق حزب الجيد المعارض بزعامة ميرال أكشينار نحو ١٠ ٪ أيضا. وفي المقابل انخفضت نسبة حزب الشعوب الديمقراطي إلى ٩٪ مقابل ١٢٪ خلال انتخابات ٢٠١٨.
ولهذا استغل المرشحين في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية هذا المؤشر،فوضحت النبرة القومية خلال الحملات والخطابات الانتخابية بشكل لافت، حتى أصبحت قضية اللاجئين هي العنوان الأبرز لحملة الجولة الثانية. كما عمل أردوغان على كسب دعم سنان أوغان المرشح القومي، وعلى الجانب الآخر، اصطفت أحزاب قومية أخرى من تحالف الأجداد إلى جانب كليتشدار أوغلو.
وهذا راجع لزيادة أعداد اللاجئين السوريين والأفغان في تركيا خلال السنوات العشر الأخيرة، وتهديدات حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيا، مما حفز النزعة القومية بين صفوف المواطنين الأتراك. ولهذا سيحاول الساسة اللعب على المشاعر القومية لدى الأتراك من أجل إضافتهم إلى قاعدته التصويتية خلال الفترة المقبلة.
لكن، رغم تبنى كليتشدار أوغلو خطابا قوميا بالدرجة الأولى خلال حملته للجولة الثانية _مقارنة بأردوغان _ في ظل تصاعد الطابع القومي، فلماذا لم يستطع حسم الانتخابات ؟، فهل هذا قد يشير إلى تراجع الثقة في المعارضة وبرنامجهم ؟، أم أن الشعور القومي ليس هو المحدد وحده لسلوك الناخب التركي، بل تشترك معه عوامل أخرى، جاء مجملها في صالح أردوغان ؟.
- نجاح العدالة والتنمية في استثمار نقاط ضعف التحالف المعارض، والتي على رأسها شخصية كمال كليتشدار أوغلو ذاتها، والتي أثبتت التجربة أنها تمتلك حضروا سياسيا باهتا. بل وعجزه وتحالفه على استغلال سقطات أردوغان والقدرة على إقناع الناخبين ببرنامجهم.
- أثبتت فشل سردية ” من يفوز بإسطنبول يفوز في الانتخابات “، والتي أكدها أردوغان بنفسه، بعدما نجح أردوغان في الحصول على أكبر عدد من الأصوات في الجولتين، رغم أنه لم يكن متقدما في ولايتي إسطنبول وأنقرة.
- استمرار رؤية غالبية الأتراك التي تفضل وجود القائد الكاريزمي القوي على المستوى الداخلي والخارجي، رغم ما يحوطه من أزمات، وبالذات لدى الأتراك من ذوي الخلفية المحافظة والقومية، التي تري أردوغان بمثابة امتداد للعثمانيين.
- لكن في المقابل، استطاعت المعارضة _ وفقا للأرقام _أن تحقق اختراقا غير مسبوقا في الشارع التركي وتحديا لهيمنه أردوغان وحزبه، مما يشير إلى أن قطاع لا يستهان به في الشارع التركي أصبح يفضل التغيير، والتماشي مع الأفكار الجديدة.
- قد يكون الاحتمال الأقرب هو امتناع ناخبي أوغان عن التصويت، أو غالبيتهم على الأقل. وعليه، فإن نسبة الـ ٢٪ الإضافية التي تحصل عليها أردوغان في ظل تناقص نسبة المشاركة بوجه عام بنحو ٥٪ عن الجولة الأولى ( حيث جاءت نسبة التصويت داخل تركيا أقل من الجولة الأولى )، قد يكون تم تداركها من الأصوات الباطلة والمترددة، إلى جانب أصوات الخارج التي ازدادت بشكل كبير في الجولة الثانية، ودوما ما يكون لأردوغان نصيب الأسد منها.
تأثيرات داخلية:
من المحتمل أن تتضح تبعات فوز أردوغان على الصعيد الداخلي في إطار مجموعة من التطورات، منها:
- قد نشهد تصدعا في صفوف المعارضة التركية، وتحديدا من قبل الأحزاب ذات الرؤي القومية والمحافظة، بعدما بدت غير منسجمة وغير متماسكة تجاه جل العقبات التي واجهتها خلال الأشهر الماضية، فقد شهدنا استقالات عديدة في صفوف الأحزاب المعارضة بشكل فردي وجماعي، كما شهدنا أيضا انسحاب ميرال أكشينار من تحالف الطاولة، وأشيع أنها عادت بجهود خارجية، ناهيك عن الاتهامات التي وجهت لها في وقت سابق بالتقاعس عن دعم مرشح الطاولة، الأمر الذي قد يؤشر له مسارعتها بتهنئة أردوغان علنا عقب إعلان فوزه مباشرة.
- الانتخابات التركية بشقيها الرئاسي والبرلماني عكست تراجعا ملموسا في شعبية الرئيس التركي وحزبه، مما قد يدفعهم للعمل على تنفذ كافة وعودهم الانتخابية كبوابة لاستعادة شعبيتهم. ولهذا فمن غير المرجح أن يتقاعس أردوغان وحزبه عن وعوده التي قدمها خلال حملته الانتخابية، كدعم الضحايا والمناطق المتضررة من الزلزال.
- قد يختص أردوغان وحزبه ولايتي إسطنبول وأنقرة في إطار تحركاته المقبلة بمجموعة من المحفزات، وبالذات الاقتصادية، من أجل استعادة الثقة من جانب سكان الولايتين في حزبه مرة أخرى، خاصة وأنه سينتقل إلى انتخابات البلدية، وسيسعي جاهدا لاستعادتهما مرة أخرى من المعارضة.
- كما قد يتجه أردوغان إلى إجراء تحسينات اقتصادية، قد يكون لمحمد شيمشاك دورا في هذا الشأن باعتباره أحد الكوادر الاقتصادية المميزة المناصرة لأردوغان. وذلك بعد التأثيرات السلبية التي تركتها سياسة خفض سعر الفائدة على كافة المؤشرات الاقتصادية، وأيضا على قيمة العملة التركية التي تراجعت إلى عشر قيمتها تقريبا أمام الدولار.
تأثيرات خارجية:
من الواضح وفقا للتحركات التركية الأخيرة في المنطقة أن بقاء أردوغان لم يعد يقلق كثيرا قادتها، بالذات دول المنطقة العربية، بعد المواقف التصالحية التي أبداها الرئيس التركي مع الدول العربية، مثل مصر والخليج العربي، بل ووفقا للبعض فضلت دول الخليج فوز أردوغان رغم الخلافات الموجودة بين الجانبين.
ومن المتوقع أن تكون تركيا أردوغان أحد أطراف المعادلة الإقليمية، في ظل التوتر الذي يجمع الدول الخليجية بالغرب، وواشنطن بالتحديد، وهو ما تشاركهم فيه أنقرة، في مقابل دعمه اقتصاديا. على خلاف كليتشدار أوغلو الذي كان متوقعا من اندفاعا واضحا نحو الغرب، وبالتالي أصبح أردوغان أفضل من المجهول الذي يمثله كليتشدار أوغلو. ويمكن وصف موقف الدول العربية في التعامل أردوغان أنه يسير وفقا لمبدأ ” الشخص الذي نعرفه أفصل من الذي لا نعرفه “.
أيضا، الاستمرار في السياسة الرشيدة مع دول المنطقة، بعدما كلفه خسارة الحلفاء العرب كثيرا على المستوى الاقتصادي والسياسي، فبفضل سياسته التصالحية خلال العامين الماضيين، عادت الاستثمارات الخليجية إلى الأسواق التركية وأسهمت نوعا ما في إنعاش الوضع الداخلي ( على المستوى الاقتصادي )، ومحاولة التوصل إلى تسوية بشأن الملف الليبي والسوري ( على المستوي السياسي )، ومن المتوقع أن يزداد هذا الدعم بعد فوز أردوغان بولاية جديدة. ولهذا سارعت بعض الدول بتهنئته بالفوز.
إلا أن ذلك لا يعني تخلي أردوغان عن سياسته الاستعراضية ونشر قواته في بقاع عربية في المدى القريب، مثل ليبيا وسوريا تحديدا، وهو ما عبر عنه أردوغان صراحه في حوار له مع ال CNN الأسبوع الماضي، في ظل المشهدالملتبس في ليبيا، واستمرار تهديد الأكراد في الشمال السوري، وبعد اصطفافهم إلى جانب المعارضة في الانتخابات الأخيرة الذي كاد أن يؤدي إلى إسقاطه.
أما عن علاقاته بالقوى الغربية؛ فلا شك أن أردوغان لديه غضب وعداء مكبوت تجاه الغرب، خاصة بعد موقف الدول الغربية من الانتخابات الأخيرة، والإعلام الغربي الي استهدفه هو شخصيا، إلا أن المتوقع أن يواصل أردوغان نهجه البراجماتي، واتباع سياسة ضبط النفس بصدد تعاملاته مع القوى الغربية، خاصة وأن بايدن حاول أكثر من مرة تلطيف الأجواء مع أردوغان، بعدما أعلن عن استعداده للعمل مع الفائز أيا كان عقب إعلان نتيجة الجولة الأولى، والمسارعة بتهنئته عقب حسمه لولاية جديدة، عبر خلالها عن أهمية تركيا في حلف شمال الأطلسي. وهذا أيضا ينطبق على الدول الأوروبية.
ولكن في الوقت نفسه استمرار الانعطافة تجاه روسيا، التي يرتبط معها بملفات عدة، ولهذا سارع بوتين بتهنئة أردوغان بعد الفوز، متغنيا بإنجازاته في قيادة تركيا ودوره في الحرب الأوكرانية. كما ومن الممكن أن تشهد الفترة المقبلة تقاربا تركيًا مع الصين أيضا بمباركة روسية.
وختاما يمكن القول، إن هذه الولاية الجديدة والأخيرة لأردوغان لا تشبه الولايات السابقة، فمن المرجح أن تشهد ملابسات وتحركات عدة داخليا وخارجيا، خاصة وأنه سيتم الإعداد خلالها لفترة ما بعد أردوغان.