ما انعكاسات التقارب الإيراني السعودي على أمن المنطقة؟
قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني “إن اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية مع السعودية “ستكون له تأثيرات إيجابية” على علاقات طهران بدول المنطقة”، كما قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان: “إن تعزيز العلاقات بين الرياض وطهران سيكون لصالح البلدين وأمن المنطقة واستقرارها”، كما أكد وقال “إن الاتفاق بين إيران والسعودية يخدم مصالح البلدين ويصب في صالح دول المنطقة”، ويأتي تصريح الوزير الإيراني بعد أكثر من أسبوع على إعلان الرياض وطهران استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، وإعادة فتح السفارتين في غضون شهرين، وذلك عقب مباحثات برعاية صينية في بكين.
وبالرغم من مرور العلاقات السعودية الإيرانية على مدار سنوات بالاحتقان الشديد نتيجة الخلافات السياسية والمذهبية على مر التاريخ، ووصلت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في العديد من المناسبات، انفض إلى التحول الكبير في السياسة الإيرانية مؤخراً باتجاه علاقات جيدة مع الدولة العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، بعد قطع المملكة للعلاقات في ٢٠١٦، إلا أنه اتفقت إيران والسعودية في العاشر من مارس الجاري بعد محادثات واستئناف العلاقات وإعادة فتح السفارتين في غضون شهرين، وذلك بعد سنوات من القطيعة، إثر مفاوضات استضافتها الصين، في خطوة قد تنطوي عليها تغيرات إقليمية دبلوماسية كبرى، أثرت فيها التغييرات الدولية الكبرى والتي اختلفت فيها موازين القوى بعد الحرب الروسية الأوكرانية، والذي كان له تأثير كبير في التوجه الإيراني باستقطاب في المنطقة خاصة على جبهات العراق ولبنان واليمن، يظهر فيه النفوذ الإيراني في العراق ولبنان يتراجع في المقابل يزداد النفوذ السعودي، إلا أن الساحة اليمنية مازالت مشتعلة حيث لا توجد أفق للتواصل للاتفاق حتى الآن.
انطلاقًا مما سبق، فإن إيران والسعودية أحد أبرز قوتين إقليميتين في الخليج، وهما على طرفي نقيض في معظم الملفات الإقليمية، ورغم أن الخلاف الكبير بينهما يعود إلى التوجه الديني بين المملكة العربية السعودية التي تتزعم الإسلام السني وجمهورية إيران التي تتزعم الإسلام الشيعي، إلا أن الملفات السياسية هي بالأساس التي أدت إلى الحروب بالوكالة بين الدولتين وتعميق الخلافات بينهما، وكان أبرز تلك الملفات النزاع في اليمن، حيث تقود الرياض تحالفاً عسكرياً داعماً للحكومة المعترف بها دولياً، وتتهم طهران بدعم المتمردين الحوثيين الذين يسيطرون على مناطق واسعة في شمال البلاد، أبرزها صنعاء. سلط هذا التحليل الضوء على التقارب الدبلوماسي لإيران مع السعودية، وانعكاساته على أمن المنطقة.
ملفات شائكة:
بالرغم من أن إيران نجحت في مخططاتها الإقليمية كاستمرار نظام الأسد وسيطرة الحوثيين على صنعاء وتقوي نفوذها في العراق ولبنان، لكن ذلك أتى بتكلفة باهظة ضاعفت من أعدائها في المنطقة وفاقم من التوتر مع المملكة العربية السعودية، لذلك فإن أبزر الملفات الشائكة مع المملكة السعودية هي:
(*) تبدي السعودية قلقها من نفوذ إيران الإقليمي واتهامها بـ “التدخل” في دول عربية مثل سوريا والعراق ولبنان، بالإضافة إلى التوجس من البرنامج النووي الإيراني وقدراته الصاروخية.
(*) تتهم الرياض طهران بدعم المتمردين الحوثيين الذين يسيطرون على مناطق واسعة، أبرزها صنعاء.
لغة المصالح:
إن المصالح تجبر الفرقاء على التقارب، خصوصًا عندما يتبين أن الإمعان في العداء يعود سلبًا على البلدين، كما أن إيران بدورها تحتاج للمصالحة، إذ تدرك أن العلاقة المثمرة مع السعودية تعني علاقات أفضل مع المحيط العربي، لذلك هناك أسباب كبيرة تدفع طهران لتحسين علاقاتها مع دول المنطقة، وعلى رأسها المملكة السعودية، ويتم ذلك حسب الموقف السياسي بما يخدم الدولة الإيرانية وأبرز هذه الأسباب لصالح طهران حيث:
(#) التغيرات والضغوط الدولية خاصة من ألمانيا والصين وفرنسا يعد دافعاً قوياً لهذا التقارب، وتقليص تعاونها مع روسيا في ملف أوكرانيا، بالإضافة إلى تراجع دورها الإقليمي، لذا فإن الاتجاه إلى طاولة مفاوضات مع السعودية قد يساعدها في التوصل إلى اتفاق معين يمكنها من أن تتقاسم النفوذ، وتقلص من تراجع نفوذها في الإقليم.
(#) إن الاتفاق يعكس قناعة القادة في طهران أن السبيل الأمثل لتقليص نفوذ الولايات المتحدة واحتواء تدخلات إسرائيل -التي تعدها إيران عدوها الأول- في المنطقة هو تخفيف التوترات مع جيرانها العرب بما فيهم السعودية.
(#) هناك تحول في معسكر حلفاء إيران دوليًا، مثل روسيا المتورطة في صراع عسكري طويل الأمد، والصين التي قررت ألا تضع كامل أوراقها في السلة الإيرانية، وتفهم المخاوف العربية من أنشطة إيران الإقليمية، ودفعها باتجاه إقليم مضطرب، يدفع طهران للبحث عن علاقات جيدة في الإقليم.
(#) لا يمكن إغفال حالة التوتر غير المسبوقة بين إيران والدول الأوروبية مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا، إثر الأنشطة الغامضة في الملف النووي، وانتهاك حقوق الإنسان في الداخل الإيراني.
(#) تعاني إيران من عزلة كبيرة خلال الفترة الماضية، بسبب العقوبات الاقتصادية بالإضافة إلى أنها معرضة لعقوبات أكثر، بسبب تعثر المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية، مما سبب هاجس لدى النظام الإيراني، من ضربة عسكرية أو حملة أنشطة تخريبية، والتعاون الدبلوماسي مع المملكة العربية السعودية يجعلها جاهزة ضدها إن استمرت في رفع وتيرة التصعيد مع القوى الكبرى وخلق تحالفات عربية جديدة.
(#) تعاني إيران من أزمات اقتصادية داخلية ونقمة من الشارع بطهران بسبب نقص الغاز والوقود وحالة الركود الاقتصادي، فضلاً عن سياستها القمعية وكبت الحريات بالداخل، لذلك من المتوقع أن تتوجه إلى الانكفاء على الداخل عقب الانفجار الشعبي الهائل، بسبب الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يحد من الخلافات الإقليمية، أي تسوية خلافاتها الإقليمية لإعطاء فرصة للتعامل مع تحدياتها الداخلية.
ولذلك، اهتمت إيران بالتعاون الدبلوماسي مع المملكة السعودية مؤخراً بعد مباحثات دولية مشتركة بين كل من الجانب السعودي والجانب الإيراني تحت رعاية صينية في بكين بمبادرة من الرئيس الصيني “شي جين بينغ”، في العاشر من مارس الجاري، وتم إصدار بيان مشترك يفيد بعودة العلاقات السعودية الإيرانية ونص البيان الختامي للمباحثات المشتركة بين الأطراف على:
“احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”، واتفقا أن يعقد وزيرا الخارجية في البلدين اجتماعا لترتيب تبادل السفراء ومناقشة طرق تفعيل الاتفاق، كما اتفقا على تفعيل “اتفاقية التعاون الأمني” الموقَّعة بينهما عام 2001، و”الاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب” الموقَّعة عام 1998.
دبلوماسية الرياض:
(-) يعد التصالح مع إيران تحول نسبي في العقيدة الأمنية السعودية. فمن خلال إعادة العلاقات مع إيران، تأمل المملكة أن تساعد الدبلوماسية في الحد من تعرضها للهجمات الإيرانية المباشرة، فضلا عن الأضرار الجانبية الناجمة عن العلاقات الأميركية الإيرانية المتدهورة، والتصعيد العسكري المتبادل بين إيران وإسرائيل.
(-) تعد الوساطة الصينية رسالة عالية الصوت توجهها الرياض إلى الولايات المتحدة أنها عازمة على المُضي قُدُما في جهودها لتنويع شركائها، حتى لو تطلب الأمر التعاون مع خصوم الولايات المتحدة في قضايا ومسائل طالما ظلت حكرا على الدبلوماسية الأميركية.
(-) يعد الاتفاق السعودي الإيراني منطقيا أيضاً من الناحية التجارية، حيث تَعتبر الرياض أمنها أمرا بالغ الأهمية لضمان عدم تعطيل التنقيب عن النفط أو نقله أو بيعه، كما أن جهود المملكة العربية السعودية لتقليل اعتمادها على صادرات النفط وتنويع اقتصادها تخلق أنماطا جديدة من الشراكات والمنافسات الإقليمية، وهو ما يدفعها اليوم إلى إعادة النظر في علاقتها المشحونة مع إيران.
ردود فعل حلفاء إيران:
بالرغم من أن الأصوليين في البرلمان الإيراني يرفضون التصالح مع السعودية، بل يواصلون تنديدهم بسياسة وزارة الخارجية ويعتبرون هذه الخطوات كسرًا لأنف الجمهورية الإيرانية إلان أنه اختلف الأمر مع بعض حلفاء إيران.
- ففي بغداد، اعتبرت وزارة الخارجية أن الاتفاق “يعطي دفعة نوعية في تعاون دول المنطقة… يُؤذِن بتدشين مرحلة جديدة”.
- ومن جهته، قال الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله: “هذا تحول جيد. لماذا نكون سعداء؟ لأن لدينا ثقة أنه لن يكون على حساب شعوب المنطقة، بل لمصلحة شعوب المنطقة”.
وخلاصة الأمر، إن الاتفاق الإيراني السعودي ستكون له تأثيرات “إقليمية إيجابية”، بما في ذلك العلاقات بين إيران والدول الأخرى، وعلينا التأكيد إن أكبر ملف سيتأثر إيجابيًا على المنطقة العربية هو الملف اليمني، ويمكن للصلح بين الجانبين أن يدفع إلى إنهاء الحرب بشكل سلمي، الملف الثاني هو اللبناني، إذ يمكن للجانبين المساهمة في حل الأزمة السياسية (توجد قوى سياسية في البلد موالية لواحد من الطرفين وهناك من يأتمر بأوامره كحزب الله)، ويمكن للتأثير أن يصل حد الأزمة السورية وكذلك الوضع في العراق.
كما نجد أنه سيربح العالم الإسلامي من هذا الصلح تخفيف التقاطب السني-الشيعي الذي كان أحد أسباب احتدام المعارك في سوريا وتردي الوضع الأمني في العراق واندلاع الأزمة اليمنية، لكن ذلك رهين بصعود أجيال جديدة في الدولتين تتخلى أو تقلل من حدة المشاريع القائمة على المذهب.
ولكن، ينبغي التأكيد على أن هناك تخوف من القرار الإيراني فقد يكون ليس نهائيًا، فإيران التي تتأرجح في سياستها المتضاربة، لديها حالة ازدواج دائمة في الخطاب، وهناك وجهتا نظر في كل حدث، بينما يمارس عبد اللهيان (وزير الخارجية الإيراني) دور الدولة في طرق أبواب دول الجوار لتحسين العلاقات، يركل الحرس الثوري هذا الباب بتصريحات متناقضة تهاجم المملكة ودول المنطقة، وسواء كان توجهًا سياسياً تصالحيًا أو مناورة، لا يمكن فصل المزاج السياسي لإيران حالياً عن الأزمة العميقة التي تعيشها في ظل استمرار موجة جديدة ليست الأولى من احتجاجات شعبية واسعة يقابلها “عنف مفرط” من جانب السلطات ما ولد موجة غضب عالمي من النظام الإيراني ترجمته ضربات متتالية في شكل عقوبات أوروبية وأمريكية.
وأخيراً يجب ألا يقودنا الاتفاق إلى استنتاجات خاطئة حول طبيعة الاتفاق نفسه وما يمكن أن ننتظره منه في المستقبل، من الواضح أن طبيعة الاتفاق لا تزال محدودة، وأن هناك الكثير من القضايا العالقة التي تنتظر الحسم، وعلى رأسها تلك القضايا المتعلقة بسياسات طهران و”تدخلاتها الإقليمية”، بما يعني أن استعادة العلاقات الدبلوماسية لا تعني أن البلدين قررا تجاوز توتراتهما، أو حتى التخلي عن المنافسة بينهما، بقدر ما تعني ربما تغيير استراتيجية التعامل مع هذه المنافسة، والتركيز على الأدوات غير العسكرية، أي قد يكون “السلام البارد” هو السمة المميزة للعلاقات بين الدولتين.