محددات الداخل: متى يعجز النظام الإيراني عن أداء مهامه؟

قد يبدو انهيار النظام السياسي للجمهورية “الإسلامية” الإيرانية على المدى المنظور غير متوقع، بالنظر إلى قدرة النظام على البقاء وتحمل الضغوط وحجم وتنوع أجهزته الأمنية والاستخباراتية، وقدرته على القمع، ولكن هذه الاعتبارات لم تمنع سقوط الاتحاد السوفيتي.

تحاول هذه الدراسة الإجابة عن تساؤل رئيسي هو: ما هي العوامل والمحددات، التي حال اجتماعها في توقيت واحد وفي ظل درجة شدة معينة قد تحول دون إمكانية دفاع النظام الإيراني عن صيغته السياسية الحالية؟

من خلال هذا التساؤل ينبع ثلاثة فروض:

الفرض الأول: أن هناك علاقة طردية بين درجة التطور الأيديولوجي والوظيفي للمؤسسات الإيرانية الحاكمة الرئيسة وبين قدرة النظام السياسي الإيراني على البقاء.

وهنا تثور عدة تساؤلات تتصل بهذا الفرض: هل هناك تغير وظيفي أو أيديولوجي داخل المؤسسات الحاكمة الرئيسة؟ وما هي طبيعة هذا التغير؟، هل هناك تغير في قدرة النظام الإيراني على الردع الأمني للثورات؟ وهل من المحتمل أن ينتج عن وفاة المرشد الحالي أزمة خلافة تضعف تماسك النظام السياسي الإيراني؟

الفرض الثاني: هناك علاقة بين تغير طبيعة المشاركين في الاحتجاجات الإيرانية وبين قدرة النظام السياسي الإيراني على البقاء.

وتثور عدة تساؤلات تتصل بهذا الفرض أيضاً: هل هناك تشابه بين احتجاجات 2009 واحتجاجات 2017 و2018؟، ما هي حدود الفعل الاحتجاجي المقبل؟ هل يمكن أن يقود التيار الإصلاحي ثورة ناعمة من الداخل؟ أم أن الثورة في حال حدوثها ستتجاوز هذا التيار؟

الفرض الثالث: هناك علاقة بين مدى رضا الأقليات الإيرانية وبين قدرة النظام السياسي الإيراني على البقاء.

والتساؤلات المتصلة بهذا الفرض هي: ما هي أبعاد الخطاب السائد لدى الأقليات في إيران؟ وهل يمكن أن تتحول ولاءات أقليات إيرانية مهمة لتصبح ضد النظام الحالي؟

ولمحاولة الإجابة على هذه الفروض سوف تنقسم الدراسة إلى الأقسام الآتية:

أولاً: اختلالات المؤسسات الحاكمة: التغيرات الأيديولوجية

كلما أخفق النظام الإيراني إيديولوجياً كلما تدنت قدرته على تبرير سياساته وعلى مخاطبة أجياله الشابة الجديدة التي ولدت في أعقاب 1979، وهناك عدة عناصر رئيسة لهذا الإخفاق الأيديولوجي يمكن إجملها في العناصر الآتية:

  1. تراجع تأثير الثورة الثقافية وتدني صورة رجال الدين

أخذت الأشكال التقليدية للتدين تضمحلّ تدريجياً مع فشل الأجندة الأيديولوجية للنظام في فرض الامتثالية الدينية، فالإرهاق الروحي للمذهب الشيعي يُعزى أساساً إلى استخدامه الاستبدادي من قبل الحكومة، الذي أضرّ بمكانة رجال الدين، وحتى رجال الدين الذين يرفض بعضهم شرعية “ولاية الفقيه” أو المؤهلات القيادية لخامنئي يشعرون بقلق عميق حيال حدوث تغيير جذري في النظام السياسي، لأنهم لا يجدون مكانةً آمنة لأنفسهم في أعقاب التغيير السياسي الجذري لأن أي إصلاح حقيقي ذو مغزى، سوف يجرّدهم على الأرجح من مزاياهم التفضيلية التقليدية والحديثة، وعلى الرغم من القاعدة الاجتماعية الفريدة، والموارد المادية والشبكات التي يتمتعون بها، إلّا أنهم سيعجزون عن استخدامها لتعبئة حركة جماهيرية جديدة تطمح لإنشاء شكل مختلف من الحكومة الدينية.[1]

ساهم في كسر هيمنة الطبقة الدينية أولًا شيخوخة “آباء” الثورة الذين كانوا في الخمسينات من العمر، إنهم الآن إما متقاعدون أو في طريقهم للخروج من المشهد، والثاني هو أن العديد من كوادر الثورة، من الطلاب الشباب والجامعيين ورجال الدين، قاموا على مدار سنوات بتغيير آرائهم السياسية، وربما من بين أشهرهم معصومة ابتكار، التي كانت ذات يوم إسلامية متطرفة ثم نائبة للرئيس في إدارة خاتمي، وهناك أيضاً محسن رضائي، وكان محافظ قوي ورئيس سابق للحرس الثوري، ثم دعم الإصلاحيين. بينما يأتي السبب الثالث في ظهور جيل لا يقدر هذه الثورة كلياً[2]، فالمتظاهرين أغلبهم ولدوا بعد الثورة، ولم يعنهم خطاب الولاية، ولا الإنجازات التي لا يزال النظام يدعيها، فهذا النظام لم يُقدم نموذج لدولة المهدي المنتظر، والقيام بأمانة النيابة عنه، وهي فكرة تحقيق دولة مثالية، كما هو متصور لدي الشيعة.[3]

إن شريحة واسعة من الشباب لا يوالون هذا النموذج الثقافي القديم، فعقدين من التطبيق العنيف للقيم الإسلامية أدى لظهور حركة شعبية قوية تطالب بحياة حرة، فبعد فشل كل محاولات عزل الشباب عن التدفق المتزايد للمعلومات نشأ جيل تحت تأثير ثقافة عالمية لا تولي أهمية للنموذج الثيوقراطي الحالي، فأصبح الانحراف الثقافي هو القاعدة، والظواهر المدانة باتت مهيمنة،كالجنس قبل الزواج، وتعاطي الكحول، والاستهانة بالزي الإسلامي، وكأن المشروع الثقافي لـ”الدولة الإسلامية” يتداعى.[4]

  1. تهافت النموذج الحضاري للثورة “الإسلامية”

يبدو أن شرائح متزايدة من الشعب الإيراني ينظرون لهؤلاء على رأس الحكومة على أنهم لا يلتزمون بوعود الثورة بالسياسة التي تسترشد بالأخلاق الدينية، ولا كفالة الحقوق، وهي المصادر الرئيسة لشرعية الثورة[5]، وهناك عدة عناصر تؤكد على حاجة إطار الثورة الإيرانية للمراجعة:

أ. معضلة العدالة الاجتماعية: رفعت الثورة شعار العدالة ضمن إطار “ماركسي إسلامي” بالنيابة عن المستضعفين الذين تخلّى عنهم نموذجُ التنمية الملكي غير المتساوي، فسعت للقضاء على الفجوة بين المناطق الريفية والحضرية، وانخفض معدّل الفقر البالغ من 25% في السبعينيات إلى أقلّ من 10% في 2014، في الوقت الذي تضاعف فيه عددُ السكان مرتَين تقريباً وبات الطابع الحضري غالباً، لكن مع هذا لا تزال الغالبية تعاني هشاشةً اجتماعية اقتصادية، حيث هناك 12 مليون شخص يعيش دون خطّ الفقر المطلق وما بين 25 إلى 30 مليون شخص يعيشون تحت خطّ الفقر. ويبقى ثلث الإيرانيين، و50-70% من العمّال، في خطر التراجع إلى ما دون خطّ الفقر، ولا يمكن فصل هذا عن اقتصاد إيران السياسي الذي يعطي الأفضلية للموالين للنظام الذي تشوبه سوء الإدارة والمحسوبية والمحاباة والفساد وغياب الإصلاحات الهيكلية، والنقصُ في توليد فرص العمل، حيث سيتراوح معدّل البطالة بين16-26% بحلول 2021، كما تُظهر التوقعات أنّ شابّاً من أصل أربعة عاطلٌ عن العمل.

بقي الطابع الطبقي على حاله، مع حلول طبقة حاكمة مكانَ أخرى لكن بتكوين اجتماعي مختلف، حيث تم استبدال تاج الشاه بعمامة الملّا لا أكثر، بينما أفضت الإنجازات النسبية في البنية التحتية الريفية والتعليم ومحو الأمية، إلى جانب فشلها في توليد الوظائف في توليد تناقض اجتماعي اقتصادي متفجّر سياسياً يتمثل في “فقراء الطبقة الوسطى”، الذين يتمتّعون بمؤهلاتها وتطلّعاتها لكنهم يعانون هشاشة اجتماعية واقتصادية. واعتُبرت هذه المجموعة هي القاعدةَ الاجتماعية لاحتجاجات العام 2017-2018 ومن المتوقع أن تستمرّ بالتعبير عن غضبها وإحباطها.

ب. الحريات السياسية: زعمت ثورة 1979 أنّ الإطاحة بالملكية ستؤدّي لحرّية أكبر، لكن بدا واضحاً أنّ تلك الديكتاتورية قد استُبدلت بديكتاتورية أخرى أكثر وحشية، فبين العامَين 1981 و1985، أُعدم حوالي 8 آلاف شخص، في المقابل، أُعدم أقلّ من مئة سجين سياسي بين العامَين 1971 و1979.كما قمعت التعدديةَ السياسية التي نادت بها الثورة من دون أن تسمح بإنشاء حزب معارض فعلي.

بالمثل، واجه المجتمع المدني الإيراني قمعاً نظامياً، ممّا قوّض قدراته التنظيمية. واستهدف المنشقّين من مذاهب إيديولوجية متنوعة والأقليات غير الفارسية والصحافيين.

ج. تهافت شعار الاستقلال الخارجي: انعكست معارضةُ الثورة للقوتين العظميين في الحرب الباردة، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، في شعار “لا شرقية ولا غربية، جمهورية إسلامية”، غير أنّ عداء الثورة لواشنطن سيطر على علاقاتها الدولية، وفيما وجدت إيران نفسها في مواجهة جيوسياسية مع الغرب، لم تكن يوماً مندمجة جيوسياسياً مع الشرق، بدلاً من ذلك، وجدت إيران نفسها مجبرة على تقديم تنازلات للقوى الآسيوية العظمى روسيا والصين والهند، فتولدت أنماطاً جديدة من التبعية.

د. البنية الهجينة للنظام السياسي: وضعت “الجمهورية الإسلامية” نظاماً سياسياً غريباً قائماً على ركنَين: الثيوقراطية والتمركز حول المرشد الأعلى، والجمهورية بوجود مجلس نيابي ورئيس منتخبَين. غير أنّ الركن الثاني في هذا النظام هو في أفضل حالاته شبه جمهوري، إذ لا يُسمح بالترشّح إلّا للمرشحين المؤيّدين للنظام، فلا تزال المؤسّسات غير المنتخَبة مهيمِنة، فيما تبقى تلك المنتخَبة وفية للنظام.[6]

فمركزية السلطة حول المرشد حولت النظام لسلطنة عسكرية، حيث يجد القادة المدنيون، بمن فيهم المرشد أنفسهم رهائن في أيدي الحرس الثوري.[7]

في أكتوبر 2018 أصدر المرشد خامنئي مسودة وثيقة “النموذج الإسلامي-الإيراني التأسيسي للتقدم”، وهي تحدد رؤيته للأعوام الخمسين المقبلة، وخلص إلى ضرورة حماية الجمهورية من التهديدات، وتوسيع ميليشيا «الباسيج»، وتعزيز إمكانيات الدفاع والردع، والترويج للوحدوية الإسلامية وتشجيع الحركة الجهادية، ودعم حركات التحرير الإسلامية، والدفاع عن حقوق الفلسطينيين، من خلال استمرار قيادة “الفقيه العادل والشجاع والقدير”.

انبثقت عن هذه الذهنية التحول الهائل في المؤسسات المركزية الإيرانية، من التغير الثوري في شبكة المنظمات الدينية والمدنية إلى إعادة هيكلة الحرس الثوري ليصبح هيئة عملاقة، وتحول الدولة لجهاز أيديولوجي قادر على تطبيق سياسات المرشد الاستبدادية ومقاومة “الاجتياح الثقافي” الغربي المزعوم، ومقاومة أي جهود للمراجعات الأيديولوجية أو الإصلاح السياسي.[8]

إجمالاً يمكن القول إن المكونات الإيديولوجية للثورة الإيرانية قد خفتت في نظر مكونات عدة من الشعب الإيراني لاسيما بين الشباب والأجيال الجديدة التي تمثل القوة الضاربة لأية حركة تغيير مقبلة.

ثانياً: اختلالات المؤسسات الحاكمة: التغيرات الوظيفية

قد تشهد المؤسسات الرئيسة للنظام الإيراني لاسيما غير المنتخبة تغييرات مستقبلية، ولو أخفق النظام الإيراني وظيفياً جراء التغير في مؤسسة المرشد أو تراجع قدرة جهازه القسري على ضبط إيقاع المعارضة، فسوف يصبح النظام نفسه عرضة لتغيير غير مسبوق قد يعصف بكثير من مكوناته الرئيسة، وهناك عدة عناصر تؤشر على تغيير مقبل في الأدوار الوظيفية للمؤسسات غير المنتخبة الأقوى، يمكن إجمالها في العناصر الآتية:

  1. احتمالية تراجع قدرة المؤسسات الأمنية على ردع الحراك الشعبي

تم تأسيس الحرس الثوري الإيراني كقوة موازية للجيش التقليدي وموازنة له، باعتباره حامي للثورة وقد زاد دوره السياسي بعد الحرب العراقية الإيرانية 1981-1988، حيث وجه الحرس بعض جهوده لإعادة إعمار البلاد، مع مرور الوقت، أصبح الحرس يمتلك مجموعة اقتصادية هائلة تعمل في قطاعات الاتصالات والبناء والمصارف والتعدين وغيرها.[9]

من ناحية التنظيم يشبه الجيش النظامي، إلا أنه من حيث المهام تتجاوز أنشطته أي قوات مسلحة في العالم، فتقوم قوات الحرس بمهام عديدة تتمثل في الحفاظ على الأمن الداخلي من خلال مكافحة أي تيارات مناهضة لمبادئ الثورة؛ وقوة دفاع، وأداة تكميلية في السياسة الخارجية للمساعدة في تصدير الثورة، وبالإضافة لهذا يمتلك الحرس نسبة ليست قليلة من حجم الاقتصاد الإيراني،فتحول لأهم فاعل سياسي واقتصادي وبمنظور أيديولوجي ثوري، وتخلى عن طابعه الوظيفي لصالح أدوار أكثر اتساعاً وشمولية.

أظهرت الانتخابات البرلمانية في عام 2008 الدور السياسي المتنامي للحرس الثوري في الحياة السياسية، حيث قام خامنئي بتعيين علي رضا أفشار المنتمي للحرس للإشراف على الانتخابات، وحينما استشعر أحمدي نجاد في بداية الفترة الرئاسية الثانية له تنامي قوة الحرس، بدأت الخلافات بينهما، وطالب الحرس ببيع بعض أصوله لمساعدة الاقتصاد المهلهل، فشن الحرس حملة ضده، وأخذ الرئيس روحاني في 2013 على عاتقه مهمة الحد من أنشطة الحرس الاقتصادية والسياسية، ولهذا عندما اقتربت الانتخابات الرئاسية في 2017، وقفت قيادة الحرس ضد حملته الانتخابية، ولكي يؤثر الحرس سلباً على الاتفاق النووي استمر في تجاربه للصواريخ الباليستية، وهو الأمر الذي يوضح حجم التأثير الطاغي للحرس أمنياً وسياسياً واقتصادياً، الذي يزداد بوجود العقوبات الاقتصادية الدولية، التي تسهل نقل العديد من القطاعات الاستراتيجية للاقتصاد لإدارة شركات الحرس.[10]

تشير قائمة الأزمات التي تواجه الحرس الثوري إلى تصدع مكانته داخل إيران، هذه المشكلات تشمل:

أ. ظهور انقسامات حادة داخل نظام الحكم، واندلاع المظاهرات والاحتجاجات في شوارع إيران، واتهام النظام بسرقة أموال الشعب من خلال مؤسساته.

ب. الصراع بينه وبين حكومة الرئيس روحاني، وفي وقت سابق هاجم الرئيس الإيراني حينها حسن روحاني، الحرس الثوري لسيطرته على الاقتصاد المحلي، وخفض ميزانية الحرس الثوري الإيراني بشكل كبير لوقف عملية الاحتكار التي يقوم بها، واعتقل عدد من ضباط الحرس بتهم الفساد، كما تأزمت العلاقة بين الحرس وبين أفراد التيار الإصلاحي، وعلى رأسهم روحاني، الذي هاجم الإجراءات التي اتخذتها السلطة القضائية الإيرانية ضد الرئيس الأسبق محمد خاتمي.

ج. الأزمات التي تلاحق الحرس بين أنصار التيار المتشدد نفسه، فظهرت الخلافات بين الحرس الثوري والرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد ومساعده حميد بقائي، والذي صدرت أوامر ببدء محاكمتهم بتهمة الفساد الاقتصادي واختلاس أموال الحكومة، مما دفع نجاد ومساعده إلى مهاجمة السلطة القضائية.

د. المشاكل التي يواجهها على الصعيد الخارجي، والتي تشمل تهديدات بوضعه على قائمة الإرهاب، والاتهامات الموجهة إليه بالتدخل في شؤون دول المنطقة والعمل على زعزعة استقرارها.[11]

هـ. البناء الطبقي للجهاز القسري الإيراني قد يؤثر على قدرته على قمع الاحتجاجات، كان النظام يستند في تجنيده على الأفراد المنحدرون من الأسر التقليدية من الطبقتين الدنيا والوسطى الدنيا، وفي ضوء هذه الخلفية، لم يكن لدى العديد من أفراد الشرطة و”الباسيج” أيّ هواجس حيال القمع الصارم لـ “الحركة الخضراء”، بناء على الكراهية والغضب اللذين شعروا بهما تجاه نشطاء المعارضة الذين اعتبروهم أفراداً من الطبقتين العليا والوسطى العليا، إلا أنّ هذا الطابع بدأ يتغير فالمتظاهرين باتوا ينحدرون من الطبقات الدنيا نفسها، على عكس ما كان في عام 2009، وهو ما قد يزعزع تدريجياً من تماسك مقاتلي النظام النفسي بالنظر لانتمائهم لذات الطبقة ومعاناتهم من بعض مشكلاتها، ويقلل من تأثير التلقين الذي يتلقونه من النظام.[12]

و. كان أداء قوات «الباسيج» منذ يونيو 2009 متبايناً، على الرغم من أنها نجحت في قمع مظاهرات الشوارع في المحافظات بمساعدة قوات إنفاذ القانون، إلا أن الحفاظ على النظام في المراكز الحضرية الرئيسية كان أكثر صعوبة، لا سيماً في طهران، فتم دمج الميليشيا بصفة رسمية في القوات البرية التابعة للحرس الثوري، ولا شك سيشكل ضعف «الباسيج» مشكلة خطيرة في حال أصبح النظام الإيراني محاصراً، إذ لن يتمكن الجيش النظامي من النهوض بالمسؤولية، فإلى جانب عدم تدخله سياسياً، فإنه موجود في حاميات على طول الحدود، بعيداً عن المراكز الحضرية الرئيسة.[13]

ز. فقد الحرس الثوري الإيراني معظم التزامه الأيديولوجي الذي كان واحداً من معالمه المميزة، واليوم، يبدو ككيان تجاري في المقام الأول، ومصمم على النهوض بمصالحه الاقتصادية بكل الوسائل المتاحة له، كما أن معظم أعضاء الحرس الثوري العاديين لا يتقاسمون مواقف المحافظين المتشددين، فنظراً لحجم المنظمة، سيكون من الصعب افتراض تجانس المواقف بين أعضائها، وبالتالي فإن تراجع الفوائد المادية وغير المادية التي تأتي مع عضوية القوات الأمنية قد تزيل الحوافز لدعم هذه الأجهزة القسرية لاسيما بين الشباب الإيرانيين من ذوي الوضع الاجتماعي والاقتصادي المنخفض.[14]

بالطبع لدى النِّظام الإيرانيّ إمكانيات مؤثِّرة لمواجهة الاحتجاجات أمنيًّا والسيطرة عليها، لكنّ الحيلولة دون احتجاجات شبيهة باحتجاجات 2017 ليس لها قادة محدَّدون، يمكن أن تكون أكثر تعقيدًا، خاصَّة مع انعدام مؤشّرات تدلّ على التعامل مع الأزمات والأسباب الدافعة لها.[15]

  1. تداعي المرونة الاستبدادية للنظام

هيكل السلطة في جمهورية إيران “زبائني” يتكون من العديد من المجموعات المتوازية المستقلة والمتنافسة، وتنافس/صراع العديد من المجموعات التي تحتفظ بمراكز مختلفة للسلطة قد يجلب الاضطرابات.[16]

المرونة الاستبدادية لا يمكن تفسيرها من خلال القدرة القمعية للنظام، هناك عدة عوامل مؤسسية واقتصادية وتاريخية مهمة لفهم المرونة الاستبدادية في إيران.

فعلى الرغم من أن غياب حزب مهيمن، تميز النظام بوجود فصائل متعددة متنافسة توفر درجة من التعددية السياسية، كما ساهم النظام الانتخابي في الاستقرار السياسي من خلال الحد من انشقاقات النخبة وتوجيه معارضة النظام للقنوات الرسمية، وحافظت ثروة النفط على نظام دعم واسع يحافظ على انخفاض أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية، كما أنشأ النظام شبكة رعاية واسعة تضم العديد من الدوائر الانتخابية، بما في ذلك أسر الشهداء والمحاربين القدامى، وفقراء الحضر وقطاعات من قوات الأمن، حيث يتم تعبئة هذه الدوائر بسهولة للأغراض السياسية.[17]

إلا أن النظام الإيراني يمكنه ضمان مستوى معين من الاستجابة المرتبطة بالتغيرات السياسية، فمن خلال تواتر الانتخابات يمكن التعامل مع بعض القضايا الاقتصادية والاجتماعية، في حين أنه غير قادر على ضمان نفس الاستجابة فيما يتعلق بالتغيرات المهمة في النظام السياسي، فتظل التوقعات والمطالب السياسية التي تركز على تغيير النظام غير معروفة، فارتفاع توقعات التغيير لدى المواطنين ثم إحباطها يولد شعور خطير بالإحباط يمكن أن يقوض أسس شرعية النظام؛ ويفتح الباب أمام التغييرات المحتملة التي يمكن أن تؤدي إلى ديناميات خارج النظام لتغييره لا يمكن التنبؤ بها.[18]

في غياب الإصلاحات الهيكلية فإن آليات النظام الانتخابي للمنافسة الموجهة والمنافسة المحدودة، والتعبئة الخاضعة للرقابة ستحبط جهود قوى المعارضة مما يجعل الساحة الانتخابية مجال مستبعد للتحول النظامي، ويدفع العملية السياسية للشارع.[19]

  1. أزمة خلافة المرشد الأعلى

أتاحت جاذبية الخميني وسلطته ممارسة النفوذ دون بيروقراطية راسخة، لكن خامنئي كان على دراية بالاختلافات الجوهرية بينهما فحاول توسيع سلطته فخلق بيروقراطية ضخمة، وقام بالسيطرة على الوكالات القائمة، ودعم الاستخبارات والحرس الثوري، وأنشأ قاعدة للسلطة خارج المؤسسات السياسية التقليدية، فجلب جيل جديد من السياسيين وهمش تدريجياً مسؤولي الجمهورية المخضرمين وأصبح رئيس جميع الفروع الثلاثة للحكومة فضلاً عن الإعلام الرسمي، إلى جانب كونه القائد الأعلى لجميع القوات المسلحة، وفي غضون ذلك، حول المؤسسة الدينية إلى جهازاً عقائدياً ووكيلاً للحكومة، وسيطر على المؤسسات الأكثر ربحية واستخدم الأموال لتدعيم أجندته السياسية داخل إيران وخارجها.[20]

أ. رحيل رفسنجاني وغياب الشخصية الجامعة: إيران ستعاني بدون هاشمي رفسنجاني، فرحيله إيذان بنهاية عصر الجمهورية الثانية، والتي ظلت معتمدة على ركيزتين، المرشد الأعلى خامنئي، وثانيهما رفسنجاني العقل الحكيم، الرابط بين مؤسسة الزعامة وبين رئاسة الجمهورية والبرلمان ومجلس صيانة الدستور، وقد كان الرابط بين التيارين المحافظ والإصلاحي بتنوعاتهما، فهو المحافظ المعتدل القادر على الحوار مع المحافظين، وهو الإصلاحي الوسطي القادر على ضبط إيقاع هذا التيار.

هذا الرحيل المفاجئ أحدث إرباكاً لتيار الإصلاحيين الذي يعتبر رفسنجاني أحد أهم رموزهم وكانوا يعولون عليه في أن يكون الرجل الذي سيقوم بالدور المحوري في معركة الخلافة السياسية، وأن يلعب دوراً في تزكية مرشد أعلى أكثر استنارة، أمام التيار المحافظ الذي ربما يكون قد تنفس الصعداء برحيل رفسنجاني.[21]

ب. سن خامنئي ومرضه: سمح الهيكل السياسي لإيران قبل ثورة 1979 بالاحتجاج والتغيير، فعجز الشاه عن إدارة مصالح المجموعات المختلفة واستخدامه للجيش وجهاز المخابرات “سافاك” لقمع المعارضة عجل بنهاية نظامه، لاسيما مع الشائعات حول مشاكله الصحية. تُعتبر صحة القائد عاملاً حاسماً للبقاء في السلطة والحفاظ على الموالين وأنصارهم، احتاج المؤيدون لضمان الحصول على مكافآت مستمرة من القائد أو تحويل دعمهم نحو أفضل شاغل تالٍ للمنصب.[22]

هذا الوضع متشابه مع الشائعات حول الحالة الصحية لخامنئي وتراجع شعبية النظام وعجزه عن استيعاب كل القوى السياسية والأقليات المتفاعلة بداخله، فأصبح خامنئي المرشد المريض وجهازه الأمني في معسكر لا يضم الكثيرين في مواجهة الكثير من القوى الداخلية الراغبة في إنهاء نظامه.

ج. مرحلة ما بعد خامنئي: سيناريوهات صعبة

هناك عدة سيناريوهات لمرحلة ما بعد خامنئي، لا يبدو أقربها للحدوث ضامناً لاستقرار النظام، وهي:

(1) سيناريو الاستمرارية، حيث يحافظ المرشد الجديد على الوضع الراهن، ويتحكم في الاقتتال الداخلي بين الفصائل، ويعزز المؤسسات غير المنتخبة في حين ستنخفض سلطة المؤسسات المنتخبة، وتصبح احتمالية المصالحة السياسية الداخلية أو التوفيق بين الكتل السياسية المتنافسة أقل احتمالاً.[23]هنا نكون أمام تغيير القيادة طبقاً لأحكام الدستور. ويمكن أن يتحقق هذا السيناريو من خلال عدة خيارات منها:

  • خيار «المرشد الوريث»: سيتبلور في نقل السلطة إلى أحد ممثلي النخبة الإيرانية، ومن بين المرشحين: الرئيس الأسبق روحاني ورئيس السلطة القضائية الأسبق لاريجاني، والمقارنة بين روحاني ولاريجاني، فالخبرة السياسية للأول ترجح كفته.
  • خيار «المرشد ولي العهد»: إذا تم نقل السلطة من خامنئي إلى ابنه مجتبى، وهذا غير ممكن إلا بحدوثه إبان وجود خامنئي على قيد الحياة وأن يترك منصبه طوعاً، وهو سيناريو يتعارض مع رغبات رجال الدين، حيث سيعتبر ذلك استعادة للنظام الملكي.
  • خيار إنشاء مجلس أعلى على أساس مجلس الخبراء: لكن السلطة الجماعية غير مناسبة للنظم الاستبدادية، كما أن هذا النموذج يثير المشاكل والشكوك أثناء عملية اتخاذ وتنفيذ القرارات.[24]

وبالتالي من المرجح اختيار مرشد راديكالي من جانب أعضاء مجلس الخبراء، وأن يكون أحد رجال الدين المقربين من التحالف الأمني ​​العسكري، يدعمه كل من الحرس الثوري الإيراني ومكتب خامنئي.[25]

(2) سيناريو العدوان أو الانقلاب الجذري،سيحدث حال تعرض إيران لعدوان خارجي لتغيير النظام، وهنا قد يتحول لنظام جمهوري، وهذا أمر مستبعد بالنظر لعدم رغبة الإيرانيين في الاستعانة بالقوى الدولية في معركتهم مع النظام، فهم يرون أن التدخل الأجنبي لن يخدم المصالح الوطنية، لما يترتب عليه من نتائج مدمرة لإيران فيما يتعلق بالحياة الاجتماعية والاقتصادية.[26]

وقد يتحقق في حالة قيام الحرس الثوري بانقلاب عسكري حال عدم موافقته على المرشد الجديد، لتتحول بعدها إيران لديكتاتورية عسكرية[27]، أو حدوث تحالف عسكري – تكنوقراطي بين الحرس والتكنوقراطيين يكون فيه المرشد التالي هو دمية الحرس[28]، أو تولي الحرس السيطرة الفعلية على البلاد، مع بقاء منصب المرشد شاغراً.

(3) سيناريو تعثر الانتقال والصراع الداخلي: من المحتمل أن تبدأ مجموعات المصالح وبعض الأفراد في صراع على السلطة عندما يختفي خامنئي. فتتجمع الدوائر المعتدلة ضد المحافظين، أو ينقسم الحرس الثوري داخلياً، أو أن تتسبب الصعوبات المتعلقة بانتخاب المرشد في حدوث أزمة داخلية وأعمال شغب دموية أو حتى حرب أهلية. [29]

يتضح إذن أن الحرس الثوري سيكون اللاعب الرئيس في عملية الخلافة، وعلى الرغم من أن خامنئي يسيطر على هذه الفصائل إلا أن توازن القوى داخل الحرس سيتغير بالتأكيد في غيابه. وعلى الأرجح ستكون للعناصر الراديكالية فرصة أفضل بالنظر لميلها للجوء للقوة.[30]

وبالنظر إلى أنه من الصعب العثور على شخصية بارزة، متشددة كانت أم معتدلة، لم تتعرض لاتهامات علنية بالفساد، أو انتهاكات حقوق الإنسان(لاريجاني وروحاني والشاهرودي كانوا موضع اتهامات الفساد المالي مثلاً)، لذا من شأن هذا أن يحول دون إتمام عملية الخلافة بالسلاسة نفسها التي عرفتها عام 1989، خاصة أن الخلافة المقبلة ستكون رهن إرادات مجموعة كبيرة من المؤسسات المتنافسة. ونتيجة لذلك، قد تكون هوية المرشد المقبل أقل أهميةً مما كانت عليه في الماضي لأن المؤسسات الداعمة ستجبره على تطبيق أجندتها، وسيكون من المنطقي الافتراض أن الحرس سيكون الخلف الفعلي لخامنئي.[31]

ثالثاً: تطور الفعل الاحتجاجي في إيران وآفاقه

من المهم الإشارة إلى وجود تغير في طبيعة الفعل الاحتجاجي في إيران، وهو الأمر الذي تبين في طبيعة الفارق بين الاحتجاجات في 2017 و2018 واحتجاجات 2009، هذا التغير حال استمراره فإنه قد يغير الخريطة السياسية الإيرانية بشكل كبير، بالنظر إلى تغير طبيعة ودور التيار الإصلاحي في إيران وقدرته على استيعاب شرائح إيرانية بعينها. ويمكن إجمال هذا التغير في العناصر التالية:

  1. تغير الطابع الجغرافي والطبقي للاحتجاجات

انطلقت احتجاجات 2009 من العاصمة طهران؛ حيث تكثر الحركات السياسية والطلابية، ولم تمتد إلا لعدد قليل من المدن الكبرى ولم تتجاوز بضعة آلاف من الطبقة الوسطى وفوق الوسطى من التكنوقراط والطلاب والمثقفين والناشطين في المجتمع المدني، وانطلقت من داخل النظام من داخل الجمعيات والشخصيات المؤيدة لنظرية “ولاية الفقيه” وتدين بالولاء لخامنئي، فـ”كروبي” و”موسوي” قائدا الاحتجاجات هم جزء أصيل من النظام، وكان سقفها الاحتجاجي محدود ومتمحور حول رفض نتائج الانتخابات الرئاسية وفوز نجاد، وبالتالي سهل قمعها.

بينما انطلقت احتجاجات ديسمبر 2017 من ميدان مغمور في مدينة مشهد حيث لا وجود للأحزاب ولا النشطاء ولا وسائل الإعلام، لتشمل 22 محافظة و 140 مدينة كبرى ومدن نائية بعيدة وشارك فيها الآلاف من المواطنين من طبقات اجتماعية متباينة خاصة الطبقة الدنيا في حوالي 238 مظاهرة، وانطلقت من خارج النظام لأسباب اقتصادية واجتماعية، وبسقف احتجاجي مرتفع يطالب بإسقاط النظام والموت لخامنئي وتطرقت – بعكس الاحتجاجات الأولى – إلى تسبب السياسة الخارجية للنظام في الفقر وضعف التنمية، فصعب قمعها حيث قادها المهمشون والمزارعون وصغار العمال والحرفيون دون قيادة ميدانية واحدة، وتعاطف معهم أكثر من 60 مليون من أصل 82 مليون إيراني حيث شاركت كل القوميات غير الفارسية كالكردية والأذرية التركية والتركمانية والبلوشية السنية.[32]

لقد كانت الاحتجاجات الأخيرة بعيدة تمامًا عن الإصلاحيين، ولم يأتِ المتظاهرون على ذكر موسوي القابع تحت الإقامة الجبرية منذ 2009، وانطلقت بشكل عفوي دون شخصيات قيادية لتعكس وبشكل واضح المعارضة غير المسبوقة للنظام منذ عام 1979، فلم تكن ضد قائد أو تيار بعينه، بل تجاه النظام بأكمله.

كشفت الانتفاضة عن يأس الملايين من الإيرانيين، إذ تسبب الفساد وسوء الإدارة والعقوبات في خلق أزمة اقتصادية غيرمسبوقة. فقد أفلست أكثر من اثنتي عشرة مؤسسة مالية، وأُغلقت مئات المصانع أو ظلت عاطلة عن العمل، كما بات مئات الآلاف إن لم يكن الملايين من العمال دون أجور، وانخفضت قيمة العملة لأدنى مستوى، عدا عن أن إيران تواجه أزمة نقص مياه حادة ناجمة عن تغير المناخ وسياسات الحكومة، وتواجه أسوأ أنواع التلوث[33]، هذه الاحتجاجات كانت مدفوعة اقتصاديًا، ولم تكن تكرارًا للانتفاضة الحضرية والعلمانية السابقة للأثرياء[34]، من هنا تأتي خطورة هذه الاحتجاجات.. ببساطة هي غير قابلة للقمع كسابقتها وقابلة للتكرار طالما تواجدت ظروف اشتعالها.

  1. التراجع المطرد لشرعية النظام: انكسار الخوف

الحركة الخضراء لم تعد موجودة من الناحية التنظيمية، لكن لا ينبغي التقليل من تأثيرها كحركة عفوية تطالب بالمساءلة الانتخابية والإصلاح السياسي، صحيح أن تجزئة الحركة والقمع أدى إلى إضعافها، ولكن مجموعة من المطالب التي دعت إليها لم تختف.[35]

يعارض الناس الركن الأساسي للاستقرار في الدولة – الزعيم الأعلى – فتبخرت الهالة التي أحدثتها دعاية الدولة من حوله لعقود، عندما صاح المتظاهرون “الأمة تعيش مثل المتسولين، وهو يعيش مثل الله”، و”خامنئي عار عليك”!

امتد التدقيق العام والانتقاد العلني للأحداث التاريخية الحساسة كإطالة أمد الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)؛ الأساس المنطقي لهجوم 1979 على السفارة الأمريكية في طهران، والإعدام الجماعي لسجناء مجاهدي خلق في عام 1988.

هناك مقاومة متزايدة للإطار الإسلامي والثوري المهيمن، تم رفض محددات سياسة إيران الخارجية المتمثلة في تجنب إجراء مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة، ودعم فلسطين ولبنان وسوريا، والحفاظ على موقف معادي لإسرائيل، حتى الرياضيون يتململون بسبب امتناعهم عن التنافس ضد الإسرائيليين.[36]

  1. خطورة الطابع الديموغرافي للاحتجاجات

يتمتع شباب إيران بتاريخ طويل من النشاط السياسي يعود تاريخه للتمرد الدستوري بين عامي 1905 و 1911، وثورة 1953 التي أطاحت برئيس الوزراء مصدق، وأدوارهم الرئيسة في ثورة 1979.

تضاعف عدد سكان إيران من 34 مليون إلى 62 مليون خلال العقد الأول منذ الثورة. فيعتبر سكان إيران من أصغر السكان في العالم، مما يؤثر بدوره على السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية. يمثل الشباب بين 15 و 29 سنة حوالي 35 % من السكان البالغ عددهم 72 مليون نسمة. وهذا أكبر تهديد للوضع الراهن. مما يجعلهم أكثر نفوذاً سياسياً.

لقد تشكلت كتلة الشباب بعدة أزمات سياسية وعسكرية. في الثمانينات كان معظم المقاتلين في حرب العراق من الشباب. خلال السلام النسبي في التسعينيات، بدأ الشباب في المطالبة بحقوقهم وبحلول عام 1997 أدت ضغوطهم لانتخاب خاتمي. ولأنه فشل في إحداث التغيير انسحب الشباب من السياسة. وكانت مقاطعتهم لانتخابات 2005 عاملاً رئيساً في انتخاب نجاد. لقد غير دخولهم السياسة مرة أخرى في انتخابات 2009 السياسة الإيرانية بشكل خطير.

تحفز نشاط الشباب بسبب عدم فعالية النظام في تلبية احتياجاتهم الأساسية. فالحكومة قادرة على توفير 300000 فقط من أكثر من مليون وظيفة مطلوبة سنويًا. النظام التعليمي لم يتمكن من مواكبة الديموغرافية المزدهرة. على الرغم من أن معدل الالتحاق بالجامعات العامة قد زاد ما يقرب من سبعة أضعاف منذ قيام الثورة، إلا أن حوالي 80 % من بين أكثر من مليون ممن يتقدمون لامتحانات الالتحاق بالجامعة يتم رفضهم. وحتى مع وجود شهادة جامعية، يتطلب الحصول على وظيفة في المتوسط ​​ثلاث سنوات. تضاعفت البطالة بين الشباب خلال العقدين الماضيين. يشكل الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 29 سنة نسبة 70 % من العاطلين. وبين الذكور ، واحد من كل أربعة غير قادر على العثور على وظيفة. وبين النساء الحاصلات على تعليم عال، تقدر نسبة البطالة بحوالي 50٪. وتضاعف عدد غير المتزوجين، فثلاثة أرباع الإيرانيين في العشرينات من العمر لا يزالون يعيشون مع آبائهم.[37]

  1. الطابع الاقتصادي الاجتماعي للاحتجاجات

في حين أن المجتمع الإيراني تغيرفي أعماق بنياته ومعتقداته، لم يتمكن النظام الحالي من إصلاح نفسه ليتواكب مع المجتمع، فاتسعت الفجوة بين المجتمع والنظام بسبب الوعود المكسورة والركود الاقتصادي والقمع الاجتماعي، وبينما يتزايد الشعور بالحرمان النسبي ينظر الإيرانيون إلى جيرانهم، مما يفاقم التوترات، فبين عامي 1981 و 1989 ، قاد النظامان الإيراني والتركي بلديهما على مسارات منفصلة؛ بينما شرعت تركيا على طريق الخصخصة، وفتح الأبواب الاقتصادية والسياسية، وتشجيع الاستثمار والتحول نحو الديمقراطية، سلكت إيران طريق التأميم. أسفرت هاتان السياستان المتعارضتان عن نجاح اقتصادي في تركيا وفشل اقتصادي في إيران. إلى الجنوب، تراقب إيران الإمارات تتحول من إمارات صحراوية صغيرة إلى دولة حديثة ذات مستوى معيشة مرتفع، أدت الزيادة في الخصخصة، وزيادة الإنفاق الحكومي على خلق فرص العمل والبنية التحتية وانخراطها في اتفاقيات التجارة الحرة إلى نمو حقيقي بنسبة 8.9 ٪، ومعدل بطالة قدره 2.4 ٪. يتطلع الإيرانيون كذلك إلى كوريا الجنوبية، وهي دولة كانت متساوية اقتصاديًا إلى حد ما مع إيران قبل الثورة، لكنها الآن تفوقت من حيث الناتج المحلي الإجمالي ودخل الفرد.[38]

  1. التيار الإصلاحي أم تيار ثالث؟

هيمنت الاشتباكات المتكررة بين اليمين المحافظ والفصائل الإسلامية اليسارية خلال الثمانينيات، وأدت في النهاية لإلغاء الخميني الحزب الرسمي للنظام، الحزب الجمهوري الإسلامي في عام 1987. وكان حله قراراً مهماً سلط الضوء عليه الفصائل باعتبارها الوسيلة الأساسية للنشاط السياسي في إيران، وكان من نتيجة هذا الترتيب ضعف التنظيم النسبي نسبياً بين نخبة النظام والدوائر الاجتماعية السياسية التي يسعون إلى تمثيلها في غياب آليات حزبية مؤسسية. ولكن خلال التسعينات، أدرك أيديولوجيو حركة الإصلاح الحاجة لإضفاء الطابع المؤسسي على آلية الحزب الرسمية من خلال تقوية المجتمع المدني وتنشيط جيل الشباب المتزايد المفتقر للتمثيل السياسي.[39]

حصلت الحركة الإصلاحية على السلطة في إيران لأول مرة عندما تولى خاتمي منصبه في عام 1997. وقد دفعت حكومة خاتمي لإصلاحات كبرى في النظام السياسي خلال سنوات حكمها الثماني. لكبح سلطة مجلس صيانة الدستور، عبر الحد من حقه في فحص المرشحين للانتخابات البرلمانية. كما سعى خاتمي إلى توسيع سلطاته التنفيذية، ولكنه لم يفلح في مسعاه.[40]

وبينما تميز الإصلاحيون بالتفوق علي خصومهم المحافظين خلال الفترة بين عامي 1997 و2001 فيما يخص القدرة علي اجتذاب تأييد الناخبين، لم يتحول هذا الدعم لقوة تنظيمية، بسبب العقبات التي زرعها المحافظون في طريق الحياة السياسية الحرة، ونفور الإصلاحيين ذوي الميول الليبرالية من التنظيمات بالغة الصرامة.

كان مسعى الإصلاحيون هو إعادة تعريف بعض الأسس التأسيسية لـ”الجمهورية الإسلامية” بما في ذلك مؤسسة الفقيه الأعلى للتوفيق بينها وبين المثل الديمقراطية والتعددية، هذا المشروع لم يكن منطقياً نظرياً، وأثار ردة فعل منهجية مصممة بوعي من مراكز القوة ذاتها التي يعتمد بقاءها على الحفاظ على مثل تلك المؤسسات.[41]

كما أن خطاب الإصلاحيين الموجه نحو التنمية فشل لعدم وجود نموذج فعال وقيادة ثابتة نسبياً. ودخل مصممو الإصلاح في التنافس أساساً دون برنامج دقيق ومتسق. وبالتالي، لم يكن لديهم استراتيجية متماسكة.  فظهرت فجوة بين الناخبين والإصلاحيين (بما في ذلك الحركة الطلابية) بسبب عدم الرضا عن أدائهم.[42]

الآن تغيّر معنى “إصلاحي” بشكل جذري، فبعد أن تصالح الإصلاحيون مع سياسات المرشد الأعلى علي خامنئي، باتوا يصبون تركيزهم في المقام الأول على اكتساب السلطة. لم يعد الإصلاحيون يقبلون بوجهات نظر الراحل آية الله حسين علي منتظري، الشخصية المؤثرة التي كانت ذات مرة الخليفة المنتظر للخميني ومن النقّاد اللاذعين لنظرية “ولاية الفقيه”. يعتقد الإصلاحيون الآن أنه بدلاً من مواجهة خامنئي، يتوجب عليهم إعادة بناء علاقاتهم معه، فهم يأملون من خلال إحداث ثورة في مفهوم الإصلاح، بأن ينظر خامنئي إليهم كموالين لمبادئ الثورة الإسلامية وخاضعين بسهولة للنظام. فيعتبر المتهكّمون أن مصطلح “الإصلاحي” لا يشير لأيديولوجيا واضحة، وإنما لأشخاص كانوا على صلة بحكومة خاتمي ويرغبون الآن بالعودة إلى الحكم.[43]

لقد رسم الإصلاحيون خطوطاً واضحة بين أنفسهم وبين المحتجين في 2017، بدعوى أن الاحتجاجات يمكن أن تدمر إيران، وأن مشاكل البلاد لا يمكن حلها في الشوارع، ووصفوا الاحتجاجات بأنها غير محسوبة وغير عقلانية. وأن صندوق الاقتراع هو السبيل الرئيس للدفع السلمي نحو التغيير السياسي  وهو ما يتعارض مع التعبئة الجماهيرية. وحتى خلال حركة 2009 بدأ الإيرانيون الغاضبون في الاحتجاج دون أي دعوة من القادة الإصلاحيين، وكان الزعماء الإصلاحيون يتبعون الشارع بدلاً من قيادة الاحتجاج. إن فرص الإصلاحيين لا تزال بعيدة. إذا لم يتمكنوا من التغلب على خوفهم من الاحتجاج في الشوارع.[44]

واعترف الرئيس الأسبق خاتمي بأن التيار الإصلاحي خسر شارعه، وأنه لا أحد في إيران مستعد للاستجابة لطلبات الحركة الإصلاحية بسبب حالة الإحباط التي أصابت الجمهور، نتيجة فشل الحركة الإصلاحية في تحقيق الحد الأدنى من الشعارات الانتخابية التي رفعتها، وحذر بأن «انهيار السلة الانتخابية للإصلاحيين لا يذهب في مصلحة الآخر (أي المحافظين)، بل يصب في سلة المطالبين بإسقاط النظام».

الحديث عن الحاجة لتيار آخر خارج ثنائية الإصلاحيين والمحافظين، سيدفع الجيل الجديد من الحركة الإصلاحية والمرتبطة فعلياً بالحركة الخضراء لمراجعة شعاراته والذهاب لمواقف أكثر راديكالية من النظام نتيجة سوء إدارته لأغلب الملفات الاجتماعية وفي مقدمتها الحريات العامة والاقتصاد.

ظهور ما يمكن وصفه باليمينية داخل الإصلاحيين والتي لم تعد تثق بخيارات إصلاح النظام من داخله قد تذهب لخيارين إما التصعيد وإما المقاطعة، وهذا ليس انتصاراً للمحافظين، فالنظام الرافض أو غير القادر على إجراء إصلاحات داخلية، لن يكون سهلاً عليه مواجهة تيار جديد تجاوز فكرة إصلاحه ويطالب علناً بإسقاطه.[45]

رابعاً: دور الأقليات في عملية التغيير

إيران اليوم تعيش تحديات كبيرة تتصل بالقوميات غير الفارسية، فالشعور القومي المتصاعد خلق حالة من الهلع بين جميع الأطياف السياسية الفارسية، حيث أن تجمع القوميات من العرب والكرد والآذريين والتركمان والبلوش واللور، مع بعض التنظيمات الإيرانية التي تعترف بحقوق القوميات، كمنظمة «مجاهدي خلق»، أو الجبهة الديمقراطية الإيرانية، يمكن أن يساهم في إسقاط دولة الفقيه.[46]

فإيران دولة متنوعة إثنياً، ومع أن الأتراك والفرس هم أكبر مجموعة إثنية، تشكّل في الواقع إثنيات إيران الثمانية الأساسية غير الفارسية نصف إجمالي عدد السكان، ومع تمركز هذه الإثنيات في مناطقها الخاصة يزداد الأمر خطورة، الأمر الذي يفسر أنه منذ إنشاء الدولة البهلوية الحديثة سنة 1936، فرض الحكّام نظامًا شوفينيًّا قاسيًا مبنيًّا على هيمنة الإثنية الفارسية والعقائد الشيعية. واستمرّ هذا بعد ثورة 1979، فتخضع الأقليات غير الفارسية لاضطهادٍ بالإضافة للقمع الاستبدادي المعياري الذي يمارسه النظام. فيُعامَلون كمواطنين من الدرجة الثانية، يُحرَمون من حق التعامل بلغتهم الخاصة ومن التوظيف، ويخضعون للدمج القسري، عبر التدريس الإجباري للغة الفارسية والمنع من ارتداء الملابس التقليدية في الأماكن العامة.

وغالبًا ما تلتزم المعارضة الإيرانية الصمت إزاء تلك الانتهاكات فزاد الاستياء بين الأقليات الإيرانية، وتخلى معظمهم عن الهوية الإيرانية سواء تلك الخاصة بالنظام الثيوقراطي الحالي أو بسلفه، ورأوا النظام ككيان غريب وعدائي، وأن ما ينفعهم بشكلٍ أفضل هو الانفصالية أو الفدرالية.[47]

انضم العرب والبلوش والتركمان والأذريين والأكراد لتظاهرات 2017 و 2018، ورددوا الشعارات المناهضة للنظام باللغات المحلية غير الفارسية كالعربية والكردية والتركية وغيرها، ويشتهر متظاهرو الشعوب غير الفارسية بالبأس والصلابة في مواجهة السلطات تاريخياً[48]، وأجمل هنا أهم الأقليات التي قد تؤثر على استقرار النظام الإيراني:

  1. الأذريين

حوالي واحد من بين كل أربعة إيرانيين ينحدر من الإثنية الأذرية، مما يجعلها أكبر أقلية إثنية في إيران بأكثر من ثمانية عشر مليوناً. الطائفة الأذربيجانية الناطقة بالتركية هي شيعية وتعيش في شمال غرب إيران على طول الحدود مع أذربيجان وفي طهران. على الرغم من أن لديهم شكوى من النظام الحالي، إلا أن معظم الأذريين كانوا يقولون إنهم لا يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية وأنهم أكثر اندماجًا في المجتمع والأعمال والسياسة الإيرانيين.[49]

وتكمن أهميتهم في أنهم يمثلون عصب الدولة الإيرانية، حيث يسيطرون على مفاصل الإدارة وأعلى المناصب في مختلف القطاعات ومن بينها الجيش، لذلك يحسب النظام الإيراني حساباً كبيراً للقومية الأذرية على عكس القوميات غير الفارسية الأخرى، فمرشد إيران الحالي خامنئي، والرئيس مسعود بزشكيان، فضلاً عن المعارض البارز حسين موسوي، من أصول أذرية. وفي 2009، حين خرجت احتجاجات كان موقف الأذريين عاملاً كبيراً في إخمادها، فقد اعتبروا ما يحدث صراعاً سياسياً لا يعنيهم، لكن الجديد في الاحتجاجات الأخيرة، هو خروج مظاهرات من مدن أذرية مثل أرومية وتبريز، مطالبة بإسقاط النظام.[50]

  1. الأكراد

معظمهم من السنة، ويشكلون حوالي 7 % من سكان إيران[51]، ويتركز معظمهم في شمال شرقي إيران، وبسبب عددهم الكبير وقربهم الجغرافي من أكراد العراق وتركيا، فإن مظاهراتهم جعلت من الجهة الشرقية لإيران جداراً إيرانياً آيلاً للسقوط إنْ تمكنت الثورة من الاستمرار، وإيقاظ الحلم الكردي باستقلال إقليمهم وتأسيس دولة عجزوا عن تحقيقها في العراق وتركيا.[52]يتمتع أكراد إيران بدرجة عالية من الوعي السياسي والقدرة الهائلة على التنظيم والتعبئة، ويقطنون مناطق غنية بالموارد الطبيعية والأراضي الصالحة للزراعة، ولديهم طرق ومنافذ للتجارة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.[53]

  1. السنة

تسهم سياسات إيران المتمركزة على الشيعة في المصاعب الاقتصادية للسنة الإيرانيين، وتغذي إحساسهم بالعزلة. في جميع المناطق السنية لم ينجح السنة في الحصول على تصريح لبناء مسجد بل سمحوا فقط لعدد من دور الصلاة دون إمام، ولا إدارة ، ولا ميزانية، ولا تعاليم دينية بعد الصلاة، على عكس المسيحيين واليهود الإيرانيين الذين لديهم كنائس ومعابد تحت إدارة مؤسساتهم الدينية، كما عانت دور الصلاة من هجمات متكررة. فضلاً عن إنشاء  الحكومة الإيرانية مجلسًا في عام 2008 لتحسين الرقابة على مدارس التعليم الديني للسنة لمراقبة أنشطة الجماعات السنية ومنع “التبشير الوهابي – السلفي”.[54]

حوالي خمسة عشر مليون نسمة من سكان إيران من السنة، أكبر أقلية دينية في البلاد. ويتركزون في المناطق الحدودية من بلوشستان في الجنوب الشرقي إلى كردستان في الشمال الغربي إلى الخليج العربي في الجنوب، ونظراً لأن معظمهم ينتمون أيضًا لمجموعات الأقليات العرقية، فغالبًا ما يكون من غير الواضح ما إذا كان التمييز قائمًا على العرق أو الدين أو كليهما. يعيش معظم السنة في مناطق نائية وفقيرة، بمعدلات بطالة مرتفعة، ليس لديهم فرص للحصول على وظائف آمنة.

ما يبرز ثقلهم هو دعوة خامنئي لرفع التمييز عنهم بعد أن احتشدوا خلف خاتمي في عام 1997، وتصويتهم لصالح الإصلاحيين، ففاز روحاني بستة ملايين صوت سني في عام 2013، مما يجعلهم صانعي الملوك في الانتخابات.[55]

  1. البلوش

يوجد في إيران حوالي 1.4 مليون شخص من البلوش ، يشكلون 2 % من سكانها. معظمهم من السنة، يقيمون في بلوشستان، الأقل تطوراً بمعدلات بطالة عالية. وعلى الرغم من قلة مواردها، لا تزال منطقة مهمة عسكرياً بسبب حدودها مع باكستان.[56]

  1. العرب الأحواز

على الرغم من أن نحو نصفهم من الشيعة، فإن هويتهم العربية كانت سبباً في التضييق عليهم[57]، فإقليم الأحواز والمعروف تاريخيًّا بعربستان، عانى من القمع والظلم منذ 1925 حين تم ضمه بالقوة بعد أن كان إمارة شبه مستقلة. وتم استئصال الهوية العربية، ورغم احتواء الإقليم على أكثر من 95 % من احتياطات النفط والغاز في إيران، يعيش معظم العرب في ظروفٍ من الفقر أشبه بالقرون الوسطى، فضلاً عن مصادرة الأراضي بالقوة؛ وتحويل الأنهار لمناطق فارسية، ما أدى لانخفاض المياه المتوافرة؛ فضلاً عن ممارسات التوظيف التمييزية، فشهد الإقليم احتجاجات منتظمة، وتم قمعها بالقوة وتلفيق التهم للناشطين.[58]

خلاصة

يتضح إذن صحة الفرض الأول بأن التغيرات الأيديولوجية والوظيفية لمؤسسات النظام لا تصب في صالح بقائه مستقراً، فتراجع القدرة الثقافية لنموذج “الجمهورية الإسلامية”، وفشله في تحقيق وعوده المتمثلة في العدالة الاجتماعية، الحريات السياسية، الاستقلال، فضلاً عن ميله لتعميق سمات الثيوقراطية العسكرية، قد تسبب في التراجع المستمر لهيمنة النظام أيديولوجياً وثقافياً، وعدم قدرته على نقل أفكاره للأجيال الجديدة. وإذا أضفنا إلى هذا تواتر التغيرات الإقليمية باتجاه التغيير السياسي، والتحول البنيوي داخل المؤسسات الأمنية، وغياب الإصلاحات الهيكلية، وعدم وجود سيناريو مثالي لأزمة خلافة المرشد الأعلى، بالنظر إلى أن الحرس الثوري سيكون اللاعب الرئيس في عملية الخلافة، من المؤكد أن النظام سيصبح أقل استقراراً، وأكثر هشاشة وعرضة لعمليات التغيير، لأن القوى الأمنية لن تتماسك حول شخصية مرشد داعم كخامنئي، وقد تضطرب بشدة ويسود بين صفوفها الانقسام أو الصراع، وسواء كانت المسيطرة على المرشد الجديد، أو مصدر القوة له، فإنها لن تستطيع أداء ذات الوظائف التي قامت بها خلال حقبة الخميني، لاسيما إذا انخرطت في صراع مع مؤسسات أخرى كمؤسسة الرئاسة مثلاً، وبالتالي أياً كانت نتيجة معركة خلافة خامنئي فإنها ستمهد الطريق لمزيد من احتمالات التغيير داخل النظام الذي سيصبح أكثر عرضة للضغط والاستجابة.

كذلك تتبين صحة الفرض الثاني بأن تغير طبيعة المشاركين في الاحتجاجات الإيرانية سيؤثر سلباً على قدرة النظام على البقاء، فتغير الطابع الجغرافي والطبقي والديموغرافي للفعل الاحتجاجي كان في اتجاه استحالة قمعه نهائياً وقابليته للتكرار، في ظل تراجع الخوف من النظام والهجوم على أهم أركانه، فضلاً عن تراجع الموثوقية في التيار الإصلاحي، وتحفز قطاعات مجتمعية مهمة للدفع باتجاه الشارع لا المؤسسات.

كما تشير الاحتجاجات الأخيرة لشواهد قد تصب في تحقق الفرض الثالث، فهناك تغير في ولاءات بعض الأقليات الرئيسة فضلاً عن المظالم التاريخية التي قد تعيق النظام الإيراني على السيطرة على البلاد في حالة وجود احتجاجات شاملة.

إن إصرار النظام الإيراني على طابعه الثيوقراطي وعدم مرونته في إجراء إصلاحات إيديولوجية وسياسية تلائم التغير الحادث في المجتمع الإيراني، مع وجود أزمة اقتصادية طاحنة وسياسة خارجية رعناء مبددة للموارد المحلية، وفي ظل تغير مستقبلي أكيد في تركيبة المؤسسة الرئيسة الأهم وهي مؤسسة المرشد الأعلى، وما يستتبعها من تغير في خرائط القوة والنفوذ، وحدود تأثير القوى الأمنية والمؤسسات غير المنتخبة، واحتمالية وجود صراع مؤسسات خفي أو معلن، كل هذا إذا ترافق زمنياً مع تواتر الاحتجاجات الشبابية جراء إخفاق النظام في العامل مع تطلعاتهم المشروعة، ومع تآلف الأقليات الإيرانية ومطالبتها بحقوقها المشروعة، وفي ظل تدني الثقة في التيار الإصلاحي، فإننا أمام العناصر سالفة الذكر قد نكون أمام لحظة ولادة نظام جديد بعيد رحيل خامنئي، أقل استقراراً وتماسكاً وأكثر قابلية للاستجابة للضغوط المحلية والدولية.


قائمة المراجع

[1]Mehdi Khalaji, Iranian Clergy Versus Democracy, The Washington Institute for Near East Policy, (March 29, 2018), accessed on: 20 oct. 2019. http://ksa.pm/nb1

[2] Adam Tarock, The Struggle for Reform in Iran, New Political Science, (London: Taylor & Francis (Routledge), Volume 24, Number 3, 2002), pp 467-468

[3]رشيد الخيُّون، نظام ولاية الفقيه.. اهتزاز القدسية، مركز المسبار للدراسات والبحوث، تاريخ الاطلاع: 29 يوليو 2019. http://ksa.pm/nb2

[4]BehzdYaghmaian, Social Change in Iran: An Eyewitness Account of Dissent, Defiance, and New Movements for Rights, (USA: State University of New York Press, 2002), pp 225-227

[5]Shadi Mokhtari, “This Government Is Neither Islamic nor a Republic”: Responses to the 2009 Postelection Crackdown, in danielBrumberg and FaridehFarhi (ed.), Power and Change in Iran: Politics of Contention and Conciliation, (Indiana: Indiana university Press, 2016), pp 276-278

[6] Ali Fathollah-Nejad, Four decades later, did the Iranian revolution fulfill its promises?, The Brookings Institution, (July 11, 2019), accessed on: 20 oct. 2019. http://ksa.pm/nb3

[7] Ivan Sascha Sheehan, What Is “Regime Change From Within?” Unpacking the Concept in the Context of Iran, Digest of Middle East Studies, (Washington:Policy Studies Organization, Volume 23, Number 2), pp 394-395

[8]Mehdi Khalaji, Iran’s Anti-Western ‘Blueprint’ for the Next Fifty Years, The Washington Institute for Near East Policy, (October 24, 2018), accessed on: 20 oct. 2019. http://ksa.pm/nb4

[9]HadiSohrabi, Clerics and Generals: Assessing the Stability of the Iranian Regime, Middle East Policy, (Washington:Middle East Policy Council, Vol. XXV, No. 3, 2018), pp 37-38

[10]عمرو الديب، الدولة الموازية للحرس الثوري في إيران، مركز المسبار للبحوث والدراسات، 20 مايو ۲۰۱۹، تاريخ الاطلاع: 20 أكتوبر 2019. http://ksa.pm/nb6

[11]نهال عبدالمالك، الحرس الثوري الإيراني.. الأزمات تضرب من الداخل، العين الإخبارية، تاريخ الاطلاع 20 أكتوبر 2019.http://ksa.pm/nb8

[12]Saeid Golkar, Iran’s Coercive Apparatus: Capacity and Desire, The Washington Institute for Near East Policy,  (January 5, 2018), accessed on: 20 oct. 2019. http://ksa.pm/nb9

[13]Ali Alfoneh, The Basij Resistance Force:A Weak Link in the Iranian Regime?, The Washington Institute for Near East Policy, (February 5, 2010), accessed on: 20 oct. 2019.http://ksa.pm/nba

[14]MareikeEnghusen, Clientelism in the Islamic Republic, Illustrated at the Example of IRGC and Basij, (Scotland: Dissertation in School of History, University of St Andrews, 2011), pp 35-36

[15]حسين باستاني، هل ستتكرر الاحتجاجات الأخيرة في إيران؟، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية،( 8يناير 2018)، تاريخ الاطلاع: 20 أكتوبر 2019. http://ksa.pm/nbb

[16] Kazem Alamdari, The power structure of the Islamic Republic of Iran: Transition from populism to clientelism, and militarization of the government, Third World Quarterly,(London: Taylor & Francis (Routledge),2005(, pp 1298-1299

[17]Gu¨nes¸ Murat Tezcu, Democracy promotion, authoritarian resiliency, and political unrest in Iran, Democratization, (London: Taylor & Francis (Routledge), Vol. 19, No. 1, 2012), pp 122-125

[18]PemanAbdolmohammadi and GiampieroCama, Iran as a Peculiar Hybrid Regime: Structure and Dynamics of the Islamic Republic, British Journal of Middle Eastern Studies, (London: Taylor & Francis (Routledge), 2015, Vol. 42, No. 4, pp 565-578.

[19] Yasmin Alem, “electoral Politics, Power, and Prospects for reform”, danielBrumberg and FaridehFarhi (ed.), Power and Change in Iran: Politics of Contention and Conciliation, (Indiana: Indiana university Press, 2016), pp 185-188

[20]Mehdi Khalaji, House of the Leader: The Real Power in Iran, Washington Institute for Near East Policy, (June 1, 2009), accessed on: 20 oct. 2019. http://ksa.pm/nbd

[21] محمد السعيد إدريس، السؤال الصعب: رحيل رفسنجاني وصراعات “الخلافة السياسية” في إيران، المركز العربي للبحوث والدراسات، تاريخ الاطلاع: 20 أكتوبر 2019. http://www.acrseg.org/40433

[22] Dena Motevalian, How Coalitions in the Islamic Republic of Iran Maintain the Regime’s Stability: A Review of the Competition Among Coalitions and Blocs of Power in Post-Revolution Iran, Journal of Political Inquiry, (New York: New York University, Fall 2016), pp2-3

[23]MehrzadBoroujerdi and KouroshRahimkhani, The office of the Supreme leader: epicenter of a Theocracy, danielBrumberg and FaridehFarhi (ed.) ,Power and Change in Iran: Politics of Contention and Conciliation, (Indiana : Indiana university Press, 2016), p 157.

[24]كيريل دجافلاخ، خلافة خامنئي وأثرها في النخبة الحاكمة في إيران، مركز المسبار للبحوث والدراسات، تاريخ الاطلاع: 20 أكتوبر 2019. http://ksa.pm/nbg

[25]SaeidGolkar, Iran after Khamenei: Prospects for Political Change, Middle East policy, (Washington: Middle East Policy Council, Volume 26, Issue 1, spring 2019), pp 75-88.

[26] Hamid Ahmadi, Iran and the Arab Spring: Why Haven’t Iranians Followed the Arabs in Waging Revolution?, Asian Politics & Policy, (Washington: Center for Asian Politics and Policy Volume 5, Issue 3, 2013), pp 413-416

[27]كيريل دجافلاخ، خلافة خامنئي وأثرها في النخبة الحاكمة في إيران، مرجع سبق ذكره.

[28]SaeidGolkar, Iran after Khamenei: Prospects for Political Change, Ibid.

[29] Robert Czulda, The future of Iran after the inevitable succession regarding the position of Supreme Leade, Pulaski Foundation Council, accessed on: 20 oct. 2019.http://ksa.pm/nbh /

[30]Mehdi Khalaji, Supreme Succession: Who Will Lead Post-Khamenei Iran?, Washington Institute for Near East Policy, accessed on: 20 oct. 2019. http://ksa.pm/nbj

[31]Mehdi Khalaji, Rafsanjani’s Death Could Increase the IRGC’s Succession Role, Washington Institute for Near East Policy, accessed on: 20 oct. 2019. http://ksa.pm/nbk

[32]محمد محسن أبو النور، إيران بين حركتين احتجاجيتين، (دبي: مركز المسبار للدراسات والبحوث، يوليو 2018)، ص 42-47.

[33]علي رضا نادر، مستقبل إيران السياسي غير المؤكد، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية،(15/2/2018)، تاريخ الاطلاع: 20 أكتوبر 2019. http://ksa.pm/nbl

[34] Sehr Nawaz, 2018 Iranian Protests: A Second Revolution on the Way in Iran?, (April 13, 2018), global risk insights, accessed on: 20 oct. 2019. http://ksa.pm/nbn

[35] Fatemeh Haghighatjoo, The green Movement and Political Change in Iran, danielBrumberg and FaridehFarhi (ed.), Power and Change in Iran: Politics of Contention and Conciliation, (Indiana: Indiana university Press, 2016), pp 246-247

[36]HadiSohrabi, Clerics and Generals: Assessing …, Op cit., pp 40-43

[37] Tara Nesvaderani, Iran’s Youth: The Protests Are Not Over, (Washington: united states institute of peace, Peace Brief, 36, June 8, 2010), pp 1-3. http://ksa.pm/nbo

[38] Grace Nasri, Iran: Island of Stability or Land in Turmoil, Digest of Middle East Studies,(Washington: Policy Studies Organization, Spring 2009), pp 59-66

[39]FeyziKarabekirAkkoyunlu, The rise and fall of the hybrid regime: guardianship and democracy in Iran and Turkey, , (London, dissertation in London School of Economics February 2014), pp 135-136

[40] Sara Bazoobandi, Iran’s Domestic Political and Economic Challenges,Gulf Research Center,(Cambridge: GRC Gulf Papers, November 2012), pp 7-10

[41]MaysamBehravesh, Iran’s Reform Movement:The Enduring Relevance of an Alternative Discourse, Digest of Middle East Studies, (Washington: Policy Studies Organization, Volume 23, Number 2, 2014), pp 273-276

[42] Kamran Rahmanim Alireza Azghandi, Islamic Revolution of Iran and Political Development Issue (1997-2005), Journal of Politics and Law,(Canada: The Canadian Center of Science and Education; Vol. 9, No. 10; 2016), p 40

[43]Mehdi Khalaji, What Does It Mean To Be a Reformist in Iran?, Washington Institute for Near East Policy, (10/3/2016), accessed on: 20 Oct. 2019.http://ksa.pm/nbq

[44] Mohammad Ali Kadivar, Why haven’t reformists joined the protests sweeping Iran?, Washington post, (5/1/2018), accessed on: 20 Oct. 2019. http://ksa.pm/nbr

[45]مصطفى فحص، إيران… فشل الإصلاح أم فشل الإصلاحيين؟، جريدة الشرق الأوسط، (13/3/2019)، تاريخ الاطلاع: 20 أكتوبر 2019. http://ksa.pm/nbs

[46]كريم عبديان بني سعيد، هل تنهار إيران على غرار الاتحاد السوفياتي؟، جريدة الشرق الأوسط، (28/11/2017)، تاريخ الاطلاع: 20 أكتوبر 2019. http://ksa.pm/nbt

[47]Rahim Hamid, Iran’s Ethnic Minorities Are Finding Their Own Voices—America Can Help,Washington Institute for Near East Policy, (22/3/2019), accessed on: 20 Oct. 2019. http://ksa.pm/nbu

[48]محمد محسن أبو النور، إيران بين حركتين احتجاجيتين…، مرجع سبق ذكره، ص 54-55.

[49] Lionel Beehner, Iran’s Ethnic Groups,Council on Foreign Relations, (29/11/2006), accessed on: 20 Oct. 2019.https://www.cfr.org/backgrounder/irans-ethnic-groups

[50]محمد محسن أبو النور، إيران بين حركتين احتجاجيتين، مرجع سبق ذكره، ص 54-55

[51] Lionel Beehner, Iran’s Ethnic Groups…, Op cit.

[52]محمد محسن أبو النور، إيران بين حركتين احتجاجيتين…،مرجع سبق ذكره، ص 54-55

[53]Asso Hassan Zadeh, Kurds of Iran: the missing piece in the Middle East Puzzle, Washington Institute for Near East Policy, (26/2/2018), accessed on: 20 Oct. 2019. http://ksa.pm/nbv

[54] Fatemeh Aman, Iran’s Uneasy Relationship with its Sunni Minority,Middle East Institute, (21/3/2016), accessed on: 20 Oct. 2019. http://ksa.pm/nbw

[55]ScheherezadeFaramarzi, Iran’s Sunnis Resist Extremism, but for How Long?, Issue Brief, (Washington: Atlantic council: South Asia Center, 2018), pp 1-10.

[56]Lionel Beehner, Iran’s Ethnic Groups, ibid

[57]محمد محسن أبو النور، إيران بين حركتين احتجاجيتين…، مرجع سبق ذكره، ص 55.

[58]Rahim Hamid, Iran’s Ethnic Minorities Are Finding …, Op cit.

د. محمد بشندي

رئيس وحدة دراسات مصر، باحث في العلوم السياسية، حصل على دكتوراه الفلسفة من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 2022. صدر له كتابين، إلى جانب عدد من الدراسات المتعلقة بالأحزاب والحركات الاجتماعية، ونال "جائزة الدولة التشجيعية" في مجال العلوم الاقتصادية والقانونية، فرع "الأحزاب ودورها في التنشئة السياسية" لعام 2024.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى