كيف تناولت وسائل الإعلام الإيرانية احتجاجات النساء؟
تناولت الصحف الإيرانية والإعلام تغطية الأحداث والاحتجاجات والتظاهرات التي مازالت قائمة مع دخول أسبوعها السادس بين التخويف من التبعات الناجمة عن استمرار الاحتجاجات، والحديث عن “مؤامرة كونية”؛ لتصبح أمام اختبار صعب لتقييم مصداقيتها في الشارع الإيراني من جهة، وكذلك اختبار لجاهزيتها لتغطية أزمة ضربت البلاد من جهة أخرى، ولا يوجد مبالغة إن تحدثنا عن حرية الرأي والتعبير بجميع أشكالها حيث تلاشت على أرض الواقع خاصة في الإعلام الرسمي للدولة، إذ دأبت الحكومة على قمع الاحتجاجات بالقوة إلى جانب فرض تعتيم إعلامي عليها،ولكن هذا لم يمنع بشكل أو بأخر من أن تلك الاحتجاجات كانت مسرحاً لمواجهة بين الإعلام الرسمي وغير الرسمي.
محددات التعامل:
كشفت الأيام الماضية أن هناك عاملين أساسيين في تعامل وسائل الإعلام الإيرانية في التعامل مع التظاهرات، هما كالتالي:
“أولاً”- حاولت الصحف الإصلاحية، أن تلقي باللوم في كل ما حدث على الحكومة، وأن تركز على أن السبب الرئيسي في إشعال الأزمة، هو تباطؤ الحكومة في تحسين الحالة الاقتصادية، ومن هذه الجهة قامت بتأييد الاحتجاجات، وخصوصاً خلال الأيام الأولى، أما الصحف المحافظة فاتجهت في الأيام الأولى إلى رفض الاحتجاجات واتهام المحتجين بأنهم مسيرون من جانب المعسكر قوى خارجية، وهذا ترك أثراً سلبياً على مكانتهم بين الشارع حيث إنهم رفضوا حق التظاهر.
وغطت جميع الصحف تقريباً على صفحاتها الأولى خطاب الرئيس إبراهيم رئيسي في إحدى الجامعات المخصصة للطالبات، وخاطب رئيسي لأعضاء هيئة التدريس والطلاب في جامعة الزهراء بطهران، وألقى قصيدة تشبه “المشاغبين” بالذباب، إلا أن اللقطات أظهرت الطلاب وهم يوجهون له أصابعهم الوسطى وهم يهتفون “رئيسي يضيع!”
“ثانياً”- بعد عدة أيام من بدء الأزمة كان هناك اتفاقاً في الاتجاهات بين الصحف، من حيث رفض الاحتجاجات، وإحالتها إلى القوى الخارجية، ولكن مع مرور الزمن ارتفعت هذه اللهجة في الصحف المحافظة، بينما فضلت الصحف الإصلاحية التركيز على أسباب الاحتجاجات والتأكيد على حقوق المحتجين والمعتقلين.
الصحف الرسمية والأزمة:
فقد دعا المتشددون، في وسائل الإعلام الإيرانية، قوات الأمن، إلى الرد بقوة أكبر على المتظاهرين والتصرف ضد الدول الغربية التي يتهمونها بإثارة الاحتجاجات، وهذا يظهر جلياً في بعض عناوين الصحف، وكان أبرزها:
(*) وكالة أنباء فارس المتشددة، وهي وكالة أنباء تابعة للحرس الثوري، اقترحت على القوات المسلحة “كسر سلسلة” المتظاهرين وقمعهم بمزيد من العنف، وزعمت بأن المتظاهرين كانوا “يقتلون الناس” للحصول على تغطية إعلامية دولية، ودعت صحيفة “إيران” الحكومية إلى إنزال العقاب بشكل حازم وشديد بحق المتظاهرين مدعية أن ذلك مطلب شعبي وأنه في حال القيام بذلك فإنه سيكون سبباً يردع الآخرين ويكون عبرة لغيرهم.
(*) أما صحيفة “كيهان”، تلك الصحيفة القريبة من المرشد، أشارت إلى المشاركة الواسعة لليافعين والمراهقين في الاحتجاجات التي تشهدها إيران، وحملت مسؤولية ذلك على النساء اللواتي يقمن بالعمل خارج البيت، وكذلك يتابعن الفضائيات، كما ارجعت السبب في ذلك إلى متابعة الأطفال للعالم الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي. وادعت صحيفة “كيهان” المقربة من المرشد خامنئي، أنه لا توجد أي اضطرابات أو أحداث ذات أهمية في إيران، ودعت في المقابل المواطنين الإيرانيين إلى الاستمتاع بالأمن والاستقرار اللذين وفرهما النظام الإيراني للإيرانيين، وأبرزت الصحف الموالية للحكومة زيارة “رئيسي”، إلى جامعة “الزهراء” النسائية في طهران وحاولت خلق صورة مرضية للنظام مما يجري في الجامعات.
(*) أما صحيفة “وطن امروز”، وهي صحيفة أصولية وقريبة من الحرس الثوري الإيراني، حاولت “تخويف” المواطنين من الاحتجاجات عبر حديثها المطول عن التبعات الاقتصادية التي سوف تشهدها إيران كنتيجة لاستمرار الاحتجاجات.
الحراك مسئولية من؟:
في الجهة الأخرى حاولت الصحف المنتقدة لأداء النظام سواء على صعيد التعامل مع الاحتجاجات أو على صعيد سوء الإدارة الاقتصادية والسياسية للبلاد، التركيز على نقاط الضعف التي قادت إلى خلق هذه الأحداث في البلاد، وكان أبرزها:
(&) أشارت صحيفة “آرمان أمروز” إلى استمرار الاحتجاجات منذ أكثر من شهر في إيران، وقالت إن الكثيرين كانوا يتوقعون انحسار الاحتجاجات بعد أيام من اندلاعها، لكن هذه الاحتجاجات مستمرة منذ لحظة الإعلان عن وفاة مهسا أميني، وتساءلت بالقول: “متى ستنتهي هذه الاحتجاجات؟”، وعلقت بعض الصحف مثل “آفتاب يزد”، و”أترك”، على حادثة اختراق القناة الإيرانية الأولى ونشر مقطع قصير داعم للاحتجاجات ومهاجم للمرشد خامنئي.
(&) كما تناولت صحيفة “آفتاب يزد” في تقرير لها إلى تراجع شعبية مؤسسة الإعلام الإيرانية بشكل كبير، وحاولت طرح عدد من الأسباب الكامنة وراء ذلك وخلصت إلى وجود عدة أسباب، منها عدم مواكبة الأحداث بشكل سريع، لا سيما وأن المواطن أصبح يصل إلى المعلومة بسرعة كبيرة عبر العالم الافتراضي، فيما تحدثت صحيفة “جهان صنعت” عن تبعات عدم الاستماع إلى صوت المتظاهرين وأكدت أن الجيل الجديد في إيران لم يعد يخشى لغة القوة.
(&) وحاولت بعض الصحف المعتدلة مثل “ستاره صبح”، استجلاء الأسباب الحقيقية وراء الأحداث التي تشهدها إيران، وتساءلت عن سبب زيادة غضب الناس وأكدت أن ذلك يأتي نتيجة للإهمال المستمر والتجاهل الدائم لمطالب المواطنين وتطلعاتهم، أما “هم ميهن” الإصلاحية فعنونت بالقول: “الصوت الذي لم يسمع”، في إشارة إلى مطالب المتظاهرين لا سيما شريحة الشباب منهم، وحذرت من تبعات استمرار النظام من تجاهل هذه الأصوات والمطالب.
تموقع التواصل الاجتماعي:
تعد إيران من أكثر قيود الإنترنت صرامة في العالم، فقد كشف مرصد “نتبلوكس” لمراقبة انقطاعات الإنترنت، بأن إيران حدت من قدرة المستخدمين على الوصول إلى تطبيق إنستجرام، كما كثفت إيران الرقابة في ظل عهد رئيس إيران الحالي إبراهيم رئيسي المحافظ، وعطلت الشبكات الافتراضية الخاصة، وعرقلت التشفير على تطبيقات المراسلة وقيدت عمليات البحث في جوجل حيث اقتصر على جوجل الآمن، الذي لا يعرض سوى المحتوى المناسب لأعمار الأطفال دون سن 13 عاماً، حيث عملت سياسة النظام الإيراني عبر إطلاق مشروع “الحجب الذكي”، وذلك بهدف استمرار الأرباح الاقتصادية مع توسع نطاق الرقابة على الإنترنت.
وعلى الرغم من غلق إيران لمواقع التواصل الاجتماعي مثل تيك توك ويوتيوب وتويتر وفيسبوك بصورة روتينية، فضلاً عن أنها حدت أيضاً من قدرة استخدام تطبيقات مثل إنستجرام في خطوة للتعتيم على ما يحدث في داخلها- إلا أن تلك القيود التي وضعتها على التكنولوجيا إلا أنها كانت وسيلة مهمة لتنظيم الاحتجاجات الأخيرة داخل إيران، فإن هواتف المتظاهرين هي التي ساهمت في فضح ما يحدث ونقل الصورة إلى العالم، فقد أظهرت الاحتجاجات الغاضبة في إيران خلال الشهر الماضي، والمستمرة حتى اللحظةعدم قدرة النظام على التعتيم عما يجري في الداخل من قمع ضد المتظاهرين رغم استخدام كل وسائل العنف المتاحة، ويعود الفضل في ذلك إلى شبكات التواصل الاجتماعي، فقد ساعدت التكنولوجيا رغم محاولات منعها في تأجيج موجات متتالية من الاحتجاج ضد السلطات في إيران عقب مقتل الفتاة “مهسا أميني”، حيث بلغت ذروتها في تظاهرات على مستوى مدن إيران تحدت كل القوانين والمحظورات.
ففي هذه المرة أثبتت الشبكات التواصل الاجتماعي وخصوصاً تليجرام جدارتها في تحريك الشارع، كما أثبتت فقدان الثقة بالتلفزة والصحافة الرسمية لدى الشارع، فكانت السبب الأول في ذلك إغفال الصحافة الرسمية في التعامل مع الحدث وصمته في الأيام الأولى، والسبب الثاني هو أن الخطاب الذي انتهجته الصحافة الرسمية لم يحصل على ثقة الشارع.
تأسيساً على ما سبق، فإن تحليل محتوى أبرز الوسائل الإعلامية الإيرانية، يشير إلى أن الإعلام الإيراني عاني كثيراً من تلك السياسات القمعية التي قيدته وجعلته مكبلاً لعقود طويلة، ورغم إن الأزمة كبيرة واحتجاجات واسعة النطاق، وكانت ذات انتماءات ومرجعيات بعيدة عن الحيادية تماماً، ومن المتحمل أن تظل كذلك مع نظام شديد القمعية. كما إن دور المواطن الإيراني على وسائل التواصل الاجتماعي، برز أكثر في تغطية الأحداث والاحتجاجات، على الرغم من أن دور الحملة الحكومية على الإنترنت كان أقوى أيضاً في هذه الاحتجاجات، وأن شبكات التواصل الاجتماعي تفوقت على القنوات الإخبارية في نقل الأخبار دون تحفظ، وبالتالي فإن عامل المصداقية وعامل السرعة في نقل الأحداث هما سببان أديا إلى تفوق شبكات التواصل في سباقها مع الصحافة الرسمية. كما أنه تجدر الإشارة هنا إلى أن إيران، عملت على شبكة معلومات وطنية، بهدف عزل الإنترنت في إيران عن المناطق الأخرى، وهو ما أطلق عليه في إيران “الإنترنت الحلال”، ويعتقد أن مشروع الحكومة في رفع تكلفة الإنترنت للاتصال بالخارج مقابل أسعار أرخص للإنترنت الداخلي “تمييز إلكتروني” عبر الإنترنت الحلال، وذلك بهدف السيطرة بشكل أكبر على وسائل التواصل الاجتماعي.
في النهاية، يمكن القول إن الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة تحولت إلى أحد أخطر التحديات التي تواجه حكام إيران منذ ثورة عام 1979، والتي تهدد مستقبل نظام حكم الملالي، وهي واسعة النطاق حتى اليوم ولا تمثل فقط مجرد “معارضة” إيرانية جديدة، بل هي قوة حقيقية مضادة للثورة الإيرانية، والصحف والإعلام الإيراني الرسمي لن يستطيع التعتيم الكلي على هذه الاحتجاجات خاصة وأن لم تكن الحرب محصورة بين النظام والتغطية الإعلامية للإعلام الإيراني، بل تفضحها وشبكات التواصل الاجتماعي.