إلى متى تستمر أزمة الاقتصاد اللبناني؟
أصبح مفهوم الأزمة الاقتصادية وما يحمله من تبعات وصفًا لصيقًا بلبنان، التى عانت لسنوات عديدة من تدهور بالأوضاع الاقتصادية تفاقمت حدتها يومًا بعد يوم، وسط تخوفات من إعلان هذا البلد لإفلاسه، مع صعوبة إتمام المفاوضات مع صندوق النقد الدولى منذ فبراير 2020 وأزمة الوقود فى الآونة الأخيرة المُعطلة للنشاط الاقتصادى، والمتسببة فى عودة الاحتجاجات الشعبية إلى الشارع اللبنانى بمناطق متفرقة فى العشرين من أكتوبر 2021 أدت إلى قطع عددًا من الطرق الرئيسية فى العاصمة بيروت ومدن أخرى، ونددت بتردى الأوضاع المعيشية فى ظل ارتفاع أسعار المحروقات منذ قرار الحكومة ومصرف لبنان احتساب سعر الدولار في استيراد المشتقات البترولية بـ 3900 ليرة لكل دولار بدلا من السعر الرسمي المُقدر بـ 1507 ليرة لكل دولار فى يونيو 2021.
أزمة ممتدة:
تعتبر الأزمة الاقتصادية بلبنان هى نتاج للعديد من نقاط الضعف الهيكلية طويلة الأجل نتيجة التأثر بالعديد من العوامل الداخلية والخارجية، والتى نشأت مع بداية الحرب الأهلية بين الطوائف المختلفة عام 1975 والتى استمرت نحو 15 عامًا، وأضرارها الجسيمة بالبنى التحتية وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية، وتأثير العدوان الإسرائيلى عام 2006، وعمليات تبادل إطلاق النار المستمرة بين الحين والآخر بين إسرائيل وميلشيا حزب الله اللبنانى عبر الحدود فى جنوب لبنان، بجانب تحمل خسائر كببيرة نتيجة الصراع في سوريا وتدفق اللاجئين للبنان المشكلين حاليا ربع سكانها.
فضلاً عن تأثير العقوبات الأمريكية التى تم فرضها على حزب الله اللبنانى منذ عام 2016، والمدرج ضمن قائمة الولايات المتحدة للمنظمات الإرهابية عام 1997 والذى يعتبر حليف لرئيس الجمهورية “ميشال عون” وحزبه التيار الوطنى الحر، وقد فرضت تلك العقوبات أيضاً على أشخاص وشركات وبنوك متهمة بدعم هذا الحزب.
هذا إلى جانب ارتفاع مستويات الفساد بلبنان والإخفاقات المستمرة فى تنفيذ الخطط الاقتصادية التى يتم اعتمادها وتبنيها غياب الموازنات العامة للدولة منذ عام 2005 وحتى نهاية عام 2017 وتأخر اعتمادها بشكل دائم عن موعدها الدستورى.
وتدهورت الأوضاع الاقتصادية سريعًا لتشكل الأزمة بداية من عام 2018 نتيجة تراجع الناتج المحلى الإجمالى وتدهور سعر صرف الليرة أمام الدولار الأمريكى والارتفاع المستمر للدين العام وارتفاع عجز الموازنة العامة وعجز الميزان الجارى، وضغوط السيولة في النظام المالى، وكان كل هذا سببًا فى إعلان رئيس الحكومة اللبنانية السابق “سعد الحريرى” استقالته فى 29 أكتوبر 2019، اعتراضًا على استخدام السلاح ضد المتظاهرين فى احتجاجات شعبية اندلعت فى 29 سبتمبر لنفس العام نتجت بالأساس للتعبير عن المعاناة من الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، مما أدى إلى حالة من الفراغ الحكومة بلبنان لما يقرب من 13 شهرًا كان سببًا فى زيادة حدة التدهور الاقتصادى.
تفاقم الأوضاع:
لم تتوقف الأوضاع المؤثرة على الاقتصاد اللبنانى عند هذا الحد، بل كان انفجار مرفأ بيروت الاستراتيجي فى 4 أغسطس 2020، هو العلامة الفارقة بوضع هذا الاقتصاد قبل وبعد الانفجار، حيث دخل بعدها الاقتصاد اللبنانى فى سلسلة من الخسائر وضعف فى تلبية العديد من احتياجات المواطنين ليواجه كليًا أزمة فى مصادر الطاقة، ساهم فى زيادة حدتها الفراغ الحكومى لمدة ثلاثة أشهر حتى تشكلت حكومة “ميقاتى” وحازت على ثقة البرلمان فى 20 سبتمبر 2021.
وأدى كل هذا إلى صعوبة إتمام الاتفاق مع صندوق النقد الدولى بالحصول على الدعم الفنية فى هذه الأزمة، والذى بدأت مشاوراته مع الصندوق منذ فبراير 2020، تنفيذا لخطة الإصلاح المالى والاقتصادى التى تستهدف الحصول على تدفقات مالية من الخارج خلال 5 سنوات بقيمة 28 مليار دولار، وذلك نتيجة تضارب الآراء بين الحكومة وبعض الجهات الأخرى فى الدولة اللبنانية حيال خطة الإصلاح المالى والاقتصادي لاسيما مع مصرف لبنان نتيجة تضارب أرقام خسائر لبنان المحددة فى الخطة المالية والاقتصادية للحكومة مع أرقام الخسائر التى يحددها مصرف لبنان المركزى.
ومن أبرز ملامح تفاقم الوضع الحالى للأزمة الاقتصادية بلبنان، هى انكماش مستمر بالناتج المحلى الإجمالى والتدهور المستمر لسعر صرف الليرة والنقص الحاد للوقود، وذلك كالتالى:
(*) انكماش الناتج المحلى الإجمالى: يسجل الاقتصاد اللبنانى معدلات نمو سالبة منذ العام 2018، سجلت أعلى نسبة لها عند -20% عام 2020، وهو الأسواء منذ عام 1990.
المصدر 1إعداد الباحثة بالاعتماد على إحصائيات البنك الدولى
(*) تدهور سعر صرف الليرة: تواجه لبنان أزمة حقيقية غير مسبوقة فى سعر صرف عملتها المحلية أمام الدولار الأمريكى تمثلت فى الارتفاع المستمر لسعر الصرف فى السوق عن سعر الصرف الرسمى المُثبت عند1570.5 منذ 12 ديسمبر 2017، والذى يتراوح سعر الدولار مقابل الليرة بين 20100 – 20150 ليرة لكل دولار فى 23 أكتوبر 2021، بارتفاع قدره 1181% عن سعر الصرف الرسمى.
المصدر 2سعر صرف الليرة اللبنانية، موقع تغيير العملات XE
(*) مواصلة المستويات المرتفعة من الدين العام: لم تستطع لبنان السيطرة على المعدلات المرتفعة لنمو الدين العام، والذى تجاوزت ما نسبته 170% من الناتج المحلى الإجمالى، أدت إلى تخلف لبنان عن سداد 1.2 مليار دولار من سندات يوروبوند التي كانت مستحقة في 9 مارس 2020، وفى الربع الأول من العام الحالى 20210 بلغ حجم الدين العام أضعاف ما كان عليه فى العام 2011، ليصل إلى 146.6 تريليون ليرة.
المصدر 3إعداد الباحثة، بالاعتماد على إحصائيات مصرف لبنان
(*) أزمة نقص الوقود وتهديد مستويات المعيشة للمواطنين والأمن الغذائى: تشهد لبنان تراجع حاد فى الاحتياطي من النقد الأجنبى دفع إلى تهديد قدرة الدولة على استيراد احتياجاتها من الغذاء الضروري وتأمين الوقود، ففى أبريل 2021 بلغ احتياطى مصرف لبنان من العملات الأجنبية نحو 22.1 مليار دولار منخفضًا بنسبة 36.7% عن نفس الفترة عام 2020، وأدى هذا إلى وجود أزمة حقيقية فى الوقود بلبنان نتجت عن نقص النقد الأجنبى للاستيراد من الخارج وتهريب الوقود إلى الأراضي السورية، وأثرت على الأنشطة الاقتصادية لتعمل بنصف طاقتها ورفعت من معاناة المواطنين من قطع الكهرباء والتى تصل إلى ساعات طويلة تتجاوز 20 ساعة فى اليوم ببعض المناطق حتى دخلت لبنان فى ظلام تام بعد نفاذ الوقود بمعملى الزهرانى ودير عمار لتعود الكهرباء بعدها بنحو ساعتين فى اليوم، مع اعتماد اللبنانيون بشكل أساسي على الخدمات المقدمة من المولدات الخاصة. فضلا عن تحذير مصرف لبنان بوقف دعم السلع الأساسية عندما يصل الحد الأدنى الإلزامي للاحتياطي من العملات الأجنبية عند 17 مليار دولار.
خطة “ميقاتى” للخروج من الأزمة:
تسعى الحكومة اللبنانية برئاسة “ميقاتى” إلى وضع خطة لخروج الاقتصاد اللبنانى من أزمته، من خلال اثنين من التحركات الأساسية، يقوم التحرك الأول فى عودة المفاوضات مع صندوق النقد الدولى والقائمة على شروط عدة من قبل الصندوق للموافقة على الإقراض منها وضع خطة اقتصادية واضحة مع أرقام موحدة بين للحكومة ومصرف لبنان بشأن الخسائر وهو ما بدأت الحكومة اللبنانية فى تطبيقه فى 21 أكتوبر 2021 من خلال بدء التحقيق المالى والجنائى بحسابات مصرف لبنان وسيشمل لاحقاً الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة والمجالس والصناديق، أما التحرك الثانى فهو وضع خطة إنعاش مالى بالتعاون مع شركة لازارد للاستشارات المالية.
وعلى الجانب الأخر ففى محاولة لحل أزمة نقص الوقود وارتفاع أسعاره والحد من ارتفاع نسب السكان تحت الفقر والتى تصل إلى نصف السكان وخفض النفقات العامة وإعادة توجيهها، تهدف الحكومة اللبنانية إلى إصلاح منظومة الدعم وتطبيق الحماية الاجتماعية بإطلاق البطاقة التمويلية لمنح 93 دولار أمريكي بشكل شهري لعدد من الأسر الفقيرة تعويضًا عن رفع الدعم عن الأدوية والمواد الغذائية والمحروقات.
اتجاهات الأزمة:
بات الاقتصاد اللبنانى أمام أزمة حادة لا يمكن حلها بدون مساعدات مالية وقروض من الخارج، فى ظل ضعف الاحتياطات من النقد الأجنبى وارتفاع مستويات الفساد وتراجع الإنتاج، فإما أن يحصل هذا البلد على المساعدات والقروض والتى تعتبر مسكنات مؤقتة للوضع الحالى حتى تتمكن الحكومة من تطبيق خطط إنعاش مالى تساهم فى الحد من الأزمة، وإما أن يعلن إفلاسه ويعجز عن سداد ديونه المتفاقمة يومًا بعد يوم، مما يجعل التنبوء بالاتجاهات المستقبلية لهذا الاقتصاد مرهونًا بالقدرة على التغلب على التحديات التى تقف أمامه، والتى تعتبر مزيج من التحديات الاقتصادية والسياسية كالتالى:
(*) تحديات اقتصادية:
- عدم استكمال عمليات إعادة الإعمار بمرفأ بيروت، رغم العروض من قبل شركات عالمية لإعادة الإعمار، والذى يتطلب إتمام التعاقدات معها وجود توافق سياسى داخلى.
- فشل تطبيق خطط الإصلاح الاقتصادى السابقة، ومنها على سبيل المثال الخطة الاقتصادية التى كانت تسير عليها الحكومة اللبنانية لإجراء إصلاحات اقتصادية هيكلية، وعدم القدرة على تحقيق مستهدفات الخطة للحصول على القروض الممنوحة من الدول والمنظمات المختلفة خلال مؤتمر “سدر” الذي استضافته فرنسا في أبريل 2018، وفشل تطبيق خطة حكومة رئيس الوزراء الأسبق “حسان دياب”.
- مواصلة تدهور سعر الصرف لليرة مقابل الدولار، وتأخر إعداد الموازنات الذى يتسبب فى غياب الانتظام المالى وارتفاع نسب الفساد.
- تأخر الحصول على المساعدات والقروض الخارجية، فى ظل اشتراط المجتمع الدولى وجود حكومة جديدة، التى تأخر تشكيلها لمدة 13 شهرًا، وتبنى خطة إصلاح اقتصادى وإعادة هيكلة النظام المصرفى، وهو ما تسبب فى الإخفاقات بين الحين والأخر فى إتمام المفاوضات مع صندوق النقد الدولى والتى استمرت لأكثر من عام، وصعوبة تحقيق شرط مؤتمر “سيدر” فيما يخص خفض عجز الموازنة كنسبة من الناتح إلى 7% خلال 5 سنوات بدءا من عام 2019، للحصول عل القروض والمنح التى تعهدت بها الدول والمنظمات الدولية المشاركة فى المؤتمر والبالغة 11.8 مليار دولار.
- اشتداد أزمة نقص الوقود وصعوبة السيطرة على تهريبه إلى الأراضي السورية، بما سيؤدى إلى انعكاسات اقتصادية وخيمة.
(*) تحديات سياسية:
- الطبيعة المميزة للاقتصاد اللبنانى، وهى أنه اقتصادا أسير للسياسة، ويتطلب تطبيق خطط الإصلاح الاقصادى ونجاحها وجود توافق سياسى داخلى.
- التخوفات من نشوب حرب أهلية جديدة بلبنان بعد الاضطرابات الداخلية الأخيرة، والمتمثلة فى نشوب معركة بالأسلحة بين محتجون من جماعة حزب الله وحركة أمل الشيعيتين في طريقهم للمشاركة في مظاهرة ضد كبير المحققين في انفجار مرفأ بيروت فى 14 أكتوبر 2021، واتهام جماعة حزب الله الشيعية لحزب القوات اللبنانية بارتكاب أعمال العنف.
- العلاقة الطردية فى لبنان بين اتخاذ الحكومة لقرارات جريئة للحد من تدهور الأوضاع الاقتصادية وبين الاحتجاجات الشعبية، وهو ما يثير القلق فى شأن قدرة الحكومة اللبنانية تطبيق قرارات إصلاح الدعم وتعديل أسعار الصرف.
وختامًا، يمكن القول بأن الأزمة الاقتصادية اللبنانية لم ولن تحل بدون المساعدات والقروض الخارجية العاجلة، على الرغم من أنها ستؤثر بلاشك بشكل سلبى على حجم الدين العام، وعلى الجانب الأخر فلابد من تنشيط عجلة الإنتاج وجذب استثمارات أجنبية، أما الحلول الداخلية وحدها لن تكون لها أى تأثير، ويتطلب نجاح كل هذا وجود التوافق السياسى الداخلى والحد من مستويات الفساد، وهو ما يجعل الاقتصاد اللبنانى أمام المرحلة الأصعب فى تاريخه.