المُحصلة: كيف أمنت “القاهرة” فترة ما بعد وقف إطلاق النار في غزة؟
لطالما كانت ولا زالت القضية الفلسطينية، تمثل أولوية مهمة للسياسة المصرية وأحد ثوابتها الراسخة، فما بين مصر وفلسطين من روابط ممتدة تأبى الانفكاك، وعصية عن الانفصال، بحكم حتمية التاريخ والجغرافيا والدين واللغة، والماضي والحاضر والمستقبل، جعلت بين مصر وفلسطين علاقة عضوية، فوق الأزمات والمزايدات السياسية.
فمنذ حرب عام 1948، وما تلاها من أحداث وتطورات وحتى اللحظة الراهنة، لم تتخلى مصر قط عن مساندة ودعم الشعب الفلسطيني – رسميا وشعبيا- بل إن مواقف الدولة المصرية تجاه القضية الفلسطينية، ثابتة ولم تتغير، برغم تغير الأنظمة السياسية المصرية على مدار العقود الماضية.
وانطلاقا من هذه الوضعية الحتمية، تبذل مصر جهودا حثيثة، ومساع دءوبة لإيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، وفي إطار نجاح مصر في إنجاز التهدئة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، خلال الحرب الإسرائيلية على غزة 2021، انعكست رؤية مصرية واضحة تجاه حل القضية الفلسطينية، فما هي أبرز ما تضمنته تلك الرؤية في ضوء ما أسفرت عنه الحرب الأخيرة من نتائج؟.
تحركات مصرية فاعلة:
على غرار سابقاتها منذ عملية “الرصاص المصبوب” عام 2008، وعملية “عمود السحاب” عام 2012، ثم عملية “الجرف الصامد” عام 2014، وصولا إلى عملية “حارس الأسوار” عام 2021، تتحرك مصر بخطوات ثابتة باتجاه خفض التصعيد والوصول إلى وقف لإطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية.
ومع بداية المناوشات التي جرت في القدس بين جنود الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين في مايو2021، على خلفية الاقتحامات وانتهاكات المستوطنين اليهود المتكررة بحق القدس والمسجد الأقصى، ومحاولة إسرائيل تهجير عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح، تفاعلت مصر بشكل سريع مع تلك التطورات، وأصدرت عبر وزارة الخارجية، ثلاثة بيانات رسمية، تطالب إسرائيل باحترام المقدسات الإسلامية ووقف كافة الممارسات التي تنتهك حرمة المسجد الأقصى، وتحذر من تصاعد الموقف، والذي بدوره يمكن أن ينتقل التوتر إلى مناطق أخرى، يفاقم تلك الأوضاع.
غير أن التصعيد الإسرائيلي والذي قابلة رد فلسطيني، أدى إلى اندلاع حرب إسرائيلية على غزة، استمرت أحد عشر يوما، وخلفت الكثير من الدمار، والضحايا الأبرياء، وقد بلغت حصيلة تلك الحرب، وبحسب المصادر الفلسطينية، (248) شهيد، بينهم (66) طفل (39) امرأة، و(1948) مصاب، و(120) ألف نازح، و(16800) وحدة سكنية متضررة، منها (1800) وحدة غير صالحة للسكن، وهدم (5) أبراج سكنية، و(74) مرفق حكومي مدمر، وثلاثة مساجد مدمرة، و(66) مدرسة مدمرة، فضلا عن أن البنية التحتية في غزة شهدت دمارا واسعا.
وقد قامت مصر وحتى قبل بداية تلك الحرب بتحركات مكثفة لإنهاء حالة التوتر، والحيلولة دون تفاقم الأوضاع وتوسع العنف، غير أن تطور الأحداث أدى إلى اندلاع الحرب على غزة، وقد سارعت مصر بإرسال وفدًا أمنيًا إلى كل من تل أبيب وقطاع غزة، وتوالت زيارات المسئولين الأمنيين المصريين لاحتواء التصعيد والاتفاق على التهدئة ووقف إطلاق النار.
كما تم فتح معبر رفح لدخول المصابين الفلسطينيين لتلقي العلاج، وفتحت المستشفيات في شمال سيناء والإسماعيلية لعلاج الجرحى، و دعا الرئيس “السيسي” إلى تقديم كافة أشكال الدعم للأشقاء في فلسطين، وخلال زيارته إلى فرنسا، في 16 مايو2021، أكد الرئيس “السيسي” على أهمية وقف العنف واحتواء التصعيد الخطير في الأراضي الفلسطينية الذي أدى إلي تفاقم الوضع الإنساني والمعيشي داخل قطاع غزة، كما أعلن عن تقديم مصر لمبلغ (500) مليون دولار كمبادرة مصرية، لصالح عملية إعادة الإعمار في قطاع غزة نتيجة الأحداث الأخيرة، وحث دول العالم على تقديم أوجه الدعم المختلفة للفلسطينيين.
منطلقات الرؤية المصرية:
وبعد أن تكللت الجهود المصرية بإنجاز اتفاق التهدئة الذي بدأ سريانه في الحادي والعشرين من مايو 2021، أكدت مصر على حتمية التسوية القائمة على حلِّ الدولتين، اللتان تتعايشان جنبًا إلى جنب بسلام وأمن وفقًا للقانون الدولي؛ ويمكن بلورة ترتكز الرؤية المصرية تجاه القضية الفلسطينية في المحاور التالية:
(*) محاولة معالجة الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى تصعيد وتوتر بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني في المستقبل، والتي من أهمها توقف إسرائيل عن عمليات التهجير القصرية للفسطينين في القدس المحتلة، والاقتحامات المستمرة للمسجد الأقصى، والممارسات القمعية بحق الشعب الفلسطيني.
(*) بعد بلوغ التهدئة، محاولة الحفاظ على استمرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، والعمل على تثبيت التهدئة، والسعي إلى استعادة الهدوء ومنع العنف والعنف المضاد.
(*) رفض مصر القاطع لأية إجراءات إسرائيلية أحادية الجانب من شأنها تغيير الأوضاع الديمغرافية القائمة في القدس خاصة والأراضي الفلسطينية عامة، والحيلولة دون استفراد إسرائيل بذلك.
(*) العمل مع الشركاء الدوليين للوصول إلى حل نهائي وشامل للقضية الفلسطينية، وذلك من خلال الحشد الدولي للقضية وتكثيف الاتصالات والتحركات المصرية في هذا الاتجاه.
(*) استمرار تقديم كافة أشكال الدعم للشعب الفلسطيني وقياداته، واستمرار رعاية القاهرة للحوار الوطني الفلسطيني من أجل إنهاء الانقسام والعمل على توحيد الجهود الفلسطينية في إطار أفق سياسي ومسعى متكامل يتعدى الحلول القاصرة والمؤقتة.
(*) توجيه الشركات المصرية المتخصصة للمشاركة في عملية إعادة إعمار قطاع غزة، وإعادة البنية التحية التي دمرتها الحرب الإسرائيلية، والتعاون مع الدول الراغبة في المشاركة في عملية الإعمار.
وفي سياق ما سبق، تدرك مصر أن الحل الحقيقي للقضية الفلسطينية، لا يستند إلى مجرد استئناف المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية- وهي خطوة مهمة بلا شك، خاصة إذا جاءت برعاية الرباعية الدولية- بقدر ما يتطلب تسوية حقيقية وشاملة للصراع الممتد منذ عقود طويلة، وذلك استنادا إلى المنطلقات التالية:
(&) فلسطينيا، من الأهمية إعادة ترتيب البيت الفلسطيني أولا، وتأمل مصر أن تسفر مخرجات الحرب الأخيرة على غزة عن عودة الوحدة واللحمة الفلسطينية وإنهاء الانقسام، الذي لا يزال يمثل عقبة كأداء في سبيل توحيد الصف الفلسطيني، الذي لا يملك رفاهية الاختلاف أو الانقسام، الذي أكثر ما يخدم إسرائيل بالأساس، ولطالما كرسته طوال عقود لاستمرار هذا الوضع البائس، وبالتالي من الأهمية إنهاء هذا الانقسام فورا، باعتباره مصلحة فلسطينية عليا، لا تقبل التأجيل.
(&) إسرائيليا، ضرورة الوعي بأن الأوضاع في سبيلها للتغير، وأن واقعا جديدا في المنطقة والعالم بدأ يتشكل بالفعل، ولم تعد لغة القوة وفرض الأمر الواقع وحده هو من يحقق الأهداف، وأن الأزمات السياسية الداخلية لا تعالجها الحروب أو التوجهات العدوانية على الشعب الفلسطيني، وأنه في نهاية المطاف لا بديل عن المفاوضات المباشرة مع الفلسطينيين، والاتجاه إلى التسوية الحتمية في إطار الحل الشامل، الذي يعيد للفلسطينيين كامل حقوقهم المشروعة بإقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس.
(&) دوليا، ضرورة التحرك بفاعلية تجاه مشهد الصراع المستمر في فلسطين، والذي يهدد مستقبل السلام والاستقرار في المنطقة برمتها، ومن الواضح أن هذه القضية تتعلق بالإرادات الدولية، أكثر من مجرد تقديم أطروحات سياسية للحل، باعتبار أن أي قرار دولي يكتسب أهميته بالتنفيذ وليس بمجرد الإصدار، فكم من قرار دولي لم ينفذ ولم يساعد في عودة الحقوق لأصحابها، وخير شاهد على ذلك ما صدر عن الأمم المتحدة من قرارات لم تعرف طريقها للتطبيق، ولم تنعكس على أرض الواقع.
فمنذ قرار حلّ الدولتين الذي صدر بموجب قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (181) لعام 1947، والقرار الخاص باللاجئين، رقم (194) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1948، وقرار إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، رقم (242) الصادر عن مجلس الأمن عام 1967، والقرارين المتعلقين بالحفاظ على وضع القدس رقم (476) ورقم (478) الصادران عن مجلس الأمن عام 1980، وكذلك القرار رقم (2334) الذي اعتمده مجلس الأمن، عام 2016، والداعي لوقف الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية بشكل فوري وتام، ورغم أهمية هذه القرارات، والتي تمثل منطلقات حيوية لمساعي حل القضية الفلسطينية، إلا أنها لا تزال تنتظر تحويلها إلى أفعال.
وفي ضوء ما سبق وما أقرته الحرب الأخيرة على غزة 2021، يتبين أن تلك الحرب بعثت بعدد من الرسائل ذات الأهمية، مفادها:
(*) أنه لا تزال مصر تقدم عن دعمها المطلق للقضية الفلسطينية، ولا يزال الدور الإقليمي المصري، حاضرا بقوة، ويكتسب كل يوم المزيد من القوة والفاعلية، وأن سياسة جديدة للقاهرة تتشكل، ترتكز إلى المبادرة وليس ردة الفعل، خاصة تجاه القضايا الحيوية ذات الأولوية في المنطقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
(*) أن معادلة جديدة فرضت نفسها في علاقة الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، مفادها أن التصعيد يفرض التصعيد، والعنف يواجه بالعنف المضاد، والهدوء يقابل بالهدوء، وأن ما يحدث في القدس يتردد صداه في كل المدن الفلسطينية، بل وفي الدول العربية والإسلامية.
(*) أن الاستمرار في الاستيطان، وتهويد القدس لفرض أمر واقع جديد، وهدم مساكن الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم وطردهم من بيوتهم، ومصادرة أملاكهم لم يعد من الممكن أن يمر دون رد، ولن يكون بمقدور إسرائيل تجاهل معادلة الردع الجديدة في أي مواجهة مستقبلية محتملة بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية.
(*) أن المنطقة تتغير وبوتيرة متسارعة، وكذلك الكثير من التوازنات والأدوار الإقليمية والدولية حاليا، لم تعد كما كانت في السابق، وكذلك علاقات القوة المتغيرة هي الأخرى، مما يجعل المنطقة في المستقبل مفتوحة على كل الاحتمالات والسيناريوهات.
في النهاية، يمكن القول إنه رغم الأحداث والأزمات التى تمر بها المنطقة، والتي تحمل فى طياتها الكثير من عوامل التوتر وعدم الاستقرار، إلا أنه فى الوقت ذاته، تسعى مصر وبحكم دورها التاريخي وثقلها الإستراتيجى أن تقود التوجهات الإيجابية الداعمة للسلام والاستقرار، والذي تراه مرتبطا بإعلان الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، باعتبارها الحل الحقيقي لأزمات المنطقة الملتهبة، يتطلب الأمر توافر إرادة سياسية دولية فاعلة، والتي بدونها يصعب الوصول إلى تسوية حقيقية للقضية الفلسطينية.