إدارة التصعيد… لماذا تُحدّث روسيا عقيدتها النووية؟
في أحدث تصريحات للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أكد أن روسيا من جديد تؤكد موقفها المبدئي المتمثل في أن استخدام السلاح النووي هو الملاذ الأخير. وأوضح بوتين خلال تدريبات قوات الردع الاستراتيجية (هي أحد عناصر القوات الروسية المخصصة لردع العدوان على روسيا وحلفائها، وللإطاحة بالعدو في حرب تستخدم أنواعًا مختلفة من الأسلحة، بما في ذلك الأسلحة النووية) أن استخدام الأسلحة النووية هو إجراء أخير واستثنائي لضمان أمن الدولة، وفق ما نقلت وكالة “تاس” الروسية. وأشار إلى أن روسيا لن تنجر إلى سباق تسلح جديد، ولكنها ستحافظ على قواتها النووية عند المستوى المطلوب. ويذكر أنه خلال الأسابيع الماضية، ومع تصاعد الحديث في أروقة الدول الغربية عن السماح لأوكرانيا باستهداف العمق الروسي عبر صواريخ طويلة المدى، كثرت التهديدات الروسية وتلويح موسكو بالسلاح النووي. كما حذر رئيس مجلس النواب الروسي، فياتشيسلاف فولودين، في سبتمبر الماضي من أن استهداف العمق الروسي سيؤدي إلى حرب بالأسلحة النووية.
يشار إلى أن نائب وزير الخارجية الروسي، سيرجي ريابكوف، أعلن مطلع أكتوبر 2024 أن بلاده ستدخل تعديلات على عقيدتها النووية ردًا على مواقف الغرب تجاه الحرب في أوكرانيا.
وتنص العقيدة النووية على استخدام القوات الروسية أسلحة نووية “في حال تعرضت البلاد لهجوم نووي أو حتى هجوم بأسلحة تقليدية يهدد وجود الدولة”، وفقًا لمرسوم أصدره الرئيس الروسي عام 2020. وهو ما نستعرضه في السطور التالية.
العقيدة النووية الروسية
في عام 2020 أصدرت الحكومة الروسية علنًا وثيقة تحدد المنطق والمبادئ التي يقوم عليها نهجها في الردع النووي (في سابقة تعد الأولى من نوعها). وقد وافق الرئيس فلاديمير بوتين على الوثيقة رسميًا تحت عنوان “أساسيات سياسة الردع النووى الروسية”.
وقد يكون الهدف التكتيكي هو العمل على تبديد التصورات الغربية حول متى قد تستخدم روسيا الأسلحة النووية، وتحديدًا تقييم البنتاجون بأن موسكو سوف تهدد باستخدام الأسلحة النووية – أو تفعل ذلك في الواقع – لتخويف الخصم لكي يستسلم في أزمة كبرى. ولقد وصف المسؤولون الأمريكيون هذه الاستراتيجية بأنها “تصعيد للفوز”، وقد استخدموا هذه الاستراتيجية لتبرير تطوير خيارات الأسلحة النووية منخفضة القدرة في الولايات المتحدة لمواجهتها.
إن وثيقة الاستراتيجية تعني ضمنًا أن منظومة الأسلحة النووية تردع التصعيد من خلال مجرد وجودها. ومع ذلك، تحوي قدر من التحذير موجهة إلى الخصوم عبر مجموعة من الإجراءات التي تزعم موسكو أنها ستثير خطر الحرب النووية إذا ما تعرضت روسيا لتهديدات. وتشمل هذه المنظومات نشر صواريخ باليستية وصاروخية، وطائرات بدون طيار مسلحة، ودفاعات صاروخية، بل وحتى تجمعات كبيرة من القوات ذات الأغراض العامة – مثل لواء تابع للجيش الأمريكي – بالقرب من الأراضي الروسية. ومن دون ذكر الولايات المتحدة أو حلفائها، فإن الوثيقة تعكس شكاوى موسكو حول الأنشطة العسكرية لحلف شمال الأطلسي في محيط روسيا، وعقيدة التحالف في مجال المشاركة النووية، وبنية الدفاع الصاروخي العالمي للولايات المتحدة، والمخاوف من نشر صواريخ أمريكية جديدة تطلق من الأرض بالقرب من روسيا.
في محاولة لزيادة تعزيز الردع، تحذر الوثيقة خصوم روسيا من أن موسكو ستلحق أضرارًا “غير مقبولة” ردًا على أي عدوان عليها أو على حلفائها. وتؤكد هذه الصياغة على قدرة روسيا النووية. وفي حين تشير الوثيقة أيضًا للحاجة إلى الاعتماد على القوات التقليدية، فضلًا عن الوسائل الاقتصادية والدبلوماسية وغيرها من وسائل الردع غير النووية، فإن الوثيقة توضح أن صانعي السياسات الروس ما زالوا يعتبرون القوات النووية ضرورية لدعم حافظتهم المتنامية وإن كانت غير كافية من الأدوات التقليدية والسياسية – العسكرية.
إن معيار حجم القوات النووية الروسية يحوي على عبارة ( “مستوى كاف لضمان الردع النووي”) وهي العبارة التي تحوي قدر كبير من الغموض، لدرجة تبرر وجود ترسانة من أي حجم. كما تؤكد المبادئ التوجيهية على خيارات الرد المرنة التي تُقدِم عليها روسيا من حيث حجم وتوقيت ووسائل وأهداف الانتقام النووي المحتمل. وتوضح الكتابات العسكرية الروسية استخدام الأسلحة النووية في مجموعة من السيناريوهات، من الصراعات الإقليمية إلى حروب القوى العظمى. وعلى نحو مماثل.
إن سياسة الردع النووي التي نشرت مؤخرًا تتجاوز بشكل خاص التهديد بالانتقام النووي من ضربة نووية على الأراضي الروسية. ويؤكد أن موسكو قد تستخدم أسلحة نووية للدفاع عن روسيا أو حلفائها ضد أي هجوم يتسبب في دمار شامل، بما في ذلك تلك التي تنطوي على أنظمة غير نووية – يفترض أنها أسلحة إلكترونية أو أسلحة تقليدية دقيقة – يمكن أن تلحق أضرارًا مماثلة للضربات النووية.
إن ورقة روسيا حول الردع النووي لا تحسم المناقشات الغربية حول الاستراتيجية النووية الروسية. ومع ذلك، فإنه يوضح أوجه التشابه والاختلاف بين التفكير الروسي والأمريكي حول الأسلحة النووية. وتتبنى الحكومتان الردع النووي بينما تتهم كل واحد منهما الأخرى بالتخطيط المتهور للتصعيد النووي. وبالإضافة إلى ذلك، وبما أنه من غير المرجح أن تتبدد قريبًا القائمة المطولة للمخاوف الروسية، فإن احتمالات توسيع التعاون الروسي الأمريكي بشأن الحد من الأسلحة النووية ستظل متواضعة بغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة.
العقيدة النووية والحرب الاوكرانية
تجنبت روسيا الهجمات واسعة النطاق لصالح الهجمات المتعددة للاستيلاء ببطء على أجزاء صغيرة من الأراضي الأوكرانية. يعتزم بوتن تنفيذ هذه الاستراتيجية إلى أجل غير مسمى. وفي هذا الإطار، سيبدأ المخططون الأوكرانيون في التفكير في عمليات هجومية مستقبلية لتحرير المزيد من أراضيهم.
إن هذه الأحداث، التي وقعت على مدى الأشهر الماضية، كان لها تأثير أساسي على كيفية نظر أوكرانيا وروسيا وحلف شمال الأطلسي إلى استراتيجيتهم، وحتى الشتاء والحملات الحتمية في الربيع والصيف في عام 2025.
ومع ذلك، سيكون هناك العديد من التأثيرات الأخرى على مسار الحرب في أوكرانيا في العام المقبل:
(*) التأثير الأول سيكون قدرة أوروبا على دعم الحرب: لقد خرجت أوروبا ببطء ولكن بثبات من سباتها الاستراتيجي على مدى العقود الثلاث الماضية. وبسبب المخاوف المزدوجة من “الإكراه الترامبي” وتوضيح التهديد من روسيا، بدأت ميزانيات الدفاع الأوروبية في الارتفاع. وفي الوقت نفسه، تشهد الاستثمارات في قدرة التصنيع الدفاعي، بما في ذلك المعدات والذخائر، زيادة في الإنتاج فضلًا عن زيادة القدرة على دعم المعدات في الخدمة الأوكرانية. وإذا استمر التوسع الحالي في الإنفاق الدفاعي الأوروبي، فيجب أن يكون قادرًا على توفير نسبة أكبر من الاحتياجات العسكرية الأوكرانية من عام 2025 فصاعدًا.
(*) التأثير الثاني على مسار الحرب سوف يكون تطوير نظرية أوكرانية للنصر: ففي حين نجحت الاستراتيجية الدفاعية الأوكرانية في العام الأول من الحرب، فإن التكيف الروسي مع استراتيجيتها العسكرية، بدعم من تعبئة الصناعة والأفراد الروس، دفع أوكرانيا إلى إعادة تقييم نظريتها في النصر في هذه الحرب. فما هو شكل النصر بالنسبة للأوكرانيين بالضبط وكيف قد يحققونه؟ ومن المرجح أن يشتمل هذا على عدة مكونات، بما في ذلك العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية والإعلامية، وربما يحتاج أيضًا إلى تضمين تطوير عقيدة عسكرية هجومية جديدة وأكثر فاعلية. وينبغي تنسيق تطوير هذه النظرية الأوكرانية للنصر مع حلف شمال الأطلسي، وسوف يتطلب ذلك زيادة المساعدات العسكرية والمالية لأوكرانيا.
(*) التأثير الثالث إذا كانت الأحداث خارج أوروبا الوسطى تتدخل إما لتشتيت انتباه صناع القرار الرئيسيين في الولايات المتحدة وغيرها من المؤيدين لأوكرانيا أو لإعادة توجيه الموارد الحاسمة إلى مسارح أخرى. والتأثير الواضح هو الحرب على الحدود الشمالية لإسرائيل. إن هذا من المرجح أن يؤدي إلى زيادة الطلب على الذخائر لقوات الاحتلال الإسرائيلية مقارنة بعملياتها في غزة، ومن شأنه أن يفرض ضغوطًا كبيرة حتى على زيادة إنتاج مصنعي الأسلحة الأمريكيين والأوروبيين. وإلى جانب إسرائيل، يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين أن يكونوا حذرين ومستعدين لقرار الصين القيام بعمل عسكري ضد تايوان.
(*) التأثير النهائي سوف يكون نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر 2024. وسوف يأمل بوتين في فوز المرشح الجمهوري. وتظهر استطلاعات الرأي الأخيرة التي أجراها مركز بيو للأبحاث انقسامًا في الدعم لأوكرانيا بين الناخبين الجمهوريين والديمقراطيين: إذ يعتقد 49% من الجمهوريين أن الولايات المتحدة تقدم الكثير من المساعدة لأوكرانيا، في مقابل 16% من الديمقراطيين. وقد يصب فوز الجمهوريين في السباق الرئاسي بصالح روسيا، وكذلك في انتخابات مجلس الشيوخ والنواب. ولكن لا ينبغي اعتبار هذا أمر مؤكد. فإذا لم يتمكن المرشح دونالد ترامب (حال فوزه) من “إنهاء الحرب في غضون 24 ساعة”، فقد ينقلب على فلاديمير بوتين.
إن أوكرانيا وروسيا سوف تخططان بالفعل لعملياتهما في الشتاء 2024 وتدرسان عملياتهما الهجومية لعام 2025. وهناك مجموعة من المتغيرات المعروفة التي سوف تؤثر على هذا التفكير والتخطيط الاستراتيجي. وبالإضافة إلى ذلك، وفي بيئة تكنولوجية وجيوسياسية سريعة التطور، قد تؤثر المفاجآت الاستراتيجية على مسار الحرب.
سوف تستمر روسيا في تنفيذ استراتيجيتها المتمثلة في إخضاع أوكرانيا وشعبها للموت بألف جرح. وسوف تستمر أوكرانيا، كما فعلت طوال هذه الحرب، في التكيف والبحث عن طرق جديدة ليس فقط لتدمير أكبر قدر ممكن من الجيش الروسي، ولكن أيضًا لتطوير أساليب استراتيجية جديدة لإقناع بوتين بأن عمليته الأوكرانية لن تؤتي ثمارها أبدًا. لذلك فإن تلويح روسيا بين الحين والآخر بالسلاح النووي التكتيكي يعد هامًا ولابد من اخذه على مأخذ الجد خاصة إذا تعرضت روسيا الاتحادية في عهد بوتين لتهديد وجودي.
ختامًا؛ لقد ذكر بوتين أن روسيا “تقاتل من أجل بقائها”. ووفقًا لأحدث استطلاع رأي، يعتقد 64% من الروس أن الحرب في أوكرانيا هي “صراع حضاري بين روسيا والغرب”. ويبدو أن هذا الموضوع هو الذي يعتقد بوتين أنه كان له تأثير أكبر كثيرًا بين الروس مقارنة بزعمه السابق بأن ما يسمى بـ”إضفاء النازية على الحكومة الأوكرانية” كان السبب الرئيسي للحرب ــ ولا تعكس الوثيقة النووية بصدق مدى تفكير القيادة الروسية بشأن الحرب النووية، فإن ذلك غير واضح. ولكن حتى لو كان الأمر كذلك، فإن الاستراتيجية تشير إلى أن الحكومة يمكن أن تعيد النظر في عقيدة الردع في أي وقت إذا تغيرت الظروف الداخلية أو الخارجية. كما أنها لا توضح كيف تنطبق سياسة الردع النووي الروسية على الصين التي تنشر أيضًا أسلحة دمار شامل وصواريخ وقوات قرب الاراضي الروسية.
وعلى الأرجح، يخطط الاستراتيجيون الروس لاستخدام الأسلحة النووية في حالة نشوب حرب كبرى مع الصين، نظرًا لصعوبات الدفاع عن الشرق الأقصى الروسي النائي بالقوات التقليدية. ولكن مثل هذه الحالات كانت غائبة عن الخطاب الرسمي على مدى العقد الماضي لتزايد التقارب مع الصين. أما فيما يتعلق بالجدل الدائر حول التصعيد والضربة النووية الأولى، يقول المتشككون الغربيون إن عدم اهتمام موسكو المعلن بشن حرب نووية يتناقض مع مجموعة من الإجراءات والمواقف الروسية. ونتيجة لممارسات الشراء الروسية، فإن جميع النظم الجديدة مصممة لإيصال الأسلحة النووية، إما حصرًا أو مع حمولات تقليدية محتملة. وتشمل المناورات العسكرية الرئيسية بانتظام تدريبات تحاكي استخدام الأسلحة النووية. وتشمل الكتابات العسكرية الروسية بشكل روتيني مناقشات حول سيناريوهات التصعيد النووي وخيارات ساحة المعركة. وعلى وجه الخصوص، فإن الاستثمار المستمر لروسيا في تحسين كل من كمية ونوعية أسلحتها النووية التكتيكية يوسع من اختلال التوازن العددي مع الولايات المتحدة الذي هو بالفعل في صالح موسكو بقوة، وبالتالي توفير الذخيرة لأولئك الذين يعتقدون أن الجيش الروسي سوف يفكر في استخدام هذه الأسلحة كجزء من استراتيجية “التصعيد من أجل الفوز”.