مسوغات التوجه الإثيوبي للنفاذ إلى البحر الأحمر

يوجد على مستوى العالم 44 دولة غير ساحلية، منها 16 دولة في إفريقيا. وتحمل ترتيبات العبور لاستيراد وتصدير السلع في طياتها تحديات لتلك الدول من حيث التكاليف والتأخيرات وخطر فقدان السلع أو إتلافها. وعندما تنهار العلاقات، كما كان واضحًا أثناء الصراع بين إثيوبيا وإريتريا في أواخر تسعينيات القرن العشرين، فقد تفقد الدول غير الساحلية القدرة على الوصول للموانئ، وهي تعتمد على الإرادة السياسية والتزام دول العبور. وعلاوة على ذلك، فإن اتفاقيات العبور محدودة بالسياسات البنيوية والإدارية والجمركية للدولة الساحلية. وتكافح جيبوتي والصومال وإريتريا جميعها مع أوجه القصور البنيوية والاقتصادية، وهذا يضع الدول غير الساحلية في موقف ضعيف بشكل دائم مقارنة بالدول الساحلية. وقد يساعد هذا في تحليل الاتفاق بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال الانفصالي.
توجهات إثيوبيا
في يوم الأحد 8 سبتمبر الماضي، عندما ترأس تكريمًا عسكريًا في أديس أبابا. كرر رئيس الوزراء الإثيوبي أن بلاده “لن تتفاوض مع أحد بشأن سيادة إثيوبيا وكرامتها” وطالب “بالوطنية القومية” من أجل مقاومة “القوى الأجنبية” التي يتهمها بالرغبة في “زعزعة استقرار المنطقة”. وتشهد منطقة القرن الإفريقي حالة من الاضطراب منذ الإعلان عن الاتفاق البحري بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال الانفصالي في الأول من يناير 2024، والذي من شأنه أن يمنح أديس أبابا إمكانية الوصول المباشر إلى البحر الأحمر (جاءت مذكرة التفاهم مع إثيوبيا الاتفاقية الثانية التي وقعها عبدي ورئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في 2 يناير الماضي، وتمنح القوات البحرية الإثيوبية حق الوصول إلى عشرين كيلومترًا من ساحل أرض الصومال لمدة خمسين عامًا). وفي المقابل، وافق آبي على أن تقوم الحكومة الإثيوبية بإجراء “تقييم متعمق” للاعتراف بأرض الصومال. كما حصلت أرض الصومال على حصة في الخطوط الجوية الإثيوبية وتثير المعاهدة التوترات لأنها تنتهك سيادة الصومال – حيث لا يعترف المجتمع الدولي بأرض الصومال كدولة مستقلة. فبعد تسعة أشهر من ذلك بدأت حرب باردة في منطقة القرن الإفريقي.

وسابقًا، ولّد الاتفاق الثلاثي الذي وقعته إثيوبيا وإريتريا والصومال في الخامس من سبتمبر 2018 آمالًا كبيرة في مستقبل أكثر سلامًا في المنطقة. واستنادًا إلى مبادئ السلامة الإقليمية والسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض، وأثار هذا الاتفاق التفاؤل بشأن المزيد من التكامل الإقليمي والازدهار الاقتصادي، إلا أن هذه الآمال قد تبددت في أعقاب إعلان آبي أحمد أن إثيوبيا يجب أن تستحوذ على ميناء بحري. لذلك، فإن التهديدات المستترة بضم الأراضي قد تؤدي إلى تجدد الصراعات وانعدام الأمن. وبالتالي، يتعين على إثيوبيا أن تنخرط في حوار مفيد مع جميع جيرانها، الذين يتعين عليهم أن يدركوا أن تلبية الاحتياجات المشروعة لإثيوبيا هو في مصلحة جميع الأطراف.
طموحات إثيوبية متجددة
تُعَد إثيوبيا الدولة غير الساحلية الأكثر كثافة بالسكان في العالم (عدد سكانها 127 مليون نسمة، منفصلة عن ميناء عصب الإريتري على البحر الأحمر بشريط من الأراضي يبلغ عرضه حوالي 60 كيلومترًا (37 ميلاً). وبسبب افتقارها للوصول إلى البحر، فقد أحيت بشكل دوري مطالباتها بميناء على البحر الأحمر، استنادًا إلى ثلاث حجج رئيسية: الحقوق التاريخية والقانونية؛ وضرورات التنمية الوطنية؛ والمكانة الدولية للبلاد. ووفقًا لرئيس الوزراء الإثيوبي، فإن الافتقار إلى ميناء بحري “يمنع إثيوبيا من تولي مكانتها في إفريقيا”. وحاليًا، تعتمد إثيوبيا بشكل كبير على ميناء جيبوتي، الذي يمثل أكثر من 95٪ من صادراتها ووارداتها. يكلف هذا الاعتماد إثيوبيا أكثر من مليار دولار سنويًا في الرسوم. وقد دفع الاعتماد على ميناء واحد أديس أبابا إلى البحث عن بدائل.

في يناير 2024، توصلت إثيوبيا إلى اتفاق مثير للجدل مع “أرض الصومال” للوصول إلى ميناء بربرة للاستخدامات التجارية والبحرية، مما أدى إلى تأجيج التوترات مع الحكومة الفيدرالية في الصومال. كما تصاعدت خطابات آبي أحمد الهجومية، ما دعا جيران إثيوبيا الساحليين – الصومال وإريتريا وجيبوتي – لاستقبال خطابه بمزيج من القلق والرفض. مما دفع “آبي” للتخفيف من حدة الخطاب، قائلًا إن “إثيوبيا لن تسعى إلى تحقيق مصالحها من خلال الحرب”، مضيفًا: “نحن ملتزمون بتعزيز المصلحة المتبادلة من خلال الحوار والتفاوض”، خاصة وأن مساعي “آبي أحمد” للحصول على ميناء قد جاءت في أعقاب حرب مدمرة في منطقة تيجراي، وأزمة اقتصادية محلية، والتوترات القائمة بين إثيوبيا وجيرانها. وأن تحركاته غير المسئولة يمكنها أن تضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى الجغرافيا السياسية للقرن الإفريقي. والواقع أن تحركه يهدد بتعميق الشقوق على عدة جبهات وخلق جبهات جديدة.

مزاعم تاريخية
يتذرع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد -الذي تنصل من المعاهدات والالتزامات فيما يخص نهر النيل مع مصر والسودان بحجة أنها تاريخية ووُقعت في عهود استعمارية رغم أنها في منتصف القرن العشرين- وذلك استناده مؤخرًا لـ”الحقوق التاريخية” فيما يتعلق بمصالحه الذاتية. فلقد أعلن رئيس الوزراء آبي أحمد عن سعيه للحصول على ميناء في أكتوبر 2023، باللجوء إلى خرائط تعود إلى مملكة أكسوم في القرن الثالث لدعم المطالبات الإقليمية الإثيوبية بموانئ البحر الأحمر على ما يُعرف الآن بالأراضي الإريترية. فلقد كان الساحل الإريتري الحالي تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية لمدة ثلاثة قرون قبل أن يسقط في أيدي مصر، التي كان لها وجود في ميناء مصوع الرئيسي منذ عام 1865 حتى منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر. وبموجب معاهدة هيويت لعام 1884 بين إثيوبيا ومصر وبريطانيا، تم ضمان “الوصول الحر إلى ميناء مصوع” لإثيوبيا.

ومع ذلك، وقع الميناء تحت الاحتلال الإيطالي الذي استمر حتى سيطر البريطانيون عليه في عام 1941 وأداروه حتى عام 1952. وادعى الإمبراطور هيلا سيلاسي الأول، الذي حكم إثيوبيا لأكثر من أربعة عقود بدءًا من عام 1931، أن لهم احقية في أرض الصومال الإيطالية السابقة وما يُعرف اليوم بإريتريا بناءً على روابط تاريخية مزعومة. ومع ظهور الولايات المتحدة كقوة عالمية رائدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، شجعت مكانة إثيوبيا كحليف رئيسي للولايات المتحدة، الأخيرة على دعم مطالباتها بإريتريا، التي ضمتها، وهذا وضعها أخيرًا في حيازتها. ولكن في حين اعتبرت إثيوبيا أن إريتريا إقليمًا ضائعًا يعود إلى وطنه الأم، فقد ذكر الإريتريون أن ذلك يشكل انتهاكًا لحقوقهم والمطالبة بإنهاء الاستعمار وتقرير المصير. وبحلول عام 1991، تركت حرب الاستقلال الإريترية، إثيوبيا دون وصول مباشر إلى البحر، إلى أن تم اعلان استقلال إريتريا عام 1993.
ومع تزايد عدد السكان في إثيوبيا وتعثر الاقتصاد، وجدت حكومة إثيوبيا أن الوضع الراهن غير مقبول. وزعم آبي في خطابه في أكتوبر 2024: “بحلول عام 2030، سيبلغ عدد سكان إثيوبيا 150 مليون نسمة… ولا يمكن لسكان يبلغ عددهم 150 مليون نسمة أن يعيشوا في سجن جغرافي”، لذلك فإن مسألة من يسيطر على البحر الأحمر تشكل جوهر الجغرافيا السياسية في المنطقة، فقد دفعت التنافسات في حقبة الحرب الباردة على أحد أكثر الممرات المائية حساسية في العالم العديد من القوى إلى إنشاء قواعد بحرية في البحر الأحمر. فقد أنشأت الولايات المتحدة مثل هذه المواقع في ميناء بربرة، في حين أنشأ السوفييت سابقًا قواعد منافسة في الموانئ والجزر التابعة لإريتريا. وفي أعقاب نهاية الحرب الباردة، شهدت المنطقة صعود العديد من الجهات الفاعلة الجديدة، بما في ذلك دول الخليج. وقد أدت المصالح المتباينة بين دول الخليج إلى تعقيد العلاقات بين الدول في المنطقة، وخاصة فيما يتعلق بالموانئ البحرية.

والواقع أن السياسة الخارجية لإثيوبيا كانت مدفوعة جزئيًا بالمخاوف بشأن السيطرة على البحر الأحمر ونفوذ بعض الدول هناك. وبالتالي أصبحت إريتريا ونضالها من أجل الاستقلال مجرد بيادق في الصراع على السيطرة على البحر الأحمر. ولقد أدى انضمام السودان وجيبوتي والصومال إلى جامعة الدول العربية إلى تعميق تصور إثيوبيا للتهديد من هذه البلدان. كما عزز إنشاء مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن بقيادة السعودية في يناير 2020، باستثناء إثيوبيا، هذا التصور. ويبدو أن هذا كان أحد العوامل التي أدت إلى تجدد سعي إثيوبيا للحصول على ميناء وإنشاء وجود عسكري على الساحل لتعزيز موقفها في صراع السيطرة على البحر الأحمر.
وفي هذا الإطار، أصدر معهد الشؤون الخارجية الإثيوبي عام 2024، وثيقة بعنوان “الاستراتيجية الرئيسية للجسمين المائيين: حوض النيل والبحر الأحمر”، والتي تشير إلى أن مياه النيل والبحر الأحمر يلعبان دورًا محوريًا في استمرارية أمن وسيادة إثيوبيا، وتقدم منظورًا تاريخيًا حول التعاون بين الحبشة قديمًا وملوك أوروبا خلال حقبة الحروب الصليبية لتنفيذ مشاريع السيطرة على التجارة في البحر الأحمر. وتوصي الوثيقة بالتنمية المشتركة لأحواض المياه الإثيوبية عبر ربطها معًا بواسطة سدود جديدة، وتحويل مسارات بعض الأنهار، وتطوير القدرات العسكرية الإثيوبية، وضرورة الحصول على منفذ بحري يتيح الوصول للبحر الأحمر. ومن ثم تسعى إثيوبيا إلى إنشاء قاعدة بحرية في أرض الصومال، على ساحل خليج عدن، لذلك وقع الطرفان مذكرة تفاهم بالفعل، وافقت بموجبها أرض الصومال على تأجير جزء من ساحلها لإثيوبيا للاستخدامات البحرية والتجارية. وفي المقابل، وعدت أديس أبابا بإجراء “تقييم متعمق” للاعتراف بدولة المنطقة المنفصلة. وستكون أول دولة تفعل ذلك.

وقد أثار الإعلان إدانة شديدة من الحكومة الفيدرالية الصومالية، التي ترى أرض الصومال جزءًا لا يتجزأ من أراضيها. في الواقع، لا يخاطر الاتفاق بإشعال فتيل صراع بين أديس أبابا ومقديشو فحسب، بل يهدد أيضًا بتمكين حركة “شباب المجاهدين” الإرهابية. في حين أن الموقع الدقيق للقاعدة المخطط لها غير واضح، فإن مثل هذه الخطوة من شأنها أيضًا أن تمنح إثيوبيا نفوذًا على البحر الأحمر وواحدة من أكثر نقاط الاختناق أهمية لحركة المرور البحري العالمية، مما يمنحها نفوذًا جيوسياسيًا كبيرًا ويعزز طموحاتها للنفوذ العالمي. كما يمكن أن تضع دولًا أخرى على البحر الأحمر، مثل مصر والسودان وإريتريا وجيبوتي والصومال والمملكة العربية السعودية واليمن، في وضع غير ملائم على الصعيد الجيو ستراتيجي.
وعلى الرغم من التقارب لتوحيد الصومال من خلال الاتفاق والبيان الصادر في أعقاب اجتماع بين رئيس “أرض الصومال” موسى بيهي عبدي والرئيس الصومالي حسن شيخ محمود في جيبوتي في 28 ديسمبر من العام الماضي. حيث اتفق مسؤولو الجانبين على استئناف المناقشات الدبلوماسية وتنفيذ الاتفاقات السابقة وحل النزاعات الجارية وتعزيز التعاون في مجال الأمن والجريمة المنظمة. وبينما كان الاتفاق واعدًا في البداية، رغم ما أثاره من توترات، حيث يرى بعض سكان أرض الصومال أن الاتفاق الذي أشار إلى الإقليم المنفصل باسم “المناطق الشمالية” بدلاً من “جمهورية أرض الصومال”. ثم جاءت مذكرة التفاهم مع إثيوبيا الاتفاقية الثانية لتبدد محاولات توحيد الصومال. فلقد اعترضت الصومال بشدة على مذكرة التفاهم. وترى الحكومة الصومالية أن هذه الاتفاقية تشكل انتهاكًا لسيادتها وسلامة أراضيها، ودعت إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الوزراء لمناقشة هذا التطور.

وقد أثارت الاتفاقية أيضًا ردود أفعال بين الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى. فقد ترى دول مثل جيبوتي، التي تعمل حاليًا كميناء رئيسي للتجارة الإثيوبية، هذا الأمر على أنه تحول في ديناميكيات التجارة الإقليمية. وقد تنظر دول مجاورة أخرى إلى هذه الخطوة باعتبارها عاملًا مزعزعًا للاستقرار في منطقة القرن الإفريقي المضطربة بالفعل، لذلك فإن التداعيات السياسية لمذكرة التفاهم هذه واسعة النطاق، ولا تؤثر فقط على الأطراف المباشرة المعنية ولكن أيضًا على منطقة القرن الإفريقي الأوسع وما وراءها. كما تسلط الضوء على تعقيدات السياسة الإقليمية، حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية والاستراتيجية مع قضايا السيادة والاعتراف.

وختامًا، تتطلع إثيوبيا للوصول إلى البحر منذ استقلال إريتريا عام 1993، مما ترك إثيوبيا بدون خط ساحلي واعتمدت على جيبوتي للوصول إلى الموانئ. وقد وصف آبي مراراً وتكراراً مسألة الوصول إلى البحر الأحمر بأنها مسألة وجودية بالنسبة لبلاده، وتستحق إجراء محادثات مع إريتريا. وأمنيًا، ترى أديس أبابا أن فقدانها لمنفذ بحري خاص بها، جعل جيشها يقتصر على قوات برية وجوية دون امتلاك قوات بحرية فاعلة، كما يحرمها من الملاحة في المحيطات والاستفادة من المشروعات البحرية، فضلًا عن خضوع استيرادها لمعدات عسكرية وأمنية حساسة لموافقة جيبوتي مما يضعف السيادة.

وتسعى إثيوبيا لتلافي تكرار تجربتها مع الموانئ الإريترية، فضمن الاتفاق على انفصال إريتريا، حصلت أديس أبابا على حق استخدام ميناء عصب دون دفع رسوم جمركية، ومن خلاله كانت تمر 75% من تجارة إثيوبيا الخارجية، ولكن مع اندلاع الحرب الإثيوبية الإريترية 1998-2000، توقف استخدام إثيوبيا لميناء عصب، ولجأت إثيوبيا لاستخدام ميناء جيبوتي. ولكن على القيادة الإثيوبية أن تتحلى بالمسئولية الإقليمية والدولية تجنبًا لحدوث أية توترات في منطقة القرن الإفريقي، وألا تنتهج سياسة الكيل بمكيالين فيما يتعلق بالحقوق التاريخية، خاصة وأن إثيوبيا لديها خيارات متعدّدة للوصول إلى البحر بطرق تُعزّز الثقة والسلام والتعاون الأمني والتنمية في منطقة البحر الأحمر.

د. مصطفى عيد إبراهيم

خبير العلاقات الدولية والمستشار السابق في وزارة الدفاع الإماراتية، وعمل كمستشار سياسي واقتصادي في سفارة دولة الإمارات بكانبرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى