البراجماتية الصينية .. لماذا تغيب بكين عن المشهد السوري؟
رغم التحولات السريعة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط،- فلا يزال موقف الصين غير متناسب مع مصالحها الكبيرة في المنطقة، وإن كانت هذه المصالح تصنف كمصالح أساسية، ولا يتماشى مع مكانتها الدولية كدولة كبيرة مسؤولة، وهذا ينعكس في تصريحات المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماو نينج، والتي أكدت بأن: “مستقبل ومصير سوريا يجب أن يحددهما الشعب السوري، ونأمل أن تتمكن جميع الأطراف المعنية من إيجاد حل سياسي لاستعادة النظام المستقر في أقرب وقت ممكن على أساس مبدأ المسؤولية عن المصالح الأساسية طويلة المدى للشعب السوري”.
ويجعلنا هذا الموقف نطرح بعض التساؤلات حول المصالح الصينية في سوريا وهل يمكن للوضع الخطير الحالي -والذي لا يمكن التنبؤ بتداعياته على سوريا أو الأمن الإقليمي في ظل عدم وجود رابح أو خاسر بشكل مطلق- التأثير على المصالح الصينية في المنطقة؟.
الرؤية الصينية للمشهد السوري
لا يعني الصين سقوط بشار الأسد بقدر ما يعنيها “ما بعد بشار”، حيث أن هناك انقسامات في العلاقة بين الجماعات السورية المناهضة للحكومة، وباعتبارهما أهم قوتين مسلحتين سوريتين مناهضتين للحكومة، فإن “هيئة تحرير الشام” و”الجيش الوطني السوري” لم تكن بينهما علاقة متناغمة طويلة الأمد، وتحدث صراعات وتناقضات بينهما من وقت لآخر. وعلى الرغم من وحدة الهدف، وهو مهاجمة قوات الحكومة السورية، إلا أن الصراعات قد تنشأ مرة أخرى بعد العملية العسكرية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا الكبرى مثل احتلال أراض جديدة، والاستيلاء على الممتلكات الحكومية، والتخطيط للسياسات المستقبلية، وهذا ما يجعل هناك احتمالات لاشتعال الخلافات الداخلية من جديد.
وقد تنشأ صراعات جديدة بين القوات المناهضة للحكومة المدعومة من تركيا من جهة والقوات الكردية السورية من جهة أخرى، فقبل انهيار الحكومة السورية، كان لديها وقوات المعارضة والأكراد السوريين زخم “ثلاثي الأرجل”، ولكن مع التغيرات الجذرية في الوضع السوري وسقوط بشار الأسد، تأمل القوات الكردية السورية أيضًا في توسيع مناطق سيطرتها جنوبًا، مما يثير شكوك تركيا والقوات المناهضة للحكومة التي تدعمها، لذلك في المستقبل، قد تواجه القوات المسلحة الكردية السورية صراعًا جديدًا عاجلاً أم آجلًا مع القوى والجماعات المسلحة السورية. وعلى وجه الخصوص، تلتزم الفصائل السورية المسلحة بشكل عام بالمثل الدينية والسياسية، وقد أصبحت علاقتها مع قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية، التي تلتزم بالعلمانية، متوترة على نحو متزايد، وقد لا يمكن تجنب الصراعات المستقبلية.
وثالث تلك العوامل من منظور الصين، أنه قد تنشأ تناقضات وخلافات جديدة بين الأطراف المعنية بالشأن السوري، فسرعان ما استولت الجماعات المسلحة بدعم من تركيا على السلطة، مما أعطى تركيا ميزة كبيرة في لعبتها مع إيران وروسيا بشأن القضية السورية. ومع ذلك، تحتاج تركيا أيضًا إلى الاهتمام بديناميكيات القوات الكردية في سوريا والتوسط في العلاقات داخل معسكر المعارضة السورية، ناهيك عن الدور الإيراني والإسرائيلي والروسي والأمريكي والتركي.
المصالح الصينية في سوريا: تحليل من منظور شامل
سوريا ليست مهمة للصين من منظور مصالحها الأساسية في المنطقة، ولكن تفاقم الوضع في سوريا سيؤثر بشكل كبير على هذه المصالح، فالساحل السوري (اللاذقية وطرطوس) لا تلعب دورًا حيويًا في مبادرة الحزام والطريق الصينية وليست سوريا شريكًا اقتصاديًا للصين، ما يُنتظر من دور لبكين في إعادة إعمار سوريا، ما هو إلا هراء.
وعند النظر إلى خريطة مبادرة الحزام والطريق الصينية، سنلاحظ بأن سوريا ليست على هذه الخريطة سواء الطريق البري أو البحري لهذه المبادرة. فقد وقع الأسد على مبادرة الحزام والطريق في عام 2022. وهذا لا يتعلق فقط بالاستراتيجية التي انتهجتها الكثير من الدول لعزل سوريا دوليًا وإقليميًا، ولكن الأهم أيضًا البراجماتية التجارية الصينية في المنطقة والقائمة على مصالحها الأساسية، والتي لا تعتبر سوريا محورًا أساسيًا أو ذات دور مؤثر فيها.
وعلى سبيل المثال، من عام 2005 إلى عام 2024، كان هناك فقط أربع صفقات استثمارية للصين في سوريا، تقدر بحوالي 4 مليارات دولار، وكلها بدأت قبل الحرب الأهلية. وعلى الرغم من تصريحات المسئولين الصينيين بعد عام 2017، بأن بكين سوف تسرع من التعاون التجاري بين البلدين، إلا أن حجم التبادل التجاري هذا انخفض نحو 17٪ على أساس سنوي ويبلغ حاليًا أقل من 400 مليون دولار أمريكي. وفيما يتعلق بنهج الصين في التعامل مع القضايا الأمنية الإقليمية في المنطقة من منظور الانخراط الناعم القائم على المساعدات في سياق خريطة “إعادة الاعمار”، فإن بكين قد تعهدت مسبقًا بتقديم 2 مليار دولار ولكن وفقًا للبيانات الرسمية، لم يتم تسليم سوى 100 مليون دولار بالفعل.
فالقلق الأساسي لبكين في سوريا، أولًا؛ هو أن الحرب ستمتد وتزعزع استقرار البلدان التي تمتلك الصين فيها هذه المصالح الأساسية والتي تتداخل مع مصالحها الحيوية في مجال أمن الطاقة ودوره في تأمين التنمية الاقتصادية المستدامة ومن ثم أمن النظام الصيني.
ويتعلق القلق الثاني أيضًا بالأويجور، حيث أن هناك أكثر من خمسة آلاف شخص قد ذهبوا للقتال إلى بعض الجماعات المسلحة في سوريا مثل “هيئة تحرير الشام”، وتصفهم الصين بالإرهابيين.
وقد يقول البعض إن بكين كانت المظلة التي تحمي الأسد، ويربطها به علاقات قوية، ولكن أين بكين من دعم النظام اقتصاديًا؟، فوفقًا لبيانات البنك الدولي، انخفضت قيمة الليرة السورية بشكل حاد بنسبة 141% مقابل الدولار الأمريكي في عام 2023، في حين تشير التقديرات إلى أن تضخم أسعار المستهلكين قد ارتفع بنسبة 93%، كما أدى تخفيض الدعم الحكومي إلى تفاقم الصعوبات المعيشية للناس العاديين. ومنذ النصف الثاني من عام 2023، ارتفع معدل التضخم الاقتصادي في مناطق الحكومة السورية حينها بشكل سريع. ووفقًا لتقرير برنامج الغذاء العالمي، فإن الحد الأدنى لتكلفة المعيشة في سوريا قد تضاعف تقريبًا مقارنة بالعام الماضي. وأدى ارتفاع معدلات البطالة وارتفاع الأسعار وانخفاض الأجور، فضلًا عن الصعوبات طويلة الأمد في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إلى تآكل ثقة الجمهور في الحكومة.
وباعتباره جزءًا عضويًا من المجتمع، فإن ضباط وجنود الجيش من الرتب المتوسطة والأدنى وعائلاتهم لم يستطيعوا الهروب من التأثير السلبي للصعوبات الاقتصادية على كثير من الشعب السوري. بالنظر إلى تركيز أكثر من 50% من السكان الذين يعانون من الفقر المدقع في ثلاث محافظات، وهي حلب وحماة ودير الزور، وتقع هذه المحافظات الثلاث في مقدمة منطقة الصراع السوري.
والقلق الثالث، قد يبدو للبعض منا ولاسيما المتخصص في الشأن الصيني بأن بكين قد تجد صعوبة في التعامل مع سوريا بعد سقوط بشار، ولا سيما أن عقيدتها الخارجية تقوم على مبدأ احترام سيادة الدول وعدم الاعتراف بالفواعل من غير الدول. ومع ذلك، كانت الصين أول من تعامل مع حركة طالبان بعد سقوط الحكومة المركزية، نظرًا لأهمية أفغانستان الجيوسياسية والجيواقتصادية بالنسبة لبكين. وفي المقابل لا تمثل سوريا هذه الأهمية لها، وبالتالي ستتبع الصين النهج التقليدي لسياستها الخارجية المتمثل في عدم التدخل الذي يقوم على نهج “استراتيجية الانتظار واغتنام الفرص”، وهذا سيجعلها من مؤخرة الدول التي ستعترف بشرعية الحكومة الانتقالية في سوريا. فالصين ستنتظر حتى يهدأ الوضع، وإذا تمكنت سوريا من ترتيب بيتها الداخلي، فسوف تهنئ الصين من يتولى السلطة. ولكنها لن تشارك في إعمار سوريا، حيث كانت قد أطلقت على الجماعات المسلحة التي تسيطر على الوضع في سوريا حاليًا بأنها إرهابية لارتباطها كما ذكرنا مسبقًا بالأيجور، ناهيك عن أمر آخر وهو أن الصين لا تزال خبرتها الدبلوماسية والاستراتيجية في التعامل مع القضايا الأمنية الإقليمية للمنطقة ضعيف، ويعزى ذلك إلى عدم الرغبة في الانخراط في هذه المنطقة أمنيًا، حتى لو تضررت مصالحها دون المساس بأمن الطاقة. فعلى سبيل المثال، أطلقت الصين منذ عام “موجة المصالحة” القائمة على الوساطة البناءة بين السعودية وإيران، لتقليل فتيل الصراع في المنطقة، وفي سياق النفوذ الإقليمي الذي كانت تتمتع به إيران في المنطقة عن طريق وكلائها، وهذا ما جعلها توقع أيضًا في نفس العام شراكة استراتيجية مع سوريا.
وأخيرًا، من منظور العقيدة الصينية لمبدأ السيادة، فإن الدولة التي تعتمد على تأمين “أمن النظام” عن طريق الوكلاء، لا يمكن أن تواصل الحفاظ على هذا النظام، حيث أن سيادتها قد انتهكت ومحتمل سقوطها في أي وقت، وهو ما حدث بالفعل.