العقل الجمعي .. كيف رأى العرب تطورات المشهد السوري؟

رغم أن الوضع الجيوبوليتيكي السوري معقد ومتشابك منذ الحصول على الاستقلال وحتى تفرد حزب البعث السوري بالحكم لمدة تزيد عن النصف قرن، إلا أن التطورات التي أعقبت أحداث 2011 قد زادت من درجة التعقيد، حيث تزاحم في المشهد جماعات مسلحة وإرهابية ولم تفلح محادثات جنيف أو مفاوضات أستانا 2017 أو مفاوضات سوتشي في خروج سوريا من أزمتها السياسية بسبب تمسك بشار الأسد بالبقاء في السلطة. وتنامت القوى المعارضة المسلحة المختلفة مثل “الجيش الوطني السوري” و”أحرار الشام” و”فيلق الشام”، فضلًا عن القوات التابعة للكرد وبعض الجهاديين الأوزبك والأفغان والباكستانيين وبعض الإرهابيين من العديد من دول العالم.

ارتباك العقل الجمعي العربي

إن انهيار نظام بشار الأسد وبما يتعارض مع شخصيته التي ظلت تناور وتوظف كل أدواتها من أجل البقاء في الحكم، تعد أمرًا محيرًا ويزيد من ارتباك العقل الجمعي العربي فضلًا عن ارتباك الدولة وسلوكها السياسي لمعظم دول المنطقة. فلقد تعرض الأسد – كما تعرض والده من قبل- لتحديات جسام خاصة في أعقاب انتفاضة 2011 وتخلى عنه وزراء وسفراء وتعرض بعض وزراءه المهمين لحوادث تفجير أودت بحياتهم. كما تم محاصرته إقليميًا ودوليًا وتم تمويل ودعم فصائل معارضة مسلحة متعددة داخل أراضي سوريا جعلت من نظامه مشلولًا ولا يستطيع أن يبسط سلطته على أرجاء الدولة السورية. وبعدها ناور “بشار الأسد” ووظف معظم هذه الآليات لصالح استمرار نظامه واستطاع بالفعل أن ينجو وأن يفتح نوافذ داعمة من الروس والإيرانيين والذين أنقذوا النظام من الهلاك، وهو الأمر الذي يستدعي المقارنة والقياس عما حدث هذه المرة ولماذا تم التضحية بنظام بشار في أقل من أسبوعين وتمكينه من الفرار والخروج الآمن للاستقرار هو وعائلته في روسيا وفق ما أعلنه الكرملين مؤخرًا.

وفي هذا المشهد المعقد، ينبغي أولًا أن نشير إلى ما شهده السياق الإقليمي والدولي من تغيرات كبيرة لم تكن متواجدة في الفترة الأولى والتي تتمثل في الحرب الروسية الأوكرانية و”الاتفاقيات الإبراهيمية” و”طوفان الأقصى” وانهيار البنية التحتية العسكرية لحزب الله، وهي أمور أدت إلى ازدياد ارتباك العقل العربي الجمعي وبما يزيد من درجات التشكك في إمكانية التوصل لحالة استقرار وبناء مؤسسات دولة وطنية سليمة في أسرع وقت ممكن وبما يبعده عن تكرار حالة الوقوع في الدولة العاجزة أو الدولة الفاشلة وصولًا إلى التقسيم كما في حالات عدة ببعض الدول العربية.

وتعد حالة الإرباك للعقل العربي الجمعي وبما يشهده من انقسام وتناحر وإقصاء وتكفير وتخوين والاعتقاد شبه الكامل في نظرية المؤامرة مماثل لمشهد ارتباك الدولة وحالات التقسيم الجغرافي القائم على العرق أو الدين، إن لم يكن يفوقه لأنه هو الذي يؤدي إلى فاعلية وتنفيذ التقسيم الجغرافي. فالتقسيم والارتباك العقلي هو الذي يؤدي التقسيم الجغرافي وشرذمة الدول.
فالعقل الجمعي المرتبك مازال لا يعي الفارق الرئيس بين المؤامرة وبين التخطيط الاستراتيجي من أجل تحقيق مصالح الدول المختلفة، فخطة برنارد لويس أو كونداليزا رايس أو غيرهم ما زال العقل الجمعي يتعامل معها في إطار نظرية المؤامرة… رغم أن المؤامرة تشير إلى أمر غير معلن، في حين أن هذه الخطط معلنة ومنشورة ولم يكن هناك أي خطط مناوئة للتعامل معها، بل على العكس يتم التماهي والعمل من أجل تحقيقها ومن هنا تنشأ إشكالية في التفكير الاستراتيجي القائم على درء التهديد وجلب المصالح.
كما أن العقل الجمعي تزداد درجات ارتباكه في التعامل مع المشهد السوري وهو يرى جماعات جهادية بمرجعيات دينية ومصنفة إرهابية يتم مساعدتها على تسلم السلطة في سوريا وبأريحية تامة ومن خلال اتفاقات وتفاهمات مبهمة ولا يستطيع العقل الجمعي التوصل لها إلا عبر استنتاجات أو تسريبات وإشاعات تزيد من درجة ارتباكه وتتماشي مع آفات التحليل من هوى وتحيز وانتقاء واجتزاء وبما يجعل الفرد نقطة ضعف في منظومة الدولة وليس نقطة قوة يتم الارتكاز عليها من أجل النهوض بالدولة الوطنية.
إن ارتباك العقل الجمعي يقع فريسة لحالة الاستقطاب المريرة بين أنصار التيارات الدينية التي ترى ما يحدث في سوريا انتصارًا لها وتهدد بأن ذلك بداية وليس نهاية وأن دولًا أخرى ستشهد ما تشهده سوريا، وما بين تيارات علمانية ترى انتكاسة ما يحدث في سوريا وأن ما حدث مؤامرة لصالح إسرائيل والقضاء على “محور المقاومة” والتي يراها تيار الوسط أنها إعلاء لقيمة المقاومة على قيمة الانسان ذاته. وفي خضم هذا المشهد المعقد يزداد العقل الجمعي ارتباكًا ويزيد من ضعفه في إمكانية بناء دول حديثه في المستقبل.
وليست الدول ذاتها ببعيدة عن مشهد الارتباك لما حدث في الساحة السورية، فبعد دعوة بشار الأسد لحضور القمة العربية التي انعقدت في الرياض، تم الإطاحة به وبما يعكس غياب حالات التقدير الاستراتيجي للمشهد، وغياب الشفافية عن الصفقة التي توصل إليها نظام بشار الأسد برعاية بعض الدول الإقليمية والدولية مع المعارضة المسلحة من أجل الخروج الآمن وتمكين تلك المعارضة من الوصول إلى مقاليد الحكم في سوريا، وهنا يطرح هذا الوضع تساؤلًا؛ هل تم هذا بالفعل؟ ولماذا السرية في ذلك؟ ولماذا سارعت بعض الدول عبر وزراء خارجيتها بالاتصال ودعم نظام بشار الأسد إذا كان الاتفاق قد تم على خروجه؟، كما أن المتابع لوسائل الاعلام في المنطقة العربية يشهد حالة ارتباك في التعامل مع المعارضة المسلحة التي وصلت بالفعل للحكم وما بين انهيار نظام بشار، ويرجع هذا بالطبع إلى نظام بشار نفسه الذي كان قادرًا على توظيف المتناقضات لصالح استمراره في الحكم وبما يصعب من موقف دول المنطقة في التعامل معه.

وأخيرًا، ومن هنا يزداد ارتباك الدول في التعامل مع المشهد. فهناك من يرحب بانهيار هذا النظام الذي استعان بإيران وجلبها للتدخل في الشئون العربية وزاد من مساحات تواجدها في الشأن العربي عبر “حزب الله”، وهناك من يرى في ذات الوقت أن انهيار نظام “آل الأسد” هو انهيار للمقاومة والوقوف بوجه إسرائيل على الرغم أنه لم يواجه إسرائيل منذ عام 1973.

د. مصطفى عيد إبراهيم

خبير العلاقات الدولية والمستشار السابق في وزارة الدفاع الإماراتية، وعمل كمستشار سياسي واقتصادي في سفارة دولة الإمارات بكانبرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى