الرابحون والخاسرون من انهيار نظام بشار الأسد

تطرح تطورات المشهد في سوريا والانهيار السريع لنظام بشار الأسد تساؤلات حول مستقبل الفاعلين الدوليين في سوريا وما يمثله المشهد الجديد من مكاسب أو خسائر لكافة القوى العربية والدولية، خاصة مع تنامي التواجد العسكري لروسيا وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية في سوريا؛ حيث تتواجد 12 قاعدة عسكرية تركية إضافة إلى 114 نقطة مراقبة عسكرية، وتتواجد القوات الأمريكية في 17 قاعدة عسكرية تساندها 15 نقطة مراقبة عسكرية، أما روسيا فلها 12 قاعدة عسكرية ونحو 93 نقطة مراقبة عسكرية إلى جانب نحو 52 موقعًا إيرانيًا داخل سوريا، إضافة الى الموقع الجغرافي للبنية التحتية للطاقة في سوريا لأنها بمثابة عنق زجاجة حيوي بين إفريقيا وآسيا وأوروبا ورغم أن سوريا ليست لديها احتياطيات كبيرة من الطاقة، بل إنها تعد ممرًا جغرافيًا مهم بين الشرق وأوروبا.

الفاعلون الدوليون وحسابات الربح والخسارة

نظرًا للمشهد الجيوبوليتيكي السوري بالغ التعقيد وتعدد الفواعل من الدول ومن غير الدول، وارتباك العقل الجمعي وارتباك السلوك السياسي للدول، فإنه لا يوجد فائزين على نحو مطلق أو خاسرين على نحو مطلق. بل الكل ربما خرج فائزًا، والكل خرج خاسرًا، ولكن بنسب مختلفة وربما تتغير الموازين النسبية لهذه النسب كلما مر الوقت واتضح المشهد أكثر فأكثر. فإسرائيل التي تعد الفائز الأكبر دومًا من الصراعات بالمنطقة. سارعت بضم أراضٍ سورية بما يعادل 60٪ من مساحة غزة في يوم واحد ودون إطلاق رشقة رصاص واحدة. كما أن ترجيحات التوصل لاتفاق سلام دائم مع لبنان وسوريا في ثوبها الجديد واردة بدرجة عالية وبما يعلى درجة التواجد الإسرائيلي وإعادة هندسة العقل العربي الجمعي لصالح التعاون والتعامل مع إسرائيل في إطار استراتيجية السلام والاقتصاد من أجل السلام وتناسي الشعارات الأخرى مثل الأرض مقابل السلام. أما عن خسائر إسرائيل فهي تكمن فيما أعلنه نتنياهو من عدم قبول أي أحد ضدها في الجوار وهو ما يعني احتمالية ظهور تيارات مناوئة لها سنية بديلة عن حزب الله وهو ما لن تسمح به إسرائيل.

أما روسيا الاتحادية والتي تجمعها صداقة باستراتيجية بعائلة الأسد، والتي اعتمد عليها نظام بشار كرئة صناعية لاستمراره في الحكم منذ عام 2015، فلقد تخلت عن بشار ولم يقم طيرانها بملاحقة المعارضة المسلحة كما فعلت من قبل واكتفت بالتعامل الإنساني وتمكين خروج آمن لبشار وعائلته مقابل تمكين المعارضة المسلحة من السيطرة على مقاليد الأمور في سوريا. وتكمن مكاسب روسيا بالتأكيد في التوافق مع إسرائيل على تحييد إيران في سوريا وفي تحييد الدور الإسرائيلي في ملف أوكرانيا وربما الإطاحة بزيلينسكي في انتخابات أوكرانيا القادمة في 2025 من أجل تمهيد الطريق للتوصل لتسوية سياسية مرضية لكل الأطراف التي أنهكتها الحرب في أوكرانيا وكذلك استمرار التواجد العسكري الروسي في سوريا وخاصة على مياه المتوسط الدافئة. أما عن الخسائر فتكمن في اهتزاز الثقة بها كحليف استراتيجي للأنظمة المختلفة وربما تحول النظام السياسي القادم في سوريا إلى طرف مناوئ للتواجد الروسي في سوريا.
وعلى صعيد تركيا، فإن لديها مصلحة راسخة في حل الصراع لتسهيل عودة اللاجئين السوريين المتواجدين على أراضيها، وتشمل أولويات أردوغان في تأمين حدود تركيا والتي تصل لأكثر من 911 كم ومواجهة الميليشيات الكردية في شمال سوريا، وأن تسيطر أنقرة على نحو 8800 كيلو متر مربع من الأراضي السورية. أما الخسائر المحتملة فتكمن في شكل الكيان الكردي في شمال سوريا ومدى احتمالية تحوله إلى نوع من إقليم “كردستان سوريا”، أو أن الأمر سيذهب في اتجاه صراع دموي مع تركيا التي تنظر بقلق شديد نحو قوات سوريا الديمقراطية “قسد” لأنها ترى فيها قاعدة إسناد خلفية لحزب العمال الكردستاني التركي (PKK) الذي يمزج بين النزعة اليسارية والقومية ويصارع في الدولة التركية منذ تأسيسه عام 1978.

أما عن إيران، فان مكاسبها تكون في خانة الاحتمال أكثر من كونها في خانة المحقق، فإيران قد خسرت حزب الله في لبنان وخسرت تواجد حليف لها في سوريا وخسرت ثقة حلفائها ووكلائها في المنطقة بعدم قدرتها على حماية نظام بشار الأسد والذي استثمرت فيه الكثير على مدار عقود. في مقابل مكاسب قد تطمح لها في مفاوضات مقبلة مع المعسكر الغربي واحتمالية رفع بعض القيود الاقتصادية وربما تقديم أوراق اعتماد جديدة لإدارة ترامب القادمة في يناير القادم حتى لا يفقد النظام الإيراني قدراته على مواجهة الداخل في ظل أزمات اقتصادية وحصار المتشددين في البرلمان للرئيس الإصلاحي المنتخب. ثم يظل المشهد السوري في المستقبل ضبابي مع إيران، فكيف سيتعامل النظام السوري في ظل حضور “أحمد الشرع” مع “حزب الله”؟، وهل سيستمر الأخير في تواجده كجبهة إسناد أم يتم التخلي عنه تمامًا؟، ولذلك فالمتابع للإعلام الإيراني يراه قد خفف من لغته الاعلاميه تجاه فصائل المعارضة والتي يصفها بالميليشيات بعد أن كان يصفها بالإرهابيين.

أما عن ملف غزة والقضية الفلسطينية، فحقيقة الأمر أن نظام بشار استطاع أن يوظف القضية الفلسطينية والتصدي لإسرائيل على نحو كسب من خلاله التيار القومي والناصري في الدول العربية، وذلك رغم أنه لم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل، كما أنه لم يستطع الرد ولو لمرة واحدة على الانتهاكات الإسرائيلية للأراضي السورية. ولكن الأوضاع الجديدة ربما تقلب الميزان تمامًا، وفي هذا السياق نشير إلى تواجد بعض التنظيمات الفلسطينية المسلحة المتواجدة مع المقاتلين في سوريا مثل الجبهة الشعبية القيادة العامة والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وفتح الانتفاضة وغيرها، إضافة إلى تواجد حركة الجهاد الإسلامي عبر مكاتبها وقواعدها في سوريا، وهنا يثور التساؤل الذي ستجيب عنه قادم الأيام، هل سيقوم النظام الجديد في سوريا بتصفية تلك المكاتب أم سيطلب منها الاستمرار والعمل بالمقاومة؟ وهل سيُسمح لحركة حماس بالعودة الفاعلة للساحة السورية؟ أم أن التطبيع مع إسرائيل سيكون بوابة مرور “الشرع” إلى الإقليم والعالم للاعتراف به ورفعه من قوائم الإرهاب.
أما عن الدول العربية، فلسنا أمام موقف موحد أو واضح من التطورات الراهنة في سوريا، وأن المسيطر بالفعل هو حالة الإرباك العقلي الجمعي التائهة بين مدلولات كلمة مشروع تارة لإسرائيل وتارة لتركيا ومن قبلها لإيران، مع فقدانه الثقة في تواجد مشروع عربي والتسليم لنظرية المؤامرة المعلنة. والتحدث عن المشروع كلمة مستساغة في العقل الجمعي في الدول العربية دون تفكيك أركانها من التعرف على نقاط القوى والضعف في الدولة والفرص والتهديدات ومناطق الفراغ الاستراتيجي وسبل ملئها والتنسيق التنافسي التعاوني وليس العدائي بين الدول العربية والاتفاق على الحد الأدنى من مصادر التهديد وتعزيز المصالح المشتركة وهو ما يؤدي إلى غياب المقياس الموحد لمعرفة مكاسب الدول العربية وخسائرها من انهيار النظام السوري، وإن كان أهم المكاسب لبعض الدول العربية وخاصة الخليجية ينحصر في التضييق على التواجد والتمدد الإيراني في المنطقة وانحسار مشروعها الأيديولوجي الذي حرصت علي تحقيقه منذ عام 1979، إلا أنها في ذات الوقت تتوجس من وصول تيارات دينية إلى سدة الحكم في تجربة مكررة ولها تداعياتها السلبية على الأمن الخليجي وأمن المنطقة.
أما عن الولايات المتحدة الأمريكية، فهي المايسترو الذي يحرك قطع الشطرنج في المنطقة، والتي تؤكد عبر كافة الأحداث التي تمر بها المنطقة أنها ما زالت اللاعب الرئيس بها، لدرجة أنه لم يسمع أي صوت للصين على سبيل المثال، كما وقفت أوروبا في خانة المتابع للأحداث. وتمسك الولايات المتحدة بخطوط الترغيب والتهديد، ولعلها وهي تعلن أنها تراقب بحذر التطورات الجارية فهل تقامر بورقة التنظيمات الدينية مرة أخرى في المنطقة بعد أن جربتها في أفغانستان؟، ويظل المهم بالنسبة لها أمن إسرائيل وأمن الطاقة والحد من التنافس الصيني والروسي وعدم الانخراط المكلف، ثم بعد ذلك تأتي أولويات أخرى مثل أمن الخليج والحفاظ على استقرار بعض الدول لدواعي خاصة مثل ملف الهجرة والأقليات الدينية. ومن ثم فهي كدولة عظمي لا تعد المكاسب والخسائر في الملف السوري غير ذي أهمية الا من خلال تأكيد ما سبق الإشارة اليه.

د. مصطفى عيد إبراهيم

خبير العلاقات الدولية والمستشار السابق في وزارة الدفاع الإماراتية، وعمل كمستشار سياسي واقتصادي في سفارة دولة الإمارات بكانبرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى