حضور صيني.. ما أهمية ليبيا في أجندة التنافس الاسترتيجي؟
عادت الصين وبقوة مرة أخرى إلى ليبيا بعدما قامت بالانسحاب الاقتصادي منها إبان أحداث 2011 وما صاحبها من حالة عدم الاستقرار بالبلاد، حيث تستغل الصين في ذلك حاجة البلاد لإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية، فالصين تسعي لجعل ليبيا بوابتها الاستراتيجية للدخول إلى إفريقيا مستغلة الفراغ الذي خلفته الدول الغربية في أفريقيا بالآونة الأخيرة، ومن ثم تسعى نحو زيادة نفوذها بالقارة وكسب ميزة استراتيجية بها من خلال عودة تواجدها بليبيا مرة أخري، وتأسيسًا على ما سبق يمكن طرح تساؤل حول دوافع التحركات الصينية الأخيرة تجاه ليبيا ومدي تأثيرها على النفوذ الأمريكي بالبلاد؟
عودة جديدة
شهدت الفترة التي سبقت أحداث 2011 شراكة صينية – ليبية ضخمة في عدة قطاعات، فكانت تسيطر 75 شركة صينية على 50 مشروعًا ضخمًا في ليبيا بقيمة تعاقدية تجاوزت 20 مليار دولار شملت قطاعات النفط والبناء والسكك الحديدية والاتصالات “وفقًا لتقديرات وزارة التجارة الصينية”، وعلى الرغم من ذلك تغير الوضع بعد أحداث 2011 ما دفع الصين لتبني مواقف تتسم بالحذر تجاه التطورات التي شهدتها البلاد منذ اندلاع الأحداث، ثم توقفت الاستثمارات الصينية هناك بعد مداهمة بعض الشركات وإصابة العشرات من العمال الصينيين ما دفع بكين إلى التحرك بسرعة لإجلاء مواطنيها من الاضطرابات بالبلاد، ومع تدهور الوضع الأمني علقت الصين الاستثمارات الجديدة وقامت بسحب المستثمرين بليبيا. وعلى الرغم من ذلك ظهرت خطوات جديدة تعبر عن رغبة الصين في العودة من جديد إلى ليبيا في الآونة الأخيرة والعمل على استعادة التعاون السياسي والاقتصادي بين البلدين واستئناف عمليات التعاقد القديمة وعودة العلاقات الثنائية بين البلدين فكان ذلك من أهم القضايا التي نوقشت في مايو 2024 عندما زار رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية المؤقتة “عبد الحميد الدبيبة” الصين على هامش المؤتمر الوزاري العاشر لمنتدي التعاون الصيني – العربي.
مصالح متبادلة
يتميز التواجد الصيني في ليبيا بالتركيز على الجانب الاقتصادي والتنموي وذلك بشكل تدريجي متجنبًا التدخل بشكل مباشر في الشؤون السياسية الداخلية للدولة الليبية، إذ تتعامل الصين مع كافة الأطراف الليبية المتنازعة بطرابلس وبنغازي، حيث تقدم بكين نموذجًا تنمويًا يركز على البنية التحتية والمشاريع الضخمة، وهو ما يلبي احتياجات ليبيا في مرحلة السعي نحو إعادة الإعمار وتحقيق التنمية. وفي المقابل تحقق الصين من خلال ذلك عدة مصالح، فالتواجد الصيني يعزز من المصالح المتبادلة بين البلدين ويمكن إجمالها في الآتي:
(*) مصالح صينية: إن التواجد الصيني في ليبيا يدعم وضع الصين كلاعب عالمي رئيسي وراعٍ دولي ملتزم بالتنمية والاستقرار الدوليين.
إن مشاركة الصين في إعادة إعمار ليبيا والعودة لها من جديد تتوافق مع مصالحها وزيادة نفوذها في البحر المتوسط وشمال إفريقيا على حساب الدول الغربية والولايات المتحدة مستغلة انشغال تلك الدول بالتطورات الجيوستراتيجية الأخيرة بالمنطقة، حيث تعد ليبيا جسرًا استراتيجيًا للتمدد نحو العمق الإفريقي.
إن موقع ليبيا عند مفترق طرق إفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط يجعلها بوابة لتعزيز أهداف مبادرة الحزام والطريق الصينية.
توفر ليبيا للصين مصدر هام وغني بالموارد الطبيعية والنفط بسبب احتياجات الصين المتزايدة من الطاقة، ومن ثم تعزيز أمن الطاقة الصيني في إفريقيا، فالصين قد تكون على استعداد لتولي المخاطر والمساعدة في إعادة بناء البلاد مقابل الوصول إلى النفط.
(*) مصالح ليبية: تحتاج ليبيا لإعادة الإعمار والانتقال إلى ما بعد الصراع وإعادة الحياة إلى طبيعتها والعمل على إنهاء دائرة العنف السياسي. ويعزز الوجود الصيني من قدرة ليبيا على المناورة في علاقاتها الدولية ما قد يقلل من النفوذ السياسي الأمريكي بالبلاد.
تقدم الصين بديل اقتصادي لليبيا عن الشركات الغربية خاصة في ظل تردد الكثير من الشركات في الاستثمار بالبلاد بسبب الوضع الأمني غير المستقر، وتستفيد ليبيا من الصين على صعيد الاستيراد والتصدير ما يعود بالفائدة على الاقتصاد الليبي.
وتحاول جميع الأطراف المتنازعة بطرابلس وبنغازي تعزيز شرعيتهم بالبلاد من خلال السعي لعقد المحادثات مع الجانب الصيني.
سباق نفوذ
يستمر سعي الصين إلى زيادة نفوذها مستخدمة في ذلك الآلية الاقتصادية حتي تتمكن من التغلغل الناعم داخل الأراضي ذات الأهمية الاستراتيجية بالنسبة لها، وتعد ليبيا المنطقة الأكثر أهمية وديناميكية للتنافس الاستراتيجي والمناورة في منطقة حوض البحر المتوسط، فعودة الصين إلى ليبيا تمثل تحد استراتيجي هام للنفوذ الأمريكي بتلك المنطقة، وعلى الرغم من ذلك فإن تحركات الصين في ليبيا قابلها بعض الجمود في الموقف الأمريكي نظرًا لانشغاله بالتطورات الأخيرة بالمنطقة، فأصبح الحضور الأمريكي أقل فاعلية في التصدي للتمدد الصيني والروسي في القارة الإفريقية، ويرى بعض المحللين أن الصين تنتهج في إفريقيا بشكل عام وليبيا بشكل خاص نهجًا ظاهره أخلاقي يهدف للتنمية وإعادة الإعمار، وباطنه مبن على توسيع رقعة المصالح السياسية والاقتصادية في إفريقيا انطلاقًا من ليبيا، كما أن الصين قد تخطط لكي تحتمي وراء أذرع روسيا العسكرية بليبيا وفيلقها الإفريقي من أجل حماية استثماراتها ووجودها بإفريقيا حتى تتمكن من تحقيق طموحاتها السياسية بليبيا دون دخولها في صراعات مباشرة.
وفي المقابل سعت الولايات المتحدة أيضًا لتعزيز تواجدها في ليبيا بالآونة الأخيرة، حيث شهدت الساحة الليبية المزيد من التحركات الأمريكية على المستويين السياسي والعسكري من خلال البعثات والتمثيليات خاصة في ظل صعوبة عملية التسوية في ليبيا، حيث أدركت الولايات المتحدة أن غيابها الدبلوماسي المباشر عن ليبيا قد ترك المجال لبعض القوى الدولية كالصين وروسيا لتعزيز مصالحها بليبيا وتهديد النفوذ الأمريكي هناك.
وختامًا وبعد إعلان فوز “دونالد ترامب” في الانتخابات الرئاسية الأمريكية فإن الإدارة الأمريكية الجديدة تمتلك عدة ملفات ذات أولوية أبرزها الملف الاقتصادي، ومن ثم رأي بعض المحللين أن الملف الليبي سيكون جزءًا من أولوياتها بحسب الترتيب والأهمية، وقد يتميز نهج “ترامب” بالتركيز على الحد من التصعيد وتجنب الحروب وعليه فقد تسعي إدارته إلى المساهمة في حل الأزمة الليبية بشكل يخدم المصالح الأمريكية، حيث يرجح الخبراء عودة الدور الدبلوماسي الأمريكي في الملف الليبي بقوة أكبر بما يسهم في استقرار البلاد ما يضمن استمرار إمدادات الطاقة بمنطقة الشرق الأوسط خاصة في ظل إستمرار الصراعات بها، فـ” ترامب” ينظر إلى ليبيا بإعتبارها فرصة لتحقيق مكاسب استراتيجية بالمنطقة، وعليه ففي هذا السياق من المتوقع أن يواجه “ترامب” تحديًا في التصدي للنفوذ الصيني المتزايد بالمنطقة بشكل عام وليبيا بشكل خاص ومن ثم سيسعى لاحتواء النفوذ الصيني المتزايد بالبلاد.