ما موقع “زنغزور” في الصراع الجيوسياسي بجنوب القوقاز؟
يشكل ممر” زنغزور” مسألة شديدة الحساسية بالنسبة للخارطة الجيوسياسية في جنوب القوقاز، حيث تنظر إليه بعض دول المنطقة، باعتباره مسألة إستراتيجية، ومن الضروري استكماله بينما تراه دول أخرى بمثابة تهديد إستراتيجي لمصالحها بمنطقة جنوب القوقاز، وقد جاء الدعم الروسي المُعلن غداة تصريحات أطلقها وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” مطالباً بتفعيل بنود اتفاق إطلاق النار بين أذربيجان وأرمينيا خصوصا الشق المتعلق بافتتاح ممر” زنغزور”،- بمثابة ضربة جيوسياسية لها العديد من العواقب السلبية علي المصالح الإيرانية بجنوب القوقاز، وفي المقابل سيكون الممر بمثابة فرصة جديدة لكلاً من تركيا وأذربيجان لتعزيز نفوذهما بالمنطقة.
تأسيسا على ما تقدم، يتطرق هذا التحليل إلى موقع ممر “زنغزور” في الصراع الجيوسياسي بجنوب القوقاز، وتداعياته وتحديات المستقبلية.
تعارض مصالح:
يهدف مشروع ممر” زنغزور” إلي ربط أذربيجان مباشرة بجمهورية “ناختشيفان” المتمتعة بالحكم الذاتي، وذلك من خلال وسائل النقل البرية والسكك الحديدية التي سيتم إفتتاحها في هذه المنطقة، وعليه يعد هذا الممر بمثابة نقطة اتصال تربط بين أذربيجان وتركيا مباشرة، حيث تعتبر أذربيجان الناطقة بالتركية والغنية بالنفط وموارد الطاقة حليفة تركيا الرئيسية في المنطقة، وترجع أهمية هذا الممر لكلاً منهما لأسباب جيوسياسية واقتصادية. فقد أكد “أردوغان ” في بعض تصريحاته، أن بلاده تريد استخدام “زنغزور” و”لاتشين” كممرين للسلام، وأنه يجب حل هذه المشكلة دون صراع، فضلاً عن أن هذا الممر بمثابة تعويض لتركيا عن خسارتها للممر الهندي الذي يقام برعاية أمريكية.
وعليه، ووفقا للخبراء فلإن ممر “زنغزور” يعزز من النفوذ التركي في المنطقة، خاصة أنه يربط تركيا برياً بدول آسيا الوسطي ذات العرق التركي وصولاً إلي إقليم “شينجيانغ” الذي تقطنه أغلبية من الإيغور التركية شمال غربي الصين، وعلي النقيض نجد أن إتمام هذا الممر يمثل ضربة قاسمة لإيران ونفوذها بمنطقة القوقاز، حيث أنه من المحتمل أن يدخل إيران في عزلة عن أوروبا لقطع هذا الممر الطريق الرابط بين إيران وأوروبا عبر أرمينيا. وبالتالي، قد يحرم هذا الممر إيران من أحد منافذها إلي أوروبا ومن ثم محاصرة إيران جغرافياً باحتلال الشريط الحدودي بين إيران وأرمينيا، الأمر الذي يخالف توجه الحكومة الإيرانية الجديدة وعزمها فتح قنوات مع العالم الغربي لحلحلة قضاياها الشائكة. هذا بالإضافة إلى الانعكاسات السلبية لـ”زنغزور” على الاقتصاد الإيراني الواقع تحت وطأة العقوبات الغربية، خاصة وأنه وفقا للمرقبين، فإن الدور الإستراتيجي لإيران في نقل البضائع الأذربيجانية إلي “ناخيتشيفان” وصادرات إيران إلي هذه المنطقة سيتراجع بشكل كبير، ما يجعل إيران معتمدة علي تركيا وأذربيجان من أجل الاتصال بالدول الأوروبية. وإذا كان “زنغزور” يضر بمصالح إيران، إلا أنه سيعزز من النفوذ الأذربيجاني بمنطقة جنوب القوقاز، ما قد يؤثر بالأساس علي توازن القوي في المنطقة لصالح أذربيجان علي حساب إيران، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من حدة الخلافات بين البلدين التي تجمعهما خلافات حدودية، هذا فضلاً عن العلاقات الأذربيجانية مع إسرائيل العدو الأول لإيران، وكذلك مع تركيا المنافس الإقليمي، ما سيعزز بدوره من النفوذ الإسرائيلي طول الحدود الشمالية لإيران، وكذلك من النفوذ التركي بالمنطقة، ما سيفقد إيران احدي أوراقها للضغط في تنافسها مع دول القوقاز.
رعاية روسية:
تحدث الرئيس الروسي ” فلاديمير بوتين ” أثناء زيارته إلي أذربيجان في أغسطس الماضي عن حق “باكو” في امتلاك ممر بري يربطها بإقليم “ناخيتشيفان ” عبر الأراضي الأرمينية، وانتقد وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” سياسة أرمينيا الرافضة لتنفيذ اتفاق المعابر والممرات لعام 2020، فهذا يعد دليل علي رغبة روسيا في مباركة ورعاية هذا المشروع، الأمر الذي آثار ضجة في الأوساط الإيرانية التي عدت موقف الحليف الروسي طعنة قوية وغادرة بالنسبة لها.
ويرى بعض المراقبين أن السعي الروسي لحلحلة ملف ممر” زنغزور”، يأتي في سياق تداعيات الحرب في أوكرانيا، ومن ثم بحث روسيا عن مخرج يمكنها من الالتفاف علي العقوبات الغربية التي تضيق الخناق علي اقتصادها وسعيها لفتح أسواق جديدة للاقتصاد الروسي، ومن ثم البحث عن نقطة نفوذ جديدة بالمنطقة عبر جنوب القوقاز، ساعية بذلك نحو تحقيق مصالحها فقط بغض النظر عن أي اعتبارات أخري. ويأتي المواقف الروسية الداعمة لأذربيجان، من أجل الضغط علي أرمينيا لقربها من الناتو، وكذلك التوجه الإيراني نحو الغرب والانفتاح عليه بعد تولي الحكومة الإصلاحية الجديدة التي تسعي لبدء مفاوضات مع الغرب، خاصة بشأن الملف النووي الإيراني. وعليه، فإن التحركات الروسية في جنوب القوقاز، تأتي لاحتواء السياسات الغربية التوسعية بتلك المنطقة، وتطويق طهران بشكل كلي من جانب تركيا وأذربيجان، واستخدام الممر كوسيلة للضغط علي إيران، وتجاهل الخطوط الحمر لإيران في السياسة الإقليمية. كما أنه قد تسعي روسيا من خلال رعايتها ودعوتها لإتمام هذا المشروع إلي تواجد قواتها لتأمين الممر بناءاً علي مطالب الدول الداعمة له، ما سيمكنها من إيجاد موطئ قدم جديدة لها بالمنطقة، الأمر الذي سيعزز من تحقيق الهدف الروسي بحجة تأمين الممر، فهذا كله هذا سيصب في النهاية في مصالح روسيا ويعمل علي تعزيز نفوذها بالمنطقة.
تحديات راهنة:
نجد أن هناك ثمة تحديات تقف كعائق أمام إتمام إنشاء هذا المشروع من أبرزها ما يلي:
(*) موقف طهران: هناك معارضة شديدة من قبل الجانب الإيراني لإتمام هذا المشروع، حيث تقف طهران ضد أي تغيير في الجغرافيا السياسية للمنطقة، وعليه ستحاول إيران بشت الطرق العمل علي عرقلة إقامة هذا الممر علي حدودهها، ما سيؤدي إلي تأجيج الوضع، وقد ينذر بإشعال حرب تنخرط فيها أطراف إقليمية.
(*) الاضطرابات المعلقة بين أرمينيا وأذربيجان: هناك مهددات قائمة للصراع الأرميني – الأذربيجاني، على هذا المشروع، فمن غير المرجح أن يكون هناك توافق علي إنشاء الممر، دون أن تكون هناك عملية سلام شاملة بين البلدين.
(*) الخلاف على الإشراف والإدارة: الحفاظ علي أمن الممر يعد أولوية لأنه سيصبح مركزاً للأنشطة الاقتصادية، وعلي الرغم من ذلك، فإن طريقة تأمين الممر، ستصبح مصدراً جديداً للتوتر، فجمهورية أرمينيا لن توافق علي إشراف ووصاية جمهورية أذربيجان وتركيا علي هذا المعبر الموجود في أراضيها .
وختاماً، يمثل ممر “زنغزور” بؤرة صراع جديدة ليس فقط بين دول منطقة جنوب القوقاز، فحسب بل أيضاً بين الدول الكبرى التي تتسابق للحصول علي المزيد من النفوذ، وتحقيق مصالحها بغض النظر عن مصالح غيرها من الدول، فالممر يشكل ميزة إستراتيجية لبعض الدول، ويكون بمثابة تهديد إستراتيجي لدول أخري، وعلي الرغم من ذلك فإن إتمام هذا الممر يواجهه العديد من العوائق التي من الممكن أن تجعل إقامة هذا الممر أشبه بالمستحيل.