ظاهرة مقلقة.. كيف غيرت حرب غزة طبيعة التظاهرات الجماهيرية في الغرب؟
اجتاحت موجة من التظاهرات عددًا من الدول الغربية داعية لوقف إطلاق النار في غزة بالتزامن مع استمرار أعمال القصف الوحشي الإسرائيلي، منتقدة أيضا موقف الحكومات الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ودعمها للعدوان الإسرائيلي على غزة، فكانت المرة الأولى تقريبا التي تخرج فيها احتجاجات بهذا الكم مناصَرة لقضية إسلامية وعربية. ولهذا، دفعت هذه الاحتجاجات بدورها الحكومات الغربية إلى تغيير موقفها نسبيا أيضا من دعم العمل العسكري الإسرائيلي بشكل مطلق إلى التحرك الدبلوماسي والسياسي للتوصل إلى هدن إنسانية وإدخال المساعدات، ومن ثم الدعوة إلى وقف للحرب.
فماذا تعكس هذه المظاهرات ؟، وهل ستستمر ظاهرة التعاطف مع القضية الفلسطينية بهذا الشكل أم أنها مؤقتة ستنتهي بانتهاء الحرب؟، وما إذا كانت في الأصل ظاهرة وليدة الحرب الأخيرة أم أنها تشكلت من قبلها؟.
انعكاسات هامة
وفقا لمشروع بيانات مواقع النزاع المسلح ACLED ))، شهد العالم أكثر من 3700 مظاهرة مناصرة لفلسطين خلال شهر فقط منذ السابع من أكتوبر؛ منها 600 مظاهرة في الولايات المتحدة و170 مظاهرة في ألمانيا و1400 مظاهرة في الشرق الأوسط، وتحديدا منذ توزيع الجيش الإسرائيلي منشورات تحذيرية لسكان شمال غزة بإخلاء المنطقة في 13 أكتوبر الماضي. ورغم أنها ليست المرة الأولى التي يحتج فيها الرأي العام الغربي دعما للفلسطينيين، إلا أن الاحتجاجات الأخيرة كانت لافته بصورة كبيرة باعتبارها دشنت لبروز ظواهر جديدة تخللتها، يأتي أهمها على النحو التالي:
(-) مشاركة الشباب على نطاق واسع: الاحتجاجات الأخيرة على حرب غزة شهدت مشاركة واسعة من فئة الشباب، أو من يطلق عليهم ” جيلz”، ففي الولايات المتحدة، شهدت مدينة نيويورك الأمريكية عدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين، قادها عدد كبير من الشباب ومن خلفيات متنوعة، متوشحين بالكوفية الفلسطينية ومطالبين بتحرير فلسطين ووقف الدعم الأمريكي لـ” الدولة العبرية “، كما رفعوا لافتات تتهم إسرائيل بارتكاب ” إبادة جماعية ” و” الفصل العنصري ” بحق الشعب الفلسطيني. كما أن هناك بعض الجمعيات الداعمة لفلسطين وتمثل فئة الشباب، مثلا طلاب من أجل العدالة في فلسطين ( SJP ) وهي مجموعة طلابية في الولايات المتحدة ولها أكثر من ٢٠٠ فرعا داخل الجامعات، وتنظم حملات ومظاهرات ضد إسرائيل وحملات لمقاطعة الشركات الداعمة لها، حتى أنها تتعاون مع جمعيات أخرى مثل الصوت اليهودي من أجل السلام ( JVP )، وهي جمعية يسارية يهودية معادية لإسرائيل.
استطلاعات الرأي تظهر فجوة واضحة بين الناخبين الشباب وتعامل إدارة بايدن مع الحرب، ففي استطلاع للرأي أظهرته شركة كونيباك أن ٥١٪ من الناخبين ممن هم دون سن الـ ٣٥ عاما لا يتفقون مع الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل، وفي استطلاع رأي آخر لشبكة CBS الأمريكية، فإن نحو 59% من المستطلعة آرائهم لا يؤيدون إرسال أسلحة إلى إسرائيل ممن هم دون ال ٣٠ عاما، إلى جانب معارضة ٦٤% ممن هم بين عمر ال 30 وال 44 عاما أيضا لدعم إسرائيل.
كما انتشرت التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية مثل جامعة كولومبيا وكورونيل وبنسلفانيا وجامعة في كانساس، لدرجة دفعت مجلس النواب الأمريكي لاستدعاء بعض رؤساء هذه الجامعات في ديسمبر الماضي، بتهمة سوء التعامل مع الاحتجاجات المعادية للسامية، مثل رئيسة جامعة هارفارد ورئيسة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
وفي استطلاع رأي أجرته صحيفة نيويورك تايمز بالتعاون مع كلية سيينا اتضح أن الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و29 عاما ( المؤيدين للديمقراطيين ) أكثر انتقادا للإدارة الأمريكية وإسرائيل، ووفقا لاستطلاعات رأي أجراه مركز الدراسات السياسية الأمريكية بجامعة هارفرد وهاريس، فإن 60% يرون أن هجوم حماس مبرر كحركة مقاومة، كما يفضلون إنهاء إسرائيل، لأنهم يعتبرون وجودها في الأصل غير شرعي، فيما يفضل 32% فقط حلالدولتين.
وبمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني في 29 نوفمبر، شهدت بعض الجامعات والمدارس البريطانية احتجاجات لوقف المجازر في غزة التي ترتكبها إسرائيل، مما استدعى إدارات بعض الجامعات إلى تنبيه الطلاب إلى الامتناع عن المشاركة في أي مظاهرة داعمة لحماس.
حدثت احتجاجات أيضا في بعض الجامعات الألمانية طالبت بوقف الحرب ووصفت ما يحدث في غزة على أنه ” إبادة جماعية ” للسكان، إلا أن إدارة الجامعات والشرطة كانت تمنع الطلاب عن التظاهر وارتداء الوشاح الفلسطيني أو ترديد الشعارات الداعمة لفلسطين مثل ” من النهر إلى البحر “، كما تدخلت الشرطة الألمانية لفض تظاهرة في جامعة برلين الحرة، احتشد فيها الطلاب تعبيرا عن رفضهم الحرب على غزة، وحتى مُنع رفع العلم الفلسطيني من شرفات المساكن الجامعية، كما حدث في الجامعة الأمريكية الألمانية في برلين.واعتبر طلاب جامعة برلين للفنون أن موقف إدارة الجامعة ” ليس باسمنا ” كطلاب.
في فرنسا تظاهر طلاب جامعة تولوز جان جوريس في مدينة تولوز الفرنسية للتعبير عن تضامنهم مع غزة، رافعين لافتات مكتوب عليها ” لا شيء أكثر نفاقا من الحكومات الإمبريالية التي تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن النفس “، كما طالبت سبع منظمات طلابية بوقف الهجمات على غزة ودعت للتظاهر. كما حذر معهد اللغات والحضارات الشرقية الفرنسية الطلاب والأساتذة من إظهار الدعم لفلسطين وتوعدهم من خلال رسائل إلكترونية بالعقوبة التي قد تصل إلى الطرد. كذلك جامعة لوزان في سويسرا، التي احتج طلابها حتى على زيارة ماكرون للبلاد بعد موقفه من حرب غزة في نوفمبر الماضي.
فوفقا لحوارات أجرتها وسائل الإعلام مع بعض الشباب أكدوا خلالها إنهم ” يتعرفون على القضية الفلسطينية من وسائل التواصل الاجتماعي والكتب ومتابعة الوثائقيات “، ولهذا يرفضون دعم حكومتهم لإسرائيل، فالجيل الأصغر لم يتربَ على الدعاية الأمريكية ولا يتفق مع ما تقوله حكومته، لأنهم يرون على أرض الواقع ما يدور في غزة. ووفقا لآراء بعض الشباب، فهم لم يكونوا يعرفون كثيرا عن الصراع العربي الإسرائيلي، ولهذا تغيرت آرائهم بعد أقل من شهر على الحرب بعد رؤية الرد الإسرائيلي، فجيل Z لا يعرف إسرائيل إلا وهي تحت حكم اليمين المتطرف الذي يحاصر الفلسطينيين.
وفي هذا الإطار، برزت منصتا إنستغرام و تيك توك خلال حرب غزة بشكل واضح، حيث غالبية المشاركين من الشباب والمراهقين، وقادت حملات مناصرة للفلسطينيين تحت شعار freepalestine# الذي حقق ٣١ مليار مشاركة، مقارنة بوسم standwithisrael# الذي حقق ٥٩٠ مليون مشاركة، بعد تدفق لانهائي لمقاطع الفيديو والصور التي تجسد معاناة الفلسطينيين.
وبدأ المؤثرون أو ما يعرف ب ” الإنفلونسرز ” ينقلون صورة مغايرة أمام الشباب والرأي العام عموما عن القضية الفلسطينية وما يحدث حقيقة في غزة، مثل المؤثر الأمريكي جاكسون هينكل الذي وصفته إسرائيل بـ ” عدو إسرائيل على الإنترنت “، ويبلغ من العمر 24 عاما.
(-) العامل النوعي: لم تقتصر المشاركة في المظاهرات الداعمة لفلسطين على الرجال فقط، حيث شهدت مشاركة نسائية على نطاق واسع، كإحدى نتائج الخطاب المرئي الذي أظهرته صور وفيديوهات حرب غزة، التي تظهر نساء مسنات ينمن على قارعة الطريق في الشتاء القارس، وأم تبحث عن وليدها، ونساء يضعن حملهن في ظروف غير ملائمة، وأخريات تجرى لهن جراحات بدون مخدر، إلى جانب افتقاد نساء القطاع إلى المتطلبات الأساسية، وعفوية خطاب الأطفال الناجين من القصف والمصابين، وغيرها من المشاهد المأساوية، في ظل التعنت الإسرائيلي في ملف إدخال المساعدات. الأمر الذي شكل بدوره دافعا لمشاركة نسوية قوية في المظاهرات، انعكست أيضا في أحاديث قرينات القادة السياسيين عن معاناة نساء غزة مثل أمينة أردوغان والملكة رانيا وغيرها.
(-) بؤر التظاهرات: لم تكن احتجاجات الشعوب الغربية دعما للقضية الفلسطينية هي الأولى، إلا أنها لم تقتصر هذه المرة على احتجاجات الضواحي أو المناطق التي تسكنها الجاليات العربية والمسلمة. فالاحتجاجات التي خرجت في الولايات المتحدة انطلقت من المدن والولايات الكبرى مثل العاصمة واشنطن، ومدينة نيويورك التي يقطنها نحو ٩ مليون شخص منهم ٢ مليون يهودي، وأيضا شيكاغو وديترويت وفيرجينيا ومينيسوتا وغيرها، في حين تتركز أكبر الجاليات العربية في ولايات كاليفورنيا ومتشجن وفلوريدا وتكساس ونيويورك.
الأمر نفسه بالنسبة لألمانيا، حيث خرجت مظاهرات في العاصمة برلين ومدن كبرى مثل دوسيرلدورفوميونخ وإيسن وزيوريخ وشتوتجارت وبريميرهافن، بالإضافة إلى مدينتي فوربتال في ولاية شمال الراين – وستفاليا وهي أكبر ولاية من حيث السكان، ويتركز فيها القسم الأكبر من المسلمين، ودورتموند التي تتركز بها الجاليات.
وفي إيطاليا، شهدت مدينة روماوميلانولودي عددا من المسيرات التي تجمع آلاف المؤيدين لفلسطين. ففي بريطانيا أيضا اخترقت الاحتجاجات مناطق مختلفة وهامة من البلاد وتركيبات سكانية مختلفة وطريقة لم يشهدها العالم من قبل، بعدما اجتاحت الاحتجاجات العاصمة البريطانية لندنومدينة مانشستر وإدنبرة وجلاسكو، إلى جانب المظاهرات التي خرجت من المدن التي تتواجد بها الجاليات والمسلمين عموما، بينها برمنجهام مانشستر وبرادفورد.
وفي مدن برشلونة ومدريد وبيلباو وفالينسيا وتوليدو في إسبانيا.وبالنسبة لفرنسا، خرجت إلى جانب مدينة مارسيليا التي تحتضن جاليات عربية وإسلامية كبيرة مظاهرات متكررة في العاصمة باريس وبوردو وليون ومونبليه واستراتسبورج في الشرق. إلى جانب مظاهرات بوخاريست وستوكهولم وهلسنكي وبروكسل وأثينا ومدينة براباندوأرهوسفي الدنمارك.
(-) كثافة واستمرارية الاحتجاجات: وهو ما يتجلى في زيادة أعداد المتظاهرين بشكل ملحوظ، ففي 4 نوفمبر الماضي، شهدت العاصمة واشنطن أكبر مظاهرة منذ غزو العراق، حيث شارك فيها أكثر من ٣٠٠ ألف شخص.كما وصل عدد المشاركين في إحدى مظاهرات العاصمة البريطانية لندن إلى نحو نصف مليون شخص، فكانت أكبر مظاهرة داعمة لفلسطين في تاريخ بريطانيا. كما تجمع في مدينة زيوريخ الألمانية آلاف الرافضين لحرب غزة، رغم الحساسية التاريخية تجاه اليهود.
إلى جانب تواصل الاحتجاجات منذ أكتوبر الماضي وحتى الآن في المدن سالفة الذكر والجامعات، ففي يناير الماضي على سبيل المثال، قامت إدارة جامعة “ترير ” الألمانية بإزالة رسومات رسمها المتظاهرين على جدرانها تدعو إلى وقف الإبادة الجماعية، تحت ذريعة معاداة السامية. كما استمرت المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في باريس حتى فبراير الحالي، بالرغم من احتجاجات المزارعين في عدة دول أوروبية. وفي ألمانيا، استمرت المظاهرات المناصرة للقضية الفلسطينية والتي تدعو لوقف إطلاق النار في غزة بالتزامن مع احتجاجات أخرى على سياسات اليمين المتطرف ” حزب البديل ” تجاه الأجانب. والأمر نفسه بالنسبة للولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من العواصم الغربية.
مهددات جدية:
استنادا لما سبق، على ما يبدو أن الاحتجاجات الغربية غير المسبوقة على ما يجري في غزة قد تنذر بارتدادات سلبية فيما يتعلق بـ:
(*) الآلة الإعلامية: يتغير الرأي العام بوجه عام تجاه قضية معينة وفقا لـ ٣ محاور؛ هي الحقيقة والقيم والهوية، فكان للدبلوماسية الرقمية الشعبية الدور الأكبر في إظهار الحقائق بالنسبة للرأي العام الغربي مقارنة بوسائل الإعلام التقليدية، بما مثل صدمة للنموذج القيمي والمعرفي الغربي، فكان لهذا الأمر الدور الأكبر في الانقسام حول حرب غزة بين جيل Z والأجيال الأكبر. فبينما تركز اهتمام وسائل الإعلام الغربية عموما على السردية الإسرائيلية وتداول الروايات الكاذبة ( مثل ذبح الأطفال وإنكار قصف مستشفى المعمداني )، اتجه الشباب لمتابعة الأحداث من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، بشكل كشف الهوة بين الوسيلتين.
الأمر الذي دعا بعض وسائل الإعلام إلى الحفاظ على تناول متوازن للتطورات حتى يستقطب مجددا مشاهديه من الشباب، ودفع إعلاميين أيضا غربيين إلى تغيير لهجتهم وإظهار التعاطف مع الفلسطينيين مثل بوريس مورجان وغيره. إلا أن ذلك قد لا يكون كافيا من أجل استعادة المشاهدين من الشباب وغيرهم، وهو ما يضيف عبئا جديدا على الحكومات التي ستحاول الوصول إلى الشباب من خلال مواقع التواصل الاجتماعي أيضا، في ظل وجود مؤثرين يحرصون دوما على تقديم مادة تتماهي مع النموذج القيمي والمعرفي المستحدث لفئة الشباب تحديدا، وهو في الغالب قد لا يكون في صالح الحكومات.
(*) القاعدة الشعبية للقائد: حيث أصبحت اتجاهات الشباب الغربي هامة جدا من حيث التأثير في الصناديق الانتخابية، وإدراكا من السياسيين لخطورة هذا الأمر، بدأ يظهر سياسيون في وسط المظاهرات مثل جون لوك ميلونشون اليساري المعارض الفرنسي والحائز على المركز الثالث في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبدأت الحكومات تبدي نوعا من المرونة في التعاطي مع المظاهرات، ففي فرنسا وألمانيا تحديدا، فُرضت عقوبات وملاحقات أمنية على المتظاهرين في البداية، حتى تم التغاضي عنها بعد ذلك كوسيلة لتفريغ الطاقات حرصا على شعبيتهم وخوفا من تداعيات ذلك في الاستحقاقات المقبلة، خاصة وأن انتقادات المحتجين طالت الحكومات الغربية.
فعلى سبيل المثال، أقال ريشي سوناك وزيرة الداخلية بعد تصريحاتها العنصرية تجاه المتظاهرين، وحاولت بعض الدول الغربية التوسط للاتفاق على هدن إنسانية وإدخال المساعدات بل والدعوة إلى وقف إطلاق النار، حتى أن الرئيس الفرنسي وصف رد الفعل الإسرائيلي بأنه ” فقد شرعيته “، واقترح استضافة مؤتمر لدعم غزة.
(*) مستقبل إسرائيل: قد تحاول إسرائيل السيطرة والضغط باتجاه المادة الإعلامية الموجودة في وسائل التواصل الاجتماعي بين المؤثرين، من خلال التهديد أو الإغراءات المادية، وبما أن هؤلاء المؤثرين معظمهم من فئة الشباب، فإن مهمة إسرائيل قد تكون صعبة للغاية، نظرا لأن هؤلاء المؤثرين _ بالإضافة إلى قناعاتهم الشخصية _ إلا أنهم لن يغامروا بخسارة متابعيهم الذين هم مصدر كبيرلمكاسب مادية ومعنوية. الأمر الذي يمثل تهديدا لإسرائيل التي انفقت مليارات الدولارات من أجل كسب تعاطف الرأي العام الغربي والحكومات التي قد تتحفظ في إبداء دعمها لإسرائيل فيما بعد.
ووفقا لخبراء، فإن الشباب الغربي نظرا لأنه لم يشهد حروبا أو قضية حقيقية في الداخل أو الخارج، أصبح الآن في حاجة ماسة لقضية سامية يقف خلفها، وبما أن الأداة الإعلامية الغربية فشلت في تصدير الأزمة الأوكرانية كحرب حرية تلعب على وجدان الشباب الغربي، فإنها لم تستطع أن تمنع الشباب من التعاطف مع غزة وتأييد المقاومة، فأصبح الشباب يبحثون عن أيقونة تمثل هذه القضية فكانت رقصة الشاب الفلسطيني على الأغنية السويدية ” تحيا فلسطين ” والوشاح الفلسطيني، مثلماأصبحت صورة الملثم أبو عبيدة أيقونة جديدة لدى الشباب العربي.
ولهذا، فمن غير المرجح أن ينتهي هذا الموقف بنهاية الحرب على غزة، فما حدث من موجة معرفية هائلة ومفاجئة بواقع القضية الفلسطينية، ووجود وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر رئيس للمعلومة عوضا عن وسائل الإعلام التقليدية، ودعم مشاهير ذوي قاعدة شعبية هائلة للقضية الفلسطينية مثلما وقع مشاهير هوليود بيانا يطالبون فيه بوقف إطلاق النار، ستظل أصداء حرب غزة الحالية عالقة في أذهان الجيل الحالي على الأقل، وكل هذه المعطيات سيتم توظيفها مجددا من قبل مناصري القضية الفلسطينية دوما لإحياء القضية.
خاصة وأن ظاهرة التعاطف مع القضية الفلسطينية في الأوساط الغربية بدأت تتشكل منذ عقود، إذ نجد سياسيين غربيين يدعمون حل الدولتين مثل ساركوزي، واعتبرها مراقبون،نتيجة طبيعية لتصاعد اليسار الجديد في أوائل التسعينيات، وتحديدا الأمريكان من ذوي الأصول الأفريقية، مثل لجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية وحزب الفهود السوداء منذ 1967 ورابطة العمال السود الثوريين، ولهذا خرجت احتجاجات سابقة دعما لغزة في ٢٠١٤، وما يحدث حاليا امتدادا لذلك التعاطف. وبالتالي، من غير المرجح أن تموت، كل ما في الأمر أن قوة ظهورها هذه المرة جاءت نتيجة للقصف الإسرائيلي الوحشي والموقف السلبي للحكومات الغربية، بالتزامن مع وجود السوشيال ميدياالتي قد يستغلها مناصري القضية الفلسطينية في استمرار التعبئة فيما بعد.
في النهاية، يمكن القول إن هذه الظاهرة ستظل مستمرة وستظهر مع كل عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين، باعتبارها أجبرت بعض القادة ووسائل الإعلام الغربية على اتخاذ موقف متوازن في التعاطي مع الأحداث، خاصة وأن التضامن مع فلسطين ظهر بقوة في صفوف الشباب والمراهقين الذين هرعوا إلى وسائل التواصل الاجتماعي بحثا عن الحقيقة، رغم وفرة التصريحات والمعلومات من جانب المسؤولين الغربيين والإعلام أيضا، بما قد يؤشر إلى أن هؤلاء الشباب كانت لديهم شكوك في السردية التي يطرحها مسؤوليهم منذ البداية، حتى أن رفع جنوب أفريقيا دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية مما أسهم في تشويه صورة إسرائيل أمام الرأي العام الغربي.